حزيران والمطارات العربيّة: متى تردّ دمشق؟
جو غانم
“إنّ النضال ضد المشروع الصهيونيّ قد يستمر لمئة عامٍ أو أكثر. على قصيري النّفَس أنْ يتنحّوا جانباً”.
جورج حبش، الأمين العام الأسبق والقائد التاريخيّ للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
على بُعد أميال بحريّة قليلة من شاطئ فلوريدا الأميركيّ، تقع بقعة الأرض الكوبية التي وقف عليها رجال الزعيم الثوريّ فيديل كاسترو في ستينيّات القرن الماضي، يشرفون على “رحلة القوارب” التي حملت عدة مئات من الكوبيين الذين تقطّعت أنفاسهم داخل البلاد التي تقارع المحتل وأعوانه، وما عادوا يطيقون من هوائها سوى ما تيسّر من لهاثٍ أخير يوفّرونه ليبلغهم “الحلم الأميركيّ”.
لم يشترط رجال الثورة الكوبية على هؤلاء أيّ أمر وهم يدفعونهم فوق قارب الأحلام، لكنهم أشرفوا على ضمان تحقيق تفصيل صغير فقط، وهو مصادرة كلّ حبة تراب من الأرض الكوبية علقت على أحذية هؤلاء. لاحقاً، أشرف الأميركيون أنفسهم على تحويل “ليتل هافانا” التي حُشر فيها هؤلاء على الجانب الأميركي المقابل إلى بؤرة للمخدرات والجريمة.
في سوريا، كما في عموم المنطقة العربية، كان لدينا الكثير من هؤلاء، وهم يُعدّون بعشرات الآلاف، لا بالمئات. وقد وجد العديد منهم مكاناً لهم على القارب، وهم الآن يؤلّبون ويحرّضون ويسخرون ويشتمون مِنْ أمكنتهم البعيدة، بل يحضّون العدو على الإثخان ما استطاع في جسد بلادهم الأصلية وأجساد أهلها، وما زال لدينا العديد منهم بكلّ تأكيد.
لكنّي لست أضع هؤلاء وتلك الحفنة القليلة من الكوبيين، المتقطّعي الأنفاس، بأيّ حال من الأحوال، في قياس مع السوريين والعرب الذين ضاقت صدورهم إلى درجة الاختناق بالاعتداءات الصهيونية المتتالية على أرضنا وبيوتنا ومكتسباتنا، والذين يحلمون ليلاً نهاراً بحقّهم في ردّ الصاع صاعين، بل مئة، وصولاً إلى التحرير.
وأنا مِنْ هؤلاء، لا تُذكّرني فلوريدا، ولا واشنطن، ولا لاس فيغاس، سوى بالكابوس الأميركي الطويل بالقنابل والصواريخ والمجازر والحصار والأوبئة ومختبرات الموت البيولوجية بالجشع والنهب والتوحّش، وبالأوطان المدمّرة فوق رؤوس أصحابها.
وأنا مثل هؤلاء، حرمني – وما يزال – كيان الاحتلال الغاصب المسخ هذا من النوم لياليَ لا تُعدّ، لا بسبب الخوف بكلّ تأكيد، بل من الغضب الذي يعتمل في صدري وصدور ملايين الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين والعرب.
نحن غاضبون حتّى الحرب، بل حتى الموت، لكنّ أيّاً منا لا يريد الموت جرّاء نوبة غضبٍ يسبّبها القهر منَ الاحتلال البغيض، بل نرضى بالموت في ميدان معركةٍ مع هذا الوحش الاستعماريّ الذي شوّهَ حيواتنا، وحرمنا حقوقنا في أن ننهض ونحجز مكاننا اللائق تحت شمس الأمم الحيّة.
تلك هي عاطفتنا، لكنّ الانجراف العاطفيّ لا يؤخذ في الحسبان عند وضع خرائط الحروب، سوى لجهةِ كَبْحهِ، كي لا يتحوّل إلى سلاحٍ يفيد العدو، أو لجهة استغلاله للقيام بـ”معركةٍ ساداتيّة” محسوبةٍ بورقة المستعمر وقلمه، تُطفئ بعض النار التي تعتمل في صدور الغاضبين من جهة، وتخرج من جهة أخرى آخر كتلة عربية مقاومة للمستعمر الاسرائيلي من الصراع، وتُكرّس احتلال فلسطين بدعوى أننا قاتلنا وقمنا بكلّ ما نستطيع، ليُشتَم بعد ذلك كل عربيّ يدعو للمقاومة تحت شعار التحرير، ويُوصَم بالإرهاب تحت قبّة “جامعة العرب” وفي “شارعهم” السياسيّ.
للمفارقة التاريخيّة، تصادف هذه الأيام الذكرى الـ55 لعدوان حزيران (النكسة) عام 1967، فيما نختبر في الإقليم أجواء شعبية وسياسية تشبه إلى حدّ ما، ومن عدة نواحٍ، تلك الأجواء التي تلت عدوان حزيران المشؤوم ذاك، خصوصاً بعد تكرار الاعتداءات الصهيونية على الأراضي السورية، وقصف مطار دمشق الدوليّ وإخراجه من الخدمة مؤقّتاً (وللمطارات العربية في حزيران حكاية صهيونية مؤلمة)، من دون أيّ ردّ سوريّ على مواقع العدو داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل إنّ أوجه الشبه تطال موسكو أيضاً.
بعد عدوان حزيران 1967، بقي الزعيم الراحل جمال عبد الناصر حتى لحظة وفاته يصل الليل بالنهار في العمل على تجهيز كلّ أدوات المعركة، وتلافي كل الثغرات التي أدّت إلى النكسة، ودخول الحرب بكل ما يستطيع من قوة تُمكّنه من تحقيق النصر، لكنّ الموت لم يُمهل الرجل، ليأتي محمد أنور السادات ويرث حالة الاستنفار والتجهيز والتخطيط والتّوق العسكريّ والشعبي للقتال والثأر، كما حالة جلد الذات الوطنيّة والسخرية من عجز العسكريّة المصرية والعربية، والتي كادت تتحوّل إلى “ثقافة” شعبية دفعت الجندي العربي في مصر وبعض دول الإقليم العربية إلى الخجل من السير ببزّته العسكرية في الشارع، بكلّ ما يعنيه ذلك من فقدانٍ للثقة بالنفس وبالدولة والوطن.
لكنّ السادات دخل “معركته” مدجّجاً بكل تلك الأسلحة الإيجابية والسلبية. وقد استغلّها كلها أفضل استغلال لمصلحة المخطط الأميركي، ومن أجل انتفاخه الشخصيّ، ولم ينسَ وجوقته معزوفة “أين السوفيات؟” و”ماذا قدّم السوفيات؟”، والتي يقابلها هذه الأيام “أين الروس؟” و”ماذا يقدّم الروس؟”، لكنه تناسى، كما يتناسى الكثيرون الآن، أنّ ما جمعنا بالسوفيات حينذاك، وما يجمعنا بالروس الآن، ليس حلفاً عقائديّاً ثوريّاً يُحتّم على هؤلاء المشاركة في تحرير أرضنا، بل حلف سياسيّ وعسكريّ بقياس العلاقة بين القوى الكبرى وحركات التحرر أو الدول النامية والمقاوِمة، وهو حلف يختزن العديد من التباينات، كما التوافقات، بما تفرضه مصالح كل جهة في هذا الحلف، وفي مقدمتها مصالح الطرف الأقوى، ليصل “الرئيس المؤمن” لاحقاً إلى طرد الخبراء السوفيات من مصر، وتسليم الأمر كلّه إلى الأميركيين وأدواتهم الإسرائيلية، الذين احتفلوا به كـ”زعيم حربٍ وسلام”، وطوّبوه مُهرّجاً عربيّاً جديداً.
وما نزال في فلسطين والمنطقة العربية ندفع، حتى اليوم، ثمن تلك اللحظة التاريخية التي كان التآمر باللعب على العواطف العربية، بل حتى على “السذاجة العربية”، أبرز سماتها العامّة، من دون أنْ نغفل السبب الرئيسيّ المتمثّل بالضعف والتخاذل العربيين على المستوى الرسميّ.
لكنّ أوّل ما يجب أنْ نَعيه جيّداً الآن، ونحن نستذكر الغطرسة الإسرائيلية سنة 67، ونقيسها بالصلف الحاليّ، ونقابل ظروفها بالظرف الآن، أنْ لا “سادات” في دمشق، ثم أنْ ننتبه إلى أنّ الجندي العربي السوري يُقاتل المشروع الأميركيّ الإسرائيلي منذ 10 سنوات في ميدان حربِ ضروس قدّمت فيها سوريا مئات الآلاف من الشهداء العسكريين والمدنيين، وأنّ السوريين لم يقضوا ليلة واحدة من دون قتال منذ 2011.
ولا بُدّ بعد هذا كلّه من أنْ نُغيّر وجهة القياس ونُصحّح موازين الشبه التاريخيّ، لتصبح الجزائر في الكفة المقابلة لشقيقتها سوريا، ونستذكر أنّ القوة الاستعمارية الفرنسيّة الغاشمة قتلت أكثر من 45 ألف جزائري في يوم واحد، قبل وقت قليل مِنْ قيام مَنْ بقي حيّاً من الجزائريين بملاحقة فلول المستعمر حتى البحر. ولهذا القياس كل أسباب الصحّة والوجوب، إذ إنّ الدولة السورية تخوض حرب تحرير حقيقية في وجه عدّة جيوش استعمارية وأدواتها على طول خريطة الوطن السوريّ، كما على الحدود.
لعلّها مقدّمة طويلة، لكنّها واجبة وضروريّة وسط حالة الصراع النفسي الدائر في دواخلنا، والدائر علينا هذه الأيام، والتي تقف دمشق في مواجهته، تتلقّى الاتّهامات بالعجز مع الكثير من التشفّي، ومطالبات صادقة بوجوب الردّ الفوريّ على الاعتداءات الإسرائيلية، بأيّ ثمنٍ كان، ومن دون حسابات استراتيجية، مهما بلغت أهميتها وثقلها النوعيّ في هذا الصراع المرير.
قبل كلّ شيء، ليست الدولة السورية هي المستهدفة بذاتها في هذه الاعتداءات، بل حالة المقاومة وعدم الإذعان التي كرّستها هذه الدولة السورية، وذهابها بعيداً في العمل مع قوى المقاومة في فلسطين والإقليم، للصعود بتلك الحالة وتحويلها إلى قوّة ضاربة وقادرة على العمل معاً كجسد واحد لأجل الحرب الكبرى، لأجل التحرير، لا لأجل خوض المعارك إلى الأبد، فلا سوريا باستطاعتها ذلك وحدها، إذ يقف العالم جلّه – عسكريّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً – في ظهر آلة العدوان والاستعمار الإسرائيلية، ولا محور المقاومة، وعلى رأسه سوريا، مستعدّ للقيام بحرب “تطييب خواطر” في التوقيت الإسرائيليّ المناسب، بعد جهد سنوات طويلة من العمل والتجهيز لأجل بلوغ مرحلة القدرة الواثقة على المبادرة، والتي لم تعد تستلزم منّا، نحن بيئة الدولة السورية والمقاومة، سوى بعض الصبر الاستراتيجي والكثير من تشذيب الغضب، كي لا ينفجر في دواخلنا.
قد يستغرب البعض أنّ الكثير منّا، نحن المتابعين السوريين والعرب (ناهيك بالدولة السورية ومؤسستها العسكرية وخبراء محور المقاومة)، كان يعرف منذ أشهر على الأقلّ أنّ مطار دمشق قد يخرج عن الخدمة قريباً.
وقد بات هذا الهدف الإسرائيليّ واضحاً بعد اعتداء 20 أيّار/مايو الماضي الذي استهدف المدرج الشماليّ للمطار، وذاك ليس سرّاً بالطبع، فحتى العدو نفسه بعث رسائله الكثيرة في هذا الشأن إلى دمشق، والعنوان دائماً: استخدام المطار لنقل شحنات الأسلحة الإيرانية إلى الجيش السوريّ وحزب الله، وإلى قوات إيرانيّة مفترضة موجودة في سوريا، تهدّد كيان الاحتلال وتخطّط مع دمشق للحرب ضدّه.
ورغم تلك المعرفة بما سيحصل في أيّة لحظة، ورغم رسائل النار الإسرائيلية، لم تتوقّف الطائرات الإيرانية عن الهبوط في مطار دمشق، كما لن يتغيّر أيّ شيء على مستوى الحركة العسكرية والاقتصادية لمحور المقاومة في سوريا.
والآن، على الراغبين في الحرب، صدقاً أو زوراً، أن يعلموا أنّها قادمة لا محالة، وأنها باتت قريبة جدّاً، ليس لأنّ الصلف الإسرائيلي قد تجاوز كل الخطوط الملوّنة، بل لأنّ العمل جارٍ على قدم وساق على طول جبهات محور المقاومة، العسكرية والعلمية، لبلوغ تلك اللحظة الفاصلة في تاريخنا العربيّ.
كما عليهم أنْ يدركوا أيضاً أنّ موسكو وقواتها الجوية الموجودة في سوريا تقع خارج حسابات دمشق وحلفائها في محور المقاومة، سواء لجهة الحرب مع كيان الاحتلال المؤقّت، أو لجهة الدفاع عن سوريا في وجه اعتداءاته الحالية، بل إنّ القيادة السياسية والعسكرية السورية بعيدة كل البعد عن “حالة الغضب” المفترض من روسيا، التي يُروى عنها الكثير في الأوساط الشعبية والإعلامية، لأنّ دمشق، ببساطة شديدة، تدرك أبعاد مصالح صديقها الروسيّ هذا وتشعّباته، كما تعي أنّ موسكو ليست عضواً في محور المقاومة، بل ليست عدوّاً للعدو الإسرائيلي، كما أنها ليست جمعية عسكريّة خيريّة تحت الطلب.
والأهمّ من هذا كله، لا يعرف أحد أكثر من دمشق أنّ اتفاقياتنا العسكرية مع موسكو لا تتضمّن أن تقاتل عنّا أو معنا ضد العدو الإسرائيليّ، بل إنّها حاولت أنْ تضطلع بدور مختلف تماماً، يرتكز على سعيها على عدم انفجار الجبهة السورية مع هذا العدو، والوجود كعنصر ضامن ومطمْئِنٍ لدى الطرفين على السواء، فيما حاولت آلة الدعاية الإسرائيلية والعربية العاملة في فلكها أنْ تخترع صراعاً كبيراً بين موسكو وطهران في سوريا، وخصوصاً على الجبهة الجنوبية، وفي الملف الإسرائيليّ تحديداً، وفي هذا الكثير من الادّعاءات والأكاذيب الهادفة.
ولعلّ فشل موسكو في أنْ تكون “وسيطاً” يضمن عدم تدحرج الأمور، هو أوّل الدلائل على وجود القوة الروسية خارج حسابات دمشق ومحور المقاومة على هذا الصعيد، لا لأنها فشلت في سعيها لدى المحتل ليوقف اعتداءاته، بل لأنها أيضاً لم تستطع ثني دمشق وحلفائها عن تهيئة الجبهة والاستعداد الحثيث للحرب على كل المستويات، وهو تحديداً ما دفع قيادات الكيان إلى الجنون وقصف مدرج المطار الأخير، لمعرفتهم بعدم حدوث أيّ تغيير على مستوى التسليح والتطوير والتخطيط على جبهة المحور السوريّة.
المؤكّد لدينا أنّ بإمكان دمشق أنْ ترد على كلّ اعتداءٍ إسرائيليّ، وأنْ تردّ الضربة بضربة، لكنّه أمرٌ بات يخصّ محوراً كاملاً تقع دمشق في وسطه، له حساباته العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية أيضاً؛ محوراً تشير كلّ المعطيات إلى أنّه ذاهب إلى الحرب بخطى ثابتة وواثقة، لكنّ القضية كلّها تكمن لدى “الوقت”، وعندما يتمّ “الردّ”، سيكون “محور القدس” قد قرّر الحرب الشاملة؛ حرب التحرير التي ستندلع على كلّ جبهات المقاومة داخل فلسطين وعلى الحدود وخارجها، من صنعاء إلى دمشق، مروراً بمعسكرات الحشد الشعبي العراقي وحزب الله في لبنان، وعلى كلّ أرض وطئها أو تأمّلها في منظاره عماد مغنية وقاسم سليمانيّ وكلّ ضابط أو جنديّ سوري.
وحتى ذلك الحين، يمكن اعتبار جملة الراحل وليد المعلّم: “في الزمان والمكان المناسبين” بياناً استراتيجيّاً أو جملةً إنشائيّة. وعلى المتضرّر من هذا كلّه، أنْ يلحق بأوّل قاربٍ مغادر، وأنْ يأخذ معه حجراً يرمينا به من خارج مياهنا الإقليمية، مِما بعد ما بعد “كاريش”.
الميادين