معارك «الخاصِرة» السورية: الضرْب السهلُ لم يَعُد متاحاً
حسين الأمين
لطالما كانت الساحة السورية محكومة، في جزء كبير من حيثيّاتها، بالتطوّرات الإقليمية والدولية. لكن، حتى شهر شباط من العام 2020، ظلّت موازين الميدان، والفرص والتهديدات العسكرية الصرفة، تحجز لها مكاناً وازناً في عقل المخطّطين، سواءً أولئك العسكريين منهم أو السياسيين. عملياً، شكّلت معارك تحرير ريف حلب الجنوبي كاملاً، وأجزاء واسعة من ريفَيها الغربي والشمالي، في بداية العام المذكور، آخر الحملات العسكرية الكبرى التي شهدها الميدان السوري. ومنذ انتهاء تلك المعارك، دخل الشمال السوري حالةً من الجمود السياسي والعسكري، لم يتحرّك بعدها حتى هذه الأيام التي ترتقب فيها المنطقة عملية عسكرية تركية جديدة، يجري حالياً تحديد توقيتها وأهدافها وسقوفه، في ما يمثّل انعكاساً واضحاً للتطوّرات الدولية، وخصوصاً تلك المتعلّقة بالحرب الأوكرانية. ولهذا أسبابه الموضوعية الكثيرة والمتشابكة، أوّلها أن روسيا، أحد طرفَي الحرب في أوكرانيا، تمتلك النفوذ الأكبر في سوريا، وفي مقابلها الولايات المتحدة والدول الغربية، التي تسيطر عبر عسكريّيها ومقاتلي «قسد» الأكراد، على الشرق السوري. وما بين العملاقَين المتصارعيْن، أي روسيا وأميركا، وحلفائهما، «يلعب» رجل الفرص الطارئة، الماهر في ابتزاز الحلفاء قبل الخصوم، الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان.
تعويضُ خسائر
لا تزال قصّة قضم الجيش السوري وحلفائه، في شباط 2020، أجزاء واسعة من منطقة خفض التصعيد الرابعة، وهي تضمّ محافظة إدلب، ومعها أجزاء من أرياف حلب، وحماة، واللاذقية، تدور وتتفاعل في عقل القيادة التركية. إذ بعد نحو عام على اتفاق خفض التصعيد، توصّلت أنقرة وموسكو إلى اتفاق «سوتشي» الأول، وكان أهم بنوده، فتح الطريقَين الدوليين القادميْن من حلب إلى كلّ من دمشق واللاذقية (M4 وM5)، وهو ما لم يتحقّق. وبعد أقل من عامين، وبذريعة عدم تطبيق تركيا اتفاق «سوتشي» الأول، كانت القوات السورية والحليفة، وتحت غطاء جوّي وسياسي روسي، تقضم مساحات واسعة من منطقة خفض التصعيد، حيث سيطرت على كامل الطريق الدولي «M5»، وبدأت بالسيطرة على طريق «M4»، حينما عادت القوات التركية وتدخّلت بتأمين غطاء مدفعي وجوّي عبر الطائرات المسيّرة للمسلحين في سراقب ومحيطها، ما منع القوات السورية من إكمال التقدّم. حينها، وقع الصدام المباشر الأول والأكثر دموية، بين الجيش السوري وحليفته روسيا، والقوات التركية، عندما أغارت طائرات روسية وسورية على قافلة عسكرية تركية في ريف إدلب الجنوبي، ما أودى بحياة نحو 50 جندياً تركياً. وتذرّعت حينها موسكو، بأن القوات التركية لم يكن عليها التواجد في المنطقة، حيث كانت الطائرات الروسية تُجري «عمليات مكافحة الإرهاب».
يشعر إردوغان بوقوعه ضحيّة نوع من «الغُبن» في اتفاقَي «سوتشي»
اليوم، يحاول إردوغان قلب الصورة. هو يعتبر أن «قسد» لم تلتزم اتفاق «سوتشي»، حيث تعهّدت حينها لدى موسكو، بتطبيق بنود الاتفاق مقابل وقف عملية «نبع السلام» التركية. وأبرز بند في الاتفاق كان «إخراج عناصر وحدات حماية الشعب وأسلحتها إلى عمق 30 كلم من الحدود السورية – التركية، في غضون 150 ساعة»، مقابل أن «تنتشر الشرطة العسكرية الروسية ومعها حرس الحدود السوري على الجانب السوري من الحدود التركية- السورية، خارج منطقة عملية نبع السلام (تل تمر ورأس العين)». كذلك، تحدّث بند آخر عن «إخراج جميع عناصر الوحدات الكردية وأسلحتهم من منبج، وتل رفعت (غرب الفرات)». توقّف الهجوم التركي، وانتشرت الشرطة العسكرية الروسية ومعها حرس الحدود السوري على الحدود جزئياً، لكن، في الحقيقة، لم تنسحب القوات الكردية من الشريط الحدودي المتفق عليه، ولا من منبج وتل رفعت. ويشعر إردوغان بوقوعه ضحيّة نوع من «الغُبن» في الاتفاقين. ومنذ إعلانه عن عملية عسكرية جديدة مُرتقبة، لم يكن إردوغان ينوي التوغّل في المناطق التي تتواجد فيها القوات الأميركية شرق الفرات. وهو لم يتوهّم أن الأميركيين سيسمحون له بذلك أصلاً. بل كان أمامه هدف واحد، هو تحقيق ما كان من المفترض تحقيقه عبر تطبيق اتفاق «سوتشي – 2019»، انطلاقاً من منبج وغرباً باتجاه تل رفعت في ريف حلب الشمالي.
عقدة إيرانية
ما كان ليتحمّس إردوغان لطرح مطالبه، لولا الظروف والمتغيّرات الدولية الأخيرة، انطلاقاً من الحرب الأوكرانية، حيث اختار الرئيس التركي لحظة استراتيجية هامة، لإلقاء ورقته، في وقت يحتاج فيه فلاديمير بوتين وجو بايدن إليه، كلّ لحساباته، ما يجعله ممسكاً بقواعد المنازلة، وقادراً على ابتزازهما، بحيث لا يعترضان بما يكفي على خططه في سوريا، بل بما يدفع موسكو إلى محاولة التفاهم مع أنقرة حول حدود العملية. لكن ثمّة معضلة أساسية أمام الطموحات التركية، إذ تطالب موسكو، أنقرة، بالإيفاء بتعهّداتها في إدلب، أي فتح الطريق الدولي «M4»، وتنظيف جانبَيه من المسلحين، وهو ما لم تُحققه القوات التركية منذ سنوات، بل هي «ساعدت المسلحين هناك على تثبيت مواقعهم على الطريق الدولي وفي محيطه»، بحسب مصدر عسكري في المنطقة تحدث إلى «الأخبار». ويؤكد المصدر، أن «الجيش التركي، خلال الشهر الأخير، أجرى عدّة أعمال تجريف ورفع سواتر وتحصين مواقع في محيط الطريق الدولي، استفاد منها المسلحون بشكل مباشر».
ومن جهة أخرى، تَبرز عقدة ثانية، لا تستطيع موسكو تجاوزها أو ضمانها، وهي تتعلّق بشكل أساسي بتل رفعت لما لها من أهمية عسكرية استراتيجية. وبحسب مصدر عسكري مطلع، فإن «تل رفعت تبعد عن مركز مدينة حلب نحو 25 كلم فقط، وهي تقع على جبال مشرفة على المدينة وريفها الشمالي المتّصل فيها حتى مدينتَي نبّل والزهراء»، ويضيف المصدر: «وفي الأخيرتين تموضع أساسي وكبير للقوات الحليفة للجيش السوري، ويمتدّ باتجاه تل رفعت، التي لا يمكن السماح بسقوطها بيد الأتراك، إذ تؤمّن لتلك القوات موقعاً استراتيجياً يشكّل سقوطه خطراً جدّياً على مدينة حلب وريفها الشمالي». وإذا كانت موسكو تبدي تفهّماً مبدئياً للمطالب التركية «الاحتلالية»، فإن طهران سجّلت رفضاً شديداً للعملية، وهي أعلنت ذلك عبر تصريحات رسمية من جهة، وعبر «استنفار القوات الحليفة للجيش السوري في مدينتَي نبّل والزهراء، وامتداداً نحو تل رفعت، بوجود وقيادة الجيش السوري»، بحسب المصدر العسكري، من جهة أخرى. يعني ذلك أن احتمال التصادم بين الجيش السوري وحلفائه من جهة، والجيش التركي والفصائل المسلحة من جهة أخرى، يبدو وارداً، خصوصاً مع حديث الرئيس السوري، بشار الأسد، في مقابلة عُرضت أمس مع قناة «روسيا اليوم»، حول أنه «إذا كان هناك غزو فستكون هناك مقاومة شعبية بالمرحلة الأولى… طبعاً في الأماكن التي يوجد فيها الجيش السوري – وهو لا يوجد في كل المناطق في سوريا – وعندما تسمح الظروف العسكرية للمواجهة المباشرة، سنفعل هذا الشيء». وأضاف الأسد: «منذ عامين ونصف العام حصل صدام بين الجيشين السوري والتركي، وتمكّن الجيش السوري من تدمير بعض الأهداف التركية التي دخلت إلى الأراضي السورية، سيكون الوضع نفسه بحسب ما تسمح به الإمكانات العسكرية». والجيش السوري، وفق المصادر العسكرية، موجود في تل رفعت على الأقلّ.
الأخبار