مشاريع أميركية تركية في وجه دمشق وموسكو
جو غانم
بعد تكهّنات وتحليلات عديدة تحدّثت عن اقتراب خروج قوات الاحتلال الأميركيّ من الشرق السوريّ، وخصوصاً في الفترة التي تلت الانسحاب العسكريّ المفاجئ من أفغانستان، وفي ظلّ انكماش نشاط الولايات المتحدة العسكريّ والسياسيّ في المنطقة، وعدم وجود استراتيجية أميركية واضحة يمكن البناء عليها لاستشراف خطط واشنطن ومشاريعها المستقبلية في سوريا، وبلوغ الأمر حدّ إخلاء الجيش الأميركي بعض النقاط التي كان يحتلها في شرقيّ البلاد، أفاقت إدارة الرئيس جو بايدن أخيراً على وقع طبول الحرب في أوكرانيا.
ويبدو أن إدارة بايدن أعادت حساباتها بزخم وتفاؤل هذه المرة، واختارت التحرّك بقوّة في الساحة السوريّة، لاعتمادها كأحد ميادين الصراع المحتدم مع أعداء واشنطن، وفي مقدمتهم روسيا وقوى محور المقاومة.
وقد تجلّت الخطط الأميركية المستجدة على أكثر من صعيد، اعتماداً على القوات العسكرية الأميركية نفسها، وعلى الحلفاء والأدوات المحلية والإقليمية، إذ أجرت قوات الاحتلال الأميركي في الأسابيع القليلة الماضية عمليات إعادة تموضع في الشرق السوري، وأعادت احتلال بعض النقاط، وخصوصاً على خطوط التماس مع القوات التابعة لحليفها التركي الذي يحتل شريطاً حدوديّاً طويلاً باتجاه الشرق، بل إنّ قوّة عسكرية أميركية مؤلّفة من دبابات وسيارات تحمل معدات عسكرية ولوجستية دخلت بُعيد أواسط هذا الشهر إلى مناطق في ريف حلب الشمالي الخاضع لسيطرة مسلّحي “درع الفرات” العاملين لدى أنقرة.
ووصلت قوة عسكرية أميركية، برفقة وحدة من الاستخبارات التركيّة، إلى مدينة “أعزاز” في ريف حلب، في ظلّ تحليق كثيف لطائرات الاستطلاع والمروحيات الأميركيّة في أجواء المنطقة، في تهديدٍ أميركيّ واضح لاتفاق “عدم الاصطدام” الذي أرسته واشنطن وموسكو في الأجواء السورية. كما استقدمت القوات الأميركية تعزيزات عسكرية قتالية ولوجستية من العراق، بهدف تعزيز الوجود العسكري الأميركيّ وتقويته.
وبالتزامن مع ذلك، أقدمت المجموعات الإرهابية المسلّحة في ريف حلب الشماليّ على استهداف حافلة مبيت عسكريّة تقلّ عسكريين سوريين يتبعون لوحدات الدفاع الوطني السوريّ في بلدتي نبّل والزهراء، ما أدّى إلى استشهاد عدد منهم، ثم أعادت تلك المجموعات التابعة لأنقرة في ريف حلب الغربي وفي منطقة عفرين الكرّة بالاعتداء على مواكب تشييع الشهداء أنفسهم، ليسقط المزيد من الشهداء والجرحى في صفوف المشيّعين.
وفي تصعيدٍ مترافق مع النشاط الأميركيّ المستجد هذا، أقدم كيان الاحتلال الإسرائيلي على تسعير اعتداءاته على الأراضي السوريّة، وبشكل جديد فيه الكثير من التحدّي هذه المرة أيضاً، إذ استخدمت الطائرات الإسرائيلية المعادية ممرّاً جويّاً جديداً وغير معهود، وذلك انطلاقاً من نقطة بحريّة تقع مقابل مدينة بانياس السوريّة على سواحل المتوسط (تبعد كيلومترات قليلة عن قاعدة “حميميم” الروسيّة)، وأغارت 4 مرّات على مواقع عسكرية وبحثية ومدنية سوريّة في ريف حماه، مع وجود فاصل 10 دقائق بين الغارة والغارة، أي أنّ القيادة العسكرية في كيان الاحتلال تعمّدت استفزاز موسكو أوّلاً، ثمّ دمشق وقوى محور المقاومة عموماً، بشكل جديدٍ ومباشر، الأمر الذي أدّى إلى تفعيل منظومة الدفاع الجويّ “أس 300” الروسيّة، واستخدامها في صدّ الهجوم، بعد أن خاضت قوات الدفاع الجويّ السوريّة معركة حقيقية كبيرة لإسقاط أكبر عدد من الصواريخ المهاجمة، وتمكّنت بالفعل من تحقيق نتائج عالية على هذا الصعيد.
وقد جاء تفعيل منظومة “أس 300” لأوّل مرّة منذ استقدامها إلى سوريا، ليؤشّر على خطورة الأمر وتمايزه عن كل الاعتداءات الإسرائيلية السابقة. ومن المؤكّد أنّ هذا الهجوم الإسرائيلي، بهذا الشكل الجديد، جاء من قلب الخطط الأميركية المستجدة الرامية إلى المواجهة مع موسكو في الميدان السوريّ وتغيير قواعد الاشتباك في هذه الساحة.
وعلى الصعيد نفسه، أعادت تركيا، وبشكل متسارع، تفعيل خططها التي كانت مجمّدة بفعل حسابات الميدان منذ نهاية العام 2019، وبدا أنّ أنقرة، كعادتها، تريد استغلال اللحظة الدولية الخطرة لتحقيق مكاسب جديدة على حساب السوريين، وبالتخطيط مع واشنطن التي تسعى إلى إبعاد تركيا عن روسيا، عن طريق إسالة لعاب إردوغان الطامع إلى إرساء وجوده في الشمال الغربي لسوريا، والتمدّد شرقاً ما استطاع، استناداً إلى نظرية انشغال موسكو في الحرب في أوكرانيا والمواجهة مع الناتو وأدواته في الحديقة الروسية الأوروبيّة، وحاجة واشنطن والغرب إلى جهود أنقرة المؤثّرة في هذه المنطقة من العالم في مواجهة روسيا.
على هذا الصعيد، يعيد إردوغان مطالباته وخططه للسيطرة على مدينة “تل رفعت” الاستراتيجية بالنسبة إلى أنقرة وجماعاتها المسلحة في الريف الحلبي، كما السيطرة على عموم المنطقة الواقعة جنوبيّ مدينة عفرين. وقد بدأ التنسيق العسكري الميدانيّ مع الأميركيين في أرياف حلب والرقة والحسكة، وصولاً إلى طول طريق “أم 4” المؤدّي إلى محافظة الحسكة، حيث خطوط التماس التركية – الكرديّة.
هذه المرّة، بدا أنّ إردوغان غير مضطرّ إلى انتظار ضوء أخضر روسيّ للتحرك في تلك الساحة، كما كان الأمر عليه في السنتين الأخيرتين بعد اجتماع أستانة نهاية العام 2019، والذي كرّس موسكو كطرف ضامن لعدم التمدد التركي والكردي على الجانبين.
كما أنّ الجديد في خطط إردوغان هنا، أنّ مشروعه القديم – المستجد في الريفين الشمالي والغربي لمحافظة حلب يتخادم ويسير بموازاة المشروع الأميركيّ، بما يحقق مصالح الطرفين في المنطقة الممتدة من “كباني” في ريف اللاذقية إلى القامشلي والمالكيّة في ريف محافظة الحسكة.
وهنا، تعمل واشنطن وأنقرة على رسم الخطوط العسكريّة لأدواتهما في المنطقة، مع إرساء وجودهما كقوّتي احتلال تمنعان أيّ تقدم سوريّ أو تمدد روسيّ يدعم هذا التقدم، أو يضمن بقاء الوضع على ما كان عليه حتى إشعار آخر. كما تضمن واشنطن لأنقرة بقاء القوى الكردية تحت السيطرة، ومنع ما تعتبره تركيا تهديداً لأمنها القوميّ.
وعلى هذا المستوى أيضاً، شهد معبر “باب الهوى” الحدوديّ مع تركيا نشاطاً واضحاً من الأتراك والأميركيين في الآونة الأخيرة، إذ وصل وزير الداخلية التركيّ إلى المعبر، ثم إلى مخيّمات النازحين السوريين في منطقة إدلب، مع حديث عن اقتراب وصول المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة إلى تلك المنطقة، وذلك في سعي أميركي تركيّ حثيث لإعادة اعتماد هذا المعبر كطريق وحيد لإيصال المساعدات الأممية إلى سوريا، من دون موافقة دمشق وموسكو، وفي استغلال جديد من واشنطن وأنقرة لورقة النازحين السوريين في وجه موسكو وبكين، لمنعهما من إشهار “الفيتو” أمام مقترح تمديد العمل بالقرار الأممي القاضي باعتماد معبر “باب الهوى” دون غيره لإيصال المساعدات، والذي من المفترض أنْ يجري التصويت عليه في شهر تموز/يونيو المقبل.
ويترافق كلّ هذا مع دعوات تركيّة إلى استثناء المناطق السورية الواقعة تحت سيطرتها من قانون العقوبات الأميركيّ “قيصر”، إذ تسعى أنقرة بشكل واضح وعلنيّ لتكريس احتلالها تلك المناطق، وإعادة اللاجئين السوريين الموجودين في أراضيها إلى منطقة الشمال الغربيّ السوريّ، ومنع عودة أيّ نازح سوري إلى القرى والبلدات التي حررها الجيش السوريّ في أرياف إدلب وحماه وحلب والرقّة.
وفي هذا السياق، تعمل حكومة الاحتلال التركيّ على بناء وحدات سكنية جديدة في منطقة الشمال، لتوطين أكبر عدد من اللاجئين والنازحين هناك، وتغيير الديموغرافيا السورية بما يتوافق مع خطط أنقرة لإقامة “كانتون” تابع لها تماماً في الشمال الغربيّ لسوريا.
وعلى الضفة الأخرى للمشروع الأميركي التركي الجديد، أعلنت واشنطن إقرار استثناءات جديدة من عقوبات “قانون قيصر”، تتعلّق تحديداً بمنطقة الشمال الشرقيّ لسوريا، حيث تقيم القوى الكردية العاملة تحت رعاية وإشراف ودعم من الولايات المتحدة الأميركية “إدارة ذاتيّة” لها مؤسساتها المدنيّة وقواها العسكرية المتمثّلة بـ”قوات سوريا الديمقراطيّة”.
وتسعى واشنطن على هذا الصعيد إلى تنمية المنطقة الكردية وضخّ الاستثمارات فيها وتقويتها اقتصاديّاً وسياسيّاً وعسكريّاً، وتأمين كل الدعم الدولي لها، وصولاً إلى إعلانها منطقة “نموذجية” مستقلة تماماً عن الدولة السوريّة.
ولم يتأخر النظام التركي عن إعلان امتعاضه من هذا القرار الأميركيّ، وذلك قبل أيام قليلة من زيارة وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إلى واشنطن، للقاء وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن.
ولا يُعبّر هذا الاعتراض التركيّ عن أيّ خلاف بين أنقرة وواشنطن، بل يأتي في سياق الابتزاز الإردوغاني المعتاد للغرب عموماً، والترويج العلنيّ للخطط الجديدة وضرورة اعتمادها دوليّاً، بهدف استصدار قرارات أميركيّة وغربيّة مماثلة تشمل عموم المنطقة التي يحتلها الأتراك في الشمال الغربي من سوريا، وخصوصاً أنّ أنقرة أشهرت مؤخّراً ورقة معارضتها انضمام دول جديدة إلى حلف الناتو (السويد وفنلندا)، بحجّة وجود عناصر إرهابية تتبع لحزب العمال الكردستاني في أراضي الدولتين، وسوف تقايض أنقرة هذه الورقة بالانفتاح السياسي والاقتصادي الغربيّ على المشروع التركي في شمال غربيّ سوريا.
الواضح هنا في سوريا أنّ هناك سعياً أميركيّاً محموماً لتغيير كلّ قواعد الاشتباك ومناطق النفوذ في الميدان السوريّ، وأنّ موسكو، كما دمشق، مستهدفة بشكل رئيسيّ من هذا المشروع الجديد، وأنّ خطط تقسيم سوريا عادت إلى المربّع الأول، وأنّ العمل يجري باتّجاه إقامة كيانين مصطنَعين جديدين، أحدهما يخضع بشكل مباشر للاحتلال والرعاية الأميركية في الشمال الشرقي من سوريا، ويعتمد على الكرد بشكل رئيسي، والآخر يتبع للاحتلال والرعاية التركية في الشمال الغربي للبلاد.
وتشمل الخطط تحقيق جميع سبل تحويل المنطقتين إلى أمثولتين ناميتين اقتصاديّاً، مقابل خنق الدولة السورية ومدنها وبلداتها، عن طريق حصار أميركيّ ودوليّ يدفع المواطنين السوريين إلى الموت جوعاً، أو الضغط على الحكومة السورية لتقديم تنازلات أمام جميع القوى المعادية للدولة السورية وشعبها.
ولا يمكن أنْ نغفل هنا عاملين رئيسيين تمّ تحريكهما أميركيّاً ضمن الخطط الجديدة في الفترة الأخيرة، إذ جرت إعادة تفعيل نشاط تنظيم “داعش” الإرهابي في منطقة البادية وغربيّ الفرات، انطلاقاً من منطقة “التنف”، حيث تقيم الولايات المتحدة واحدةً من أكبر قواعدها العسكريّة، ثم إعادة تحريك ملفّ الجنوب السوريّ، والترويج لادّعاءاتٍ تتحدث عن انسحابات عسكريّة روسية من المنطقة (ليس لروسيا قوات عسكرية مقاتلة هناك، بل مفارز شرطة عسكريّة تضمن ثبات اتفاقات الهدنة بين الجيش السوري والفصائل المسلحة الموقعة عليها)، مقابل تعزيز الوجود الإيراني في منطقة الجنوب، بما يعنيه ذلك من إعادة ترويجٍ للمشروع الإسرائيليّ هناك. وقد بلغ الأمر بملك الأردن ذاته أنْ أعلن خطورة الوضع في منطقة الجنوب ومطالبات بدخول قوات أردنيّة إلى المنطقة لضمان الأمن.
وفي حين تبدو دمشق أكثر صلابةً ووضوحاً في المضي إلى النهاية في المواجهة، وفي تمتين تحالفاتها مع قوى المقاومة، وعلى رأسها إيران، وفي سعيها مع هؤلاء الحلفاء لتصعيد المقاومة الشعبية والعسكرية ضد الاحتلال الأميركي وأدواته في الشرق السوري، وإعلانها حشد كل قواها لتحرير جميع الأراضي السورية المحتلة، وإفشال مخطط تقسيم البلاد، تبدو خطوات موسكو في الميدان غير واضحة حتى الآن، إذ لا تغيير جذريّاً أو مؤثّراً حتى اللحظة في النشاط الروسيّ، وخصوصاً بعد وضوح خطّة واشنطن في السعي لتفجير الميدان السوري، واعتماده كأحد ساحات المواجهة الأميركية الغربيّة النشطة ضد موسكو، إلّا إذا اعتبرنا أنّ تفعيل منظومة الدفاع الجويّ “أس 300” لأوّل مرّة في وجه الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية هو مؤشّر على بدء مرحلة روسية جديدة في المواجهة.
ويمكن أنْ نذكر هنا، وبشكل حصريّ، أنّ قاعدة عسكريّة تركيّة تقع قرب الحدود التركيّة السوريّة المحاذية لريف محافظة اللاذقية تعرضت لقصف بصاروخ مدمّر أثناء الغارات الإسرائيلية الأخيرة.
وقد مرّ هذا الحدث المهم من دون أنْ يتطرّق إليه أيّ طرف في الإعلام، ومن دون أنْ تتبنّاه أيّ جهة، لكن المؤكد هنا أنّ الصاروخ قدم من الأراضي السوريّة، وأنّ نتائجه كانت فاعلة جدّاً ومؤثّرة داخل القاعدة التركيّة.
الميادين