الخميس , مايو 16 2024
شام تايمز
كيف أفلتت أوروبا من اجتياح المغول

لغز الانسحاب بعد النصر.. كيف أفلتت أوروبا من اجتياح المغول؟

يعرف الكثيرون فصول اجتياح المغول الكاسح للقارة الآسيوية، لكن ما قد لا يكون معلومًا على نطاقٍ واسع أن السيل التتاري الجارف قد انساب عبر السهل الأوراسي العظيم صوب شرقي القارة الأوروبية، مهيمنًا على معظم أراضي روسيا، وأوكرانيا، وبولندا الحالية، ومتوغلًا في أعماق المجر ورومانيا الحاليتيْن، ومندفعًا إلى قلب أوروبا، ولكن كان للأقدار كلمتها في كبح جماح هذا المد الذي كان لا يقهر.

شام تايمز

بهذه الجولة في التاريخ المغولي سنعود ما يقرب من ثمانية قرون إلى الوراء، وتحديدًا إلى النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي، لحظة الصعود الصاروخي للتتار، والذي تُوِّج بغزوة ساحقة لأوروبا، كان أحد أبرز فصولها الانتصار العسكري الساحق في معركة لغنيتسا التي وقعت يوم التاسع من أبريل (نيسان) من عام 1241 في أراضي بولندا الحالية.

شام تايمز

بعد التهام آسيا.. المغول يريدون أوروبا

توفي القائد المغولي التاريخي جنكيز خان عام 1227، بعد أن نشرت جيوشه النار، والرعب، والدمار في معظم أرجاء القارة الآسيوية؛ فتحتَ سنابك الخيول التتارية سُحقت كبريات الحواضر الآسيوية، مثل بُخارى، وسمرقند، وخوارزم… إلخ.

وترك جنكيز خان لأبنائه وأحفاده من القادة العسكريين أضخم إمبراطورية في ذلك الزمان بمساحة تقارب 28 مليون كم مربع، تمتد من شبه الجزيرة الكورية شرقًا إلى بحر قزوين والقوقاز غربًا، وقُسِّمت مناطق تلك الإمبراطورية بينَ أبنائه، على أن يدينَ الجميع بالولاء لخليفته الخان الأعظم أوغطاي خان بن جنكيز خان.

مضى أوغطاي خان بالتتار على سيرة والده جنكيز خان؛ فواصل الحملات التوسعية في كافة الاتجاهات، فركَّز في سنوات حُكمه السبع الأولى على تعزيز سيطرة التتار على مختلف أرجاء الصين، ونجح في ذلك بشكلٍ كبير، وبالتزامن مع ذلك نجح في تحسين الأوضاع الإدارية والاقتصادية في المناطق الآسيوية الخاضعة لسلطانه.

وبعد الاطمئنان إلى أحوال آسيا المغولية أصدر أوغطاي خان أوامره عام 1235 للجيوش المغولية بقيادة ابن أخيه باطو خان باجتياح القارة الأوروبية من شرقها، وكان التتار في أواخر عهد جنكيز خان عاميْ 1222 و1223، وفي غمرة تركيزهم الرئيس على السيطرة في آسيا شنُّوا غارة قوية على حوض نهر الفولجا وأراضي أوكرانيا، وتبيَّنوا نقاط ضعف تلك المناطق، وإن لم تكن الظروف مؤاتية في ذلك الوقت لشنَّ غزو عسكري أكثر استدامة.

وحينها انساب عشرات الآلاف من فرسان التتار عبر السهل الأوراسي العظيم، الذي يصل القارة الآسيوية بالأوروبية، مستفيدين أيضًا من اختراع البارود الذي حصلوا عليه باحتلالهم الصين، لينجحوا في فرض هيمنتهم على موسكو عام 1236؛ إذ سحق التتار مقاومة القبائل الروسية المحلية، وكذلك قبائل الكومان ذات الأصول التركية، في شمالي القوقاز، وأراضي أوكرانيا الحالية.

وفي كتابه «الهروب من روما: فشل الإمبراطورية والطريق إلى الازدهار – Escape from Rome: The Failure of Empire and the Road to Prosperity»، تحدث الكاتب والتر شيديل عن الغزو المغولي لشرقيّ أوروبا، مركزًا على أبرز محطاته، مثل اجتياح دوقية فلاديمير القريبة من موسكو عاميْ 1237و1238، وتدميرها، والقضاء على جيشها بشكل كامل، ثم تفرّق التتار إلى سرايا صغيرة اجتياحت معظم حواضر روسيا الغربية، باستثناء نوفوجورود في الشمال.

وفي هذه الأثناء تمكَّن التتار من تحقيق أحد أكبر فتوحاتهم شرقي أوروبا باحتلال كييف العاصمة الأوكرانية الحالية، وتدميرها في شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 1240؛ لتصبح الأبواب مفتوحةً على مصراعيْها أمامهم للنفاذ إلى قلب القارة الأوروبية.

كان يرافق باطو خان في تلك الغزوة المغولية بعض أبرز كبار قادة التتار العسكريين، وفي مقدمتهم سبوتاي، وأوردا، وبايدر، وكذلك بعض أحفاد جنكيز خان الآخرين، لاسيَّما أبناء الخان الحالي أوغطاي، والخانات التالين له مثل منكو خان، وجغطاي خان؛ مما جعل الغزو المغولي يتميز بكفاءة بالغة.

معركة لغنيتسا 1241.. انتصار خاطف للمغول

بعد إحكام السيطرة على أوكرانيا انفتحتْ أمام التتار أبواب بولندا والمجر، وكان الهدف الأبرز من ذلك التوسع هو الوصول لمملكة المجر، فهي العدو الأهم في تلك المنطقة، ولكي يتجنب التتار خطر اجتماع جيش أوروبي موحَّد ضدهم، قسَّموا قوة الغزو إلى جناحيْن، الأول وهو الأكبر، يتوجَّه إلى المجر، والثاني بقيادة الأميريْن بيدر وكادان، يغزو بولندا، ثم يلحق بالقوة الرئيسية للغزو جنوبًا بعد انتهاء مهمته في إخضاع البولنديين.

ويذكر والتر شيديل في كتابه «الهروب من روما» أن بولندا كانت تعاني من ضعفٍ شديد؛ فقد كانت الانقسامات الداخلية تعصف بوحدتها، وكانت تشمل على الأقل أربعة دوقيات شبه مستقلة، وكان التنظيم التيوتوني (وهو تنظيم رهباني عسكري) المسيطر على العديد من المقاطعات الألمانية، يفرض هيمنته على سواحل بولندا على بحر البلطيق.

وبالفعل اقتحمت القوات المغولية مملكة بولندا، وأعملت القتل والنهب في كافة أرجائها، حتى وصلت العاصفة المغولية إلى العاصمة البولندية كراكوف، والتي دُمّرَت وأُحرقَت بالكامل يوم 24 مارس (آذار) 1241، وانتشر الرعب والدمار في كافة أرجاء المملكة.

ورغم الظروف غير المؤاتية، والاحترابات الداخلية المُعيقة، نجح الدوق هنري الثاني المُلقَّب بـ«التقيّ» دوق منطقة سيليزيا الواقعة في أراضي التشيك الحالية، في تكوين جيشٍ قوامه 30 ألف مقاتل، ضمَّ بعض الفرسان المتمرسين في الحروب مثل التيوتونيين، والفرسان الصليبيين مثل فرسان المعبد والاسبتارية، وإن غلب عليه المُجنَّدون من الميليشيا الدفاعية المحلية والفلاحين البسطاء.

علمت استخبارات التتار أن ملك بوهيميا – في دولة التشيك الحالية – في الطريق لدعم البولنديين بجيشٍ قوامه 50 ألف مقاتل، فقرروا معاجلة جيش هنري الثاني فورًا في موقعة فاصلة، وبالفعل وقع الصدام بين الجيشيْن قرب بلدة لغنيتسا الواقعة جنوبيّ غرب بولندا الحالية يوم التاسع من أبريل عام 1241. وكان الجيش المغولي يقدر بحوالي 20 ألف مقاتل.

في بداية الموقعة اندفع فرسان التتار ذوو الدروع الخفيفة نحو موضع تمركز الملك هنري الثاني وحرسه الخاص، ثم ما لبثوا بعد برهة أن انسحبوا فجأة، فاندفع خلفهم الجزء الأكبر من فرسان الجيش البولندي لمطاردتهم.

وما أن ابتعد فرسان الجيش البولندي عن قواتهم البرية الرئيسة حتى اتضحت معالم الكمين المغولي القاتل، وأشعل التتار الأعشاب والحشائش في أرض المعركة خلف الفرسان البولنديين المُطاردين لفُرسانهم، فاحتقنَ الجوّ بعاصفة دخانية كثيفة، حجبت الرؤية بين الفرسان البولنديين المندفعين، وقواتهم البرية.

حاول الفرسان الأوربيون العودة إلى خطوطهم، لكن حجب الدخانُ عنهم الرؤية، وهناك انهمرت عليهم سيول كثيفة من الأسهم من طرف الآلاف من فرسان التتار ضاربي الأسهم، والذين كانوا من أبرز أعمدة النجاح العسكري المغولي، لكثافة سهامهم النيرانية، وكفاءتهم في الكر والفر، فتعرَّض الفرسان الأوربيون لخسائر فادحة، لاسيَّما أن التتار لم يكتفوا بالأسهم، وإنما قصفوهم أيضًا بنماذج بدائية من الصواريخ التي حصلوا عليها من الصين، والتي أضافت الفزع إلى الموت.

بالتزامن مع مصارع الفرسان الأوروبيين المعزولين، فوجئ المشاة البولنديون بفرسان التتار يلتفون ويهاجمونهم بضراوة من الخلف والأجناب، فتمزَّقت صفوفهم، وشرع الناجون من المقتلة في الهروب في كل اتجاه، لكن لاحقهم التتار بضراوة، وأفنوا المنهزمين عن بكرة أبيهم، وأُسر القائد البولندي هنري الثاني، وقُتل، ووضع التتار رأسه على رمح، وطافوا بها في المناطق المحيطة لكسر إرادة السكان المحليين.

في تلك الأثناء، وبعد يوميْن فحسب من موقعة لغنيتسا، أوقع التتار هزيمة ساحقة بجيش المجر في الحادي عشر من أبريل 1241 في موقعة موهي، رغم الكثرة العددية النسبية للمجريين وحلفائهم. وأصبحت أوروبا بالنسبة للمغول قطعةَ الجبن الفرنسية المليئة بالثقوب، وانكفأ القادة الأوربيون القريبون إلى بلادهم وأخذوا يقومون بأعمال التحصين على قدمٍ وساق، ولكن كان للأقدار كلمتها.

انسحاب مفاجئ.. لماذا تراجع المغول بعد انتصارهم؟

في ربيع عام 1242 ذُهِلت أوروبا بتوقف الغزو المغولي المفاجئ، كما ذُهلوا من قبل بغزواتهم الصاعقة. لكن لماذا انسحب التتار وتخلَّوْا عن مغامرتهم الأوروبية الظافرة في قمة عنفوانها؟ كان التفسير الأوسع انتشارًا في الكثير من المراجع التاريخية لهذا الحدث الفارق في تاريخ العالم، هو وفاة الخان الأعظم المغولي أوغطاي خان بن جنكيز خان؛ مما دفع قائد الغزو باطو خان بن جوجي خان بن جنكيز خان لأن يعود إلى العاصمة المغولية «قُراقورم» لكيْ يلعبَ دورًا في اختيار من سيخلف الخان الراحل أوغطاي.

لكن كانت هناك اعتراضات وجيهة على وجهة النظر تلك، من أبسطها أن باطو خان لم يعُد أبدًا إلى «قُراقورم»، إنما بقي متمركزًا في جنوبي روسيا، ثم ما لبث بعد سنواتٍ أن استقلَّ بالأجزاء الغربية من الإمبراطورية المغولية، وهي التي عرفت لاحقًا بدولة مغول القبيلة الذهبية.

وإلى جانب هذا قدمت تفسيرات عديدة لذلك الحدث، من أبرزها أن الغارة المغولية لم تكنْ تهدف إلى الاحتلال الدائم لشرق أوروبا، إنما لتأديب قبائل الكومان المقاومة للمغول، والتي فرَّت فلولُها بعد الهزيمة عام 1223 في موقعة نهر كالكا إلى مملكة المجر، وتحوَّل أكثر من 40 ألفًا منهم إلى المسيحية.

وهناك تفسير عسكريُّ آخر لتراجع الغزول المغولي، وهو انتشار الحصون في المناطق الأوروبية، ولم يكن التتار بارعين كثيرًا في حروب الحصار مثل براعتهم في ساحات المعارك المفتوحة، لكن أشارت دراسات معاصرة قوية الأدلة إلى أنَّ المناخ قد لعب أحد أبرز أدوار البطولة في انسحاب التتار من أوروبا.

إذ عانى فرسان التتار كثيرًا في مواجهة الوحل الربيعي الناجم عن ذوبان الجليد بعد انتهاء شتاء 1241-1242، فالجزء الشرقي من أوروبا كان قد شهد تغيراتٍ مناخية ساعدت الغزو المغولي بادئ الأمر؛ فبين عاميْ 1238 و1241 ساعد الجو الأكثر جفافًا عن المعتاد فرسان التتار على الاجتياح السريع لمناطق عديدة، ثم جاء شتاء 1241 قارص البرودة، فعبر التتار إلى أهدافهم على سطح الأنهار المتجمدة، لاسيَّما نهر الدانوب، وتوغلوا في أعماق المجر وشماليّ البلقان.

لكن المناخ أجبرهم على دفع ثمن ما حصلوا عليه آنفًا في ربيع 1242 عندما ذاب الجليد الكثيف، وتحولت مناطق عديدة من شرق أوروبا إلى مستنقعاتٍ طينية كثيفة صعَّبت جلب الإمدادات، وأحاطت الحصون الأوروبية بمساحات عازلة من الوحل المُعيق لآلات الحصار الثقيلة، وأصبحت كلفة العناد ومواصلة الغزو أعلى من ثمن الانسحاب؛ لتنجو القارة الأوروبية من مصير مجهول.

ساسة بوست

اقرأ أيضا: دع الأرق وغط في نوم عميق!.. 10 نصائح لكي تغفو بسرعة

شام تايمز
شام تايمز