الحرب في شهرها الرابع: روسيا تتقدّم… في غفلة من الغرب
مع دخول الحرب الروسية – الأوكرانية شهرها الرابع، بدأت حالة النشوة التي كانت أصابت كييف وحلفاءها الغربيين، مع اتّخاذ موسكو خطوات «انكفائية» في الميدان، تتبدّد، لصالح تقديرات أكثر واقعية، على رغم بقاء الرهانات على افتراضات خاطئة، مِن مِثل عجز روسيا عن تحقيق انتصار عسكري، أو فقدان فلاديمير بوتين الدعم في الدائرة النخبوية المحيطة به، أو حتى مرضه، الذي لا يتردّد البعض في اعتباره سبباً للحرب! في المقابل، بنت روسيا على أخطاء خطّتها في الشوط الأول من العملية العسكرية، وعملت على إصلاحها سريعاً، لتبدأ منذ أيار الماضي بإمالة كفّة الميدان لصالحها، وصولاً إلى اقترابها من انتزاع كامل منطقة الدونباس من أيدي الأوكران. وفي ظلّ هذا الوضع، واحتمال ازدياد حدّة المواجهة بين موسكو وواشنطن، وتحديداً في دول البلطيق، تتراجع أهمية المسار التفاوضي، فيما يدور الحديث عن أن روسيا توشك على إعلان «نصر عسكري شامل» في الخريف
دخلت العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا شهرها الرابع، على وقع تقدُّم روسي على أكثر من جبهة في الشرق والجنوب. فقبل انتهاء الشهر الثالث من الحرب، نجحت موسكو في السيطرة على مجمّع «آزوفستال»، مع ما يعنيه ذلك من ضربة قاصمة للمتطرّفين الأوكران، بعد خسارة وجههم العسكري «كتيبة آزوف» أهمّ معاقلها في الجنوب، وكسر رمزيّة الكتيبة من خلال نشر صور استسلام جنودها. ما حصل في ماريوبول وفرض السيطرة على بحر آزوف، فسّره الخبراء العسكريون الروس على أنه واحدة من أنجح وأكبر العمليات العسكرية في التاريخ الحديث للقوات المسلّحة الروسية. وبحسب الخبير العسكري، كونستانتين سيفكوف، فإن واقع القوات المعادية في هذه المنطقة يقترب من جيش كامل، بعديد بلغ نحو 25 ألف مقاتل لم يتبقَّ منهم أحد، إمّا ماتوا أو استسلموا. ويلفت الخبراء إلى أن نجاح الجيش الروسي في إجبار المسلّحين المتحصّنين في «آزوفستال»، حيث كان يمكنهم البقاء لفترة طويلة جدّاً بسبب تحصينات المكان المهولة وتوافُر ما يكفي من الإمدادات لديهم، أكّد قدرته على هزْم القوة المتفوّقة للخصم في المناطق الحضرية، بأقلّ الخسائر الممكنة.
ومع اقتراب السيطرة الروسية على إقليم دونباس، يتّضح جليّاً أن النتيجة الأكثر أهمية، بعد ثلاثة أشهر من الأعمال العدائية، هي انهيار الاستعداد القتالي للجيش الأوكراني. وبناءً على معطيات وزارة الدفاع الروسية بخصوص الخسائر التي لحقت بالجيش الأوكراني على مستويَي العتاد والأفراد، يمكن الحديث عن أنه «جرى كسر نظام الإمداد الدفاعي والعسكري الذي بنته كييف في دونباس على مدى ثماني سنوات ودوسه»، وفق رأي الخبير العسكري، أليكسي ليونكوف. ويرى ليونكوف أن «تحرير دونباس مِمَّن تبقّى من القوات الأوكرانية هو مسألة وقت، وسيتحقّق قريباً جداً». وكانت موسكو حدّدت هدفَين رئيسَين لعملياتها العسكرية، هما: تدمير أيّ قدرة للجيش الأوكراني على تهديدها نووياً، واستئصال النازية من أوكرانيا. ومع مرور الوقت، اتّضح أن روسيا تسير وفق ما تريده، على رغم أن خطّتها واجهت بعض الصعوبات في بدايتها، وهو ما دفعها إلى تغييرها على وقْع المعارك. وفي هذا الإطار، يوضح الخبير العسكري، إيليا كرامنيك، في قناته على «تيلغرام»، أن «القيادة الروسية حدّدت هدف تحقيق نتيجة عسكرية، وفي الوقت نفسه من دون تأثير جذري على البنية التحتية للنقل الأوكراني»، إلّا أن ذلك تَغيّر بعدما «بدأت القوات الروسية قصف البنية التحتية للسكك الحديدية في أوكرانيا في الشهر الثالث فقط، بسبب استخدام القوات الأوكرانية سكك الحديد لإيصال أسلحة الناتو إلى نهر دونباس»، ما عرّض تلك البنية لأضرار كبيرة. ويرى كرامنيك أن المواجهة «تحوّلت إلى منافسة بين تفوّق أوكرانيا في حجم الجيش وتفوّق روسيا في حجم ضربه»، لافتاً إلى أن «القيادة الأوكرانية تأمل بوضوح أن يزداد توريد الأسلحة من الغرب قبل أن تصبح الخسائر خطيرة».
يرجّح المحلّلون أن تزداد حدّة المواجهة بين موسكو وواشنطن، وتحديداً في دول البلطيق في المستقبل القريب
على أن روسيا تبدو مقتنعة بأن فعّالية توريد الأسلحة الغربية إلى كييف في تغيير المعادلات، ستظلّ محدودة. وقد نبّه الكرملين، صراحة، إلى أن هذه العملية لن تساهم في تبديل الأوضاع على الأراضي الأوكرانية، بل ستؤدي فقط إلى «مزيد من تدمير أوكرانيا على المستويات البشرية والمادّية كافّة». وفي الاتّجاه نفسه، يُجمع الخبراء العسكريون الروس على أن خسائر الجيش الأوكراني أصبحت أكبر من قدرته على إطالة أمد صموده أمام الضربات الروسية، كما أن مخزونه من الأسلحة السوفياتية بدأ بالنفاد، وهو ما يؤثّر سلباً عليه، وخاصة أنه لا يتمتّع بالخبرة الكافية للتعامل مع أسلحة «الناتو». ومن زاوية أخرى، يرى الخبراء أن استمرار ضخّ الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا دليل على أن «حرب روسيا ليست مع الأخيرة، بل مع الغرب، وبشكل أكثر تحديداً مع الولايات المتحدة وحلفائها التابعين». ويعتبرون أن روسيا، من خلال عملياتها العسكرية، تحدّثت، لأوّل مرّة في التاريخ الحديث، مع الولايات المتحدة من «موقع قوّة»، مُطالِبة بدفع «الناتو» إلى ما وراء «الخطوط الحمراء» لعام 1997، و«تحرير دول الاتحاد السوفياتي السابق من وجود الناتو ونفوذ الغرب». ومن هنا، يشدد الخبراء على أنه حتى لو انتهت العملية الروسية فلن تنتهي المواجهة؛ إذ «سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن الولايات المتحدة ستتراجع، وستعطي روسيا بسهولة ما تريده، خلافاً لما عملت عليه منذ عام 1991، والدليل هو قرار ضمّ فنلندا والسويد إلى حلف الناتو». وعليه، يرجّح المحلّلون أن تزداد حدّة المواجهة بين موسكو وواشنطن، وتحديداً في دول البلطيق في المستقبل القريب.
أمام هذه التطوّرات العسكرية، لم تَعُد المفاوضات الروسية – الأوكرانية أولوية، سواءً على أجندة موسكو أو كييف، على رغم تجديد روسيا انفتاحها على المحادثات، وإمكانية لقاء الرئيس فلاديمير بوتين بنظيره الأوكراني، ولكن بعد التوقيع على وثائق الاتفاق، وهو ما يبدو صعباً في المدى المنظور، في ظلّ تشبّث أوكرانيا بمواقفها، وتراجعها عمّا اتُّفق عليها في جولات المحادثات السابقة، بضغط من واشنطن وبروكسل، وفق ما تقول موسكو. كلّ ذلك يقود إلى القول إن أفق الحلّ في أوكرانيا يبدو مسدوداً، وإن كانت عملية تغيير الموازين على الأرض، والجارية على يد روسيا، ستفرض على أوكرانيا في نهاية المطاف القبول بالتفاوض، حتى لا تخسر المزيد من أراضيها.
الأخبار