نشر موقع ميدل إيست آي (Middle East Eye) البريطاني تقريرا للكاتب الصحفي يوسف سلمان إنانج عن قصة لجوء ملك السويد تشارلز الـ12 (1682-1718 ميلادي) -الذي عرف بمهارته العسكرية وطموحه المتهور- إلى الإمبراطورية العثمانية، حيث قضى سنوات لاجئا بعد أن خسر حربه مع الروس.
ومضى التقرير في سرد أحداث ذلك اللجوء، ففي يوليو/تموز 1709 انتهت آمال مملكة السويد في ترسيخ مكانتها كقوة رئيسية في شمال وشرق أوروبا لصالح الإمبراطورية الناشئة بعد أن هزمت قوات الإمبراطور الروسي بطرس الأكبر (1672-1725) السويديين بمعركة بولتافا في ما تعرف الآن بأوكرانيا.
ستكون هذه الهزيمة الكارثية للسويد بداية انحدار لها كقوة أوروبية كبرى وليس فقط في المنطقة الإسكندنافية، ولكن في ذلك الوقت رفض ملكها تشارلز الـ12 قبول كل الخسائر، وبعث رسالة إلى السلطان العثماني أحمد الثالث (1673-1736 ميلادي) بعد الهزيمة يفيد فيها بنيته البقاء داخل الأراضي التركية لمدة 8 أيام لتجنب الاستيلاء عليها من قبل القوات الروسية، وهو طلب قبله السلطان أحمد رغم الاعتراضات الروسية.
فتح العثمانيون خزائن دولتهم بسخاء لرعاية ضيفهم الملكي، وسمحوا بإقامة مستعمرة سويدية في بلدة بندر في مولدوفا (العثمانية آنذاك)، لكن 8 أيام تحولت إلى 5 سنوات وجعلت الأتراك في خضم حرب مع روسيا، وواجهوا خطر تصعيد الصراع وانتهت في النهاية بمحاولة دموية لإعادة الملك السويدي إلى بلاده.
وكانت فاتورة استضافة الملك السويدي باهظة على الخزانة العثمانية، لأن بقاءه طال لفترة أكثر بكثير مما كان متوقعا.
وعلى الرغم من التكلفة المادية والحربية فإن إقامة تشارلز الـ12 في الإمبراطورية العثمانية سيكون لها تأثير دائم على الثقافة السويدية، مما منح السويد كلمات تركية دخلت قاموسهم وعرف الإسكندنافيون أحد أكثر الأطعمة شهرة، وهي كرات اللحم التي تشتهر بها السويد حاليا.
الحرب مع روسيا
ولد تشارلز الـ12 في ستوكهولم عام 1682، وصعد إلى العرش السويدي عندما كان عمره 15 عاما فقط.
ومع الشعور بأن زعيما شابا وعديم الخبرة سيكون سهل المنال أطلق تحالف من جيران السويد -بما في ذلك روسيا والدانمارك والنرويج وسكسونيا (جزء من ألمانيا وبولندا حاليا)- هجوما ثلاثي الأبعاد على الأراضي السويدية، مما أدى إلى اندلاع حرب الشمال الكبرى في عام 1700.
وعلى الرغم من صغر سنه كان الملك السويدي قادرا على صد الهجمات الثلاث، مما أجبر القيصر الروسي بطرس الأكبر على اقتراح معاهدة سلام، وهو ما رفضه الملك السويدي.
وبدلا من ذلك شن تشارلز الـ12 هجوما ضد الروس، ودخل في صراع دموي طويل الأمد انتهى بهزيمته في بولتافا، ولكنه حتى بعد الهزيمة أظهر نفس العقلية العنيدة التي جعلته يرفض فرصة الموافقة على شروط السلام مع روسيا قبل 9 سنوات.
وأثناء وجوده تحت الحماية العثمانية شرع تشارلز الـ12 في التخطيط للانتقام من الروس بدلا من أن ينعم بامتيازاته في المنفى بامتنان.
وكلف السلطان رئيس حاشيته ثم صدره الأعظم لاحقا يوسف باشا بمسؤولية رعاية تشارلز الـ12.
كان تشارلز الـ12 حريصا على توريط العثمانيين في صراعه مع روسيا، والضغط على السلطان بشكل مكثف لإعلان الحرب، وبذلك أثار الانقسام في ديوان السلطان.
من خلال جهد تضمن الضغط الذكي من قبل تشارلز الـ12 وإثارة مخاوف الإمبراطورية العثمانية تم تجميع قوة تركية كبيرة لمواجهة الروس الذين كانوا في هذه المرحلة غاضبين بالفعل من رفض العثمانيين طرد الملك السويدي وأرسلوا أيضا قوة قتالية لملاقاة الأتراك.
بعد عام من الصراع هُزم الروس ورفعوا دعوى من أجل السلام بشروط وافق عليها العثمانيون، لكن تشارلز الـ12 لم يفعل ذلك، وكانت نقطة خلاف ستؤدي في النهاية إلى توتر العلاقات بين الضيف والمضيفين.
ضيف جامح
على الرغم من الانتصار فإن العثمانيين كانوا حريصين على عدم خرق شروط معاهدتهم مع الروس، وهي الاتفاقية التي كان تشارلز الـ12 حريصا على إلغائها.
لم يكن مثل هذا التدخل في السياسة الخارجية العثمانية موضع ترحيب، وفي النهاية طلب الأتراك من تشارلز الـ12 مغادرة أراضيهم، وهو أمر رفض فعله.
وفي المرة الثالثة التي طلبوا فيها مغادرته قال تشارلز الـ12 إنه سيغادر لكن بشرط أن يرافقه 70 ألف جندي عثماني، وهو طلب كان من المستحيل على الأتراك الالتزام به.
وصلت التوترات إلى ذروتها في فبراير/شباط 1713 عندما اقترب الانكشاريون (قوات النخبة العثمانية) بدعم من حشد من السكان المحليين في بندر (مدينة داخل حدود مولدوفا الحالية لكنها تخضع حاليا لسيطرة جمهورية ترانسنيستريا غير المعترف بها) من منزل الملك السويدي من أجل إلقاء القبض عليه.
اندلع القتال، حيث شارك تشارلز الـ12 في إطلاق النار على الجنود العثمانيين ثم الانخراط في قتال بالأيدي، وبعد مئات الضحايا من كلا الجانبين تم القبض عليه وقضى عاما رهن الإقامة الجبرية، قبل أن يسمح له العثمانيون بالمغادرة.
كان التدخل في السياسات التركية سببا واحدا فقط لانهيار العلاقة بين تشارلز الـ12 والعثمانيين، وأيضا أربكت عادات الإنفاق السويدي حدود الضيافة التركية.
كتب روبرت نيسبت مؤلف كتاب “تشارلز الـ12 وانهيار الإمبراطورية السويدية (1682-1719)” أن “نفقاته أثناء إقامته في تركيا كانت كبيرة جدا.
وفي محنته اعتبر أنه من دواعي الشرف الحفاظ على منزل أكبر بكثير مما كان عليه في أي وقت مضى من العيش الرغيد، وبخلاف الهدايا المتكررة والمكلفة من العربات والخيول والأسلحة فقد سمح الباب العالي لتشارلز الـ12 بإعالته بمبلغ تراوح بين 125 و150 جنيها إسترلينيا في اليوم.
ولوضع ذلك المبلغ في المنظور الصحيح تاريخيا فإن 125 جنيها إسترلينيا في عام 1710 تعادل أكثر من 130 ألف جنيه إسترليني بالنظر للقيمة الشرائية لعملات اليوم.
وبينما جاءت بعض تلك الأموال من الخزائن العثمانية كان الباقي من قروض قدمها التجار المحليون.
وبحلول الوقت الذي غادر فيه الإمبراطورية العثمانية في عام 1714 بإذن من السلطان كان تشارلز الـ12 قد تراكمت عليه ديون تزيد على مليون كرونة سويدية، والتي قيل إنها كانت أكثر من 3 أضعاف ميزانية السويد في ذلك الوقت.
الديون والطعام
عندما غادر تشارلز الـ12 كان برفقة حاشية من الجنود والتجار العثمانيين الذين أرادوا سداد قروضهم، وبعد وصولهم استقر معظم هؤلاء التجار في السويد، مما أدى إلى ظهور المجتمعات التركية السويدية الأولى المسماة “أسكرسون” المشتقة من الكلمة التركية “عسكر”.
وضمن مرسوم ملكي حرية التعبير الديني لهؤلاء التجار المسلمين، فقد تم استيعابهم في نهاية المطاف ضمن السكان السويديين وفقدوا كل أثر لثقافتهم الأصلية ودينهم.
ولم يتم حل مشكلة الديون قبل وفاة تشارلز الـ12 في المعركة ضد الدانماركيين والنرويجيين عام 1718، واضطر العثمانيون إلى إرسال مبعوث عام 1727 إلى ستوكهولم لمتابعة الأمر، لكن دون جدوى.
كما لم يحالف الحظ مبعوثا آخر أُرسل عام 1732، لكن الأتراك وافقوا لاحقا على عرض لسداد الديون عبر تزويدهم بالسلاح.
وعندما غرقت سفينة تحمل السلاح شطب العثمانيون الديون، مع إعطاء الأولوية لعلاقتهم مع السويد ومخاوف البلدين بشأن روسيا.
لكن إرث إقامة تشارلز الـ12 في الأراضي العثمانية لم يقتصر على الديون غير المسددة، فقد جلب بالاشتراك مع السويديين الذين رافقوه الطعام التركي مثل وجبة طبق محشي من أوراق الكرنب، وهي مشتقة من الدولما التركية، وأيضا كرات اللحم السويدية الشهيرة التي ترجع أصولها إلى الكفتة التركية.
المصدر : ميدل إيست آي
اقرأ أيضا: استخدمنه لقتل أزواجهنّ! “أكوا توفانا”، قصّة السمّ الذي خلّص النساء من الزواج الإجباري في القرن الـ17