في أكتوبر (تشرين) عام 1969، كان الزعيم الصيني ماو تسي تونج يستعد للانتقال إلى مدينة ووهان للاحتماء بقبو نووي، فيما كانت 4 آلاف طائرة حربية صينية تنتشر في سماء شمال البلاد مع 940 ألف جندي و600 مركبة حربية على الأرض.
كانت بكين حينها تستعد لهجوم نووي من الاتحاد السوفيتي، وكان العالم يترقب خوفًا من الانزلاق إلى حرب نووية لا تبقي ولا تذر، وكخطوة استباقية حذّر وزير الخارجية الأمريكية حينها هنري كسينجر السفير السوفيتي في أمريكا من أنه مع أول ضربة نووية سوفيتية ضد بكين، فإن الولايات المتحدة سوف تطلق صواريخها النووية على 130 مدينة سوفيتية لتزيلها من على الخارطة، لكن، كيف وصل العالم إلى هذه النقطة الحرجة للغاية؟
شيوعية ضد الشيوعية.. هكذا حدث الانقسام بين بكين وموسكو
مع قدوم عام 1949 وقيام الثورة الشيوعية في بكين، برزت البلاد قطبًا فاعلًا جنبًا إلى جنب الاتحاد السوفيتي في المعسكر الشيوعي، نظرًا لحجمها الضخم وتعداد سكانها الذي وصل إلى 540 مليون شخص حينها.
وفي خضم ذلك أبرم السوفيت مع الصينيين اتفاقية صداقة وتحالف ودفاع مشترك عام 1950، والتي دفعت بكين إلى إعلان انحيازها إلى الكتلة الشيوعية في الحرب الباردة ضد الكتلة الرأسمالية، وساعدت هذه الاتفاقية بكين على وضع وتنفيذ خطتها الخمسية عام 1953، وتدفقت إليها الخبرات السوفيتية في أثناء الحرب الكورية لمساعدتها على تدعيم حليفتها كوريا الشمالية.
Embed from Getty Images
جوزيف ستالين وصديقه ما تسي تونج
لكن ذلك التعاون لم يستمر طويلًا، إذ أبدى السياسيون الصينيون امتعاضهم من تبرؤ رأس الاتحاد السوفيتي في حينها نيكيتا خروشيف من ستالين والستالينية، كما عارض ماو تسي تونج سياسة التعايش السلمي التي أطلقها السوفيت، والتي تسمح للدول الشيوعية بالتعامل السلمي مع دول الكتلة الرأسمالية.
فقبل العام 1949، استطاع السوفيت إحكام سيطرتهم على المعسكر الشيوعي بسهولة نظرًا لعدم وجود قوة بحجم الاتحاد تنافسه على القيادة، لكن ومع اشتعال الثورة الشيوعية في بكين، رفضت القيادة الصينية وعلى رأسها ماو تسي تونج لعب دور التابع للسوفيت، الأمر الذي جعل من تحول بكين إلى الشيوعية نقمة على الاتحاد السوفيتي، ومع ذلك ظلت العلاقة بين البلدين قائمة على الصداقة والتعاون حتى بدأ ذلك الانقسام عام 1960، الذي دفع كلا منهما للمنافسة على قيادة العالم الشيوعي، ما أضعف تلك الكتلة الشيوعية أمام الغرب.
وتفاقم ذلك الانقسام بشدة حين غزا السوفيت أفغانستان عام 1979، إذ رأت بكين في خطوة السوفيت محاولة لإحاطتها بدول تابعة للاتحاد بالإضافة إلى قيرغستان وكازاخستان وطاجيكستان، وفضلت أن تتحالف مع الولايات المتحدة والمجاهدين ضد السوفيت، ما جعل الاتحاد السوفيتي يخسر حليفًا قويًا كان يمكنه أن يؤثر في مجريات الصراع مع الغرب.
واستمرت القوتان على النقيض من مواقفهما في كل صراع حتى نهاية العقد وانهيار الاتحاد السوفيتي، مثلما حدث أيضًا في الحرب العراقية الإيرانية، إذ وقفت بكين مع طهران فيما تحالف الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة مع بغداد، كذلك، شنت القوات الصينية حملة عسكرية على فيتنام عام 1979 استمرت شهرًا من فبراير (شباط) إلى مارس (آذار) بسبب توقيع الأخيرة لاتفاقية تعاون وصداقة مع الاتحاد السوفيتي، ونتج عن هذه الحرب القصيرة عشرات الآلاف من القتلى.
وانتقل الانقسام من الساحة السياسية والأمنية إلى الساحة الاقتصادية أيضًا، إذ تهاوى حجم الواردات الصينية من الاتحاد السوفيتي من 954.6 مليون دولار عام 1959 (وهي السنة التي سبقت الانقسام) إلى 20 مليونًا فقط عام 1970، ولم تكن الصادرات الصينية إلى الاتحاد أفضل حالًا، إذ تهاوت هي الأخرى من 1.1 مليار دولار عام 1959 إلى 25 مليونًا عام 1970، فيما انتعشت التجارة بين بكين والولايات المتحدة، إذ كانت قيمة الصادرات الأمريكية إليها حوالي 700 مليون دولار عام 1973.
وفي أواخر الستينيات، اندلعت مناوشات حدودية بين القوتين في أكثر من مرة، وذلك بناءً على سياسة تبنتها القيادة الصينية بشأن الاتفاقيات الحدودية التي جرى إبرامها في القرن التاسع عشر بين موسكو وبكين، والتي وصفتها الأخيرة بالمجحفة.
من ضمن تلك الاتفاقيات ما يتعلق بمنطقة منشوريا في الشمال الشرقي للصين، والتي جرى إقرارها عام 1860 ومنحت روسيا جميع الجزر الواقعة في نهر «أوسوري»، بينما رسمت حدود الصين على الضفة واحدة للنهر فقط، ما حرم بكين من تلك الجزر، وفي عام 1969، انتقلت المناوشات بين البلدين إلى مستوى خطر حول جزيرة «جينباو».
موقعة جينباو.. صراع الحدود السوفيتية-الصينية
في الثاني من مارس من عام 1969، عبر ما يقرب من 30 جنديًّا صينيًّا الحدود الصينية السوفيتية إلى الجزيرة الصغيرة، وبدأت مناوشات بينهم وبين حرس الحدود السوفيتي، وحسب الرواية السوفيتية، والتي ذكرتها مجلة مراجعة العلوم السياسية الأمريكية، فإن الجنود الصينيين أطلقوا النيران على الجنود السوفيت باستخدام مدافع رشاشة في الوقت الذي انبثق فيه جنود آخرون من حفر حفروها الليلة السابقة ليدعموا الهجوم، وبنهاية الهجوم، سقط حوالي 30 جنديًّا سوفيتيًّا.
Embed from Getty Images
جنود سوفيت أثناء الأزمة مع بكين
أما الرواية الصينية التي قدمها المؤرخ الصيني يانج كويسونج في وقت لاحق، فمختلفة قليلًا، إذ يؤكد أن السوفيت هم من أطلقوا النيران أولًا، لكنه يعترف بأن جيش بلاده قد خطط لشيء ما بعبوره الحدود إلى الجزيرة.
إلا أن آراءً أكاديمية كثيرة تميل إلى تصديق رواية السوفيت بأن الصينيين هم من أطلقوا النيران أولًا، وذلك مثل ما ورد في تقرير بحثي نشره الباحث بالكلية البحرية الأمريكية لايل جولدستين عام 2001 تحت عنوان: «العودة إلى جينباو»، وما ورد في كتاب أستاذ العلوم السياسية تايلور فرافيل تحت عنوان: «حدود قوية، دولة آمنة».
وفي الخامس عشر من نفس الشهر، أي بعد أسبوعين من بدء المناوشات، أرسلت القوتان دبابات ومدافع وجنودًا إلى الحدود ليندلع بينهم قتال أسفر عن مقتل ما يقرب من 200 جندي سوفيتي ونصفهم من الصينيين، لتتشكل ملامح التهديد النووي الكارثي الذي أجبر الولايات المتحدة على التعليق.
تهوين الأمريكيين وتهديد السوفيت بالنووي
في الرابع من مارس 1969، صدر تقرير أولي بشأن المناوشات الحدودية بين البلدين، واستنتجت فيه وزارة الخارجية الأمريكية أن تلك المناوشات لا يحتمل أن تتحول إلى أكثر من مجرد مناوشات، وأنها ستتكرر في المستقبل.
وأشار التقرير إلى تاريخ المنطقة المتوتر منذ إبرام اتفاقية ترسيم الحدود عام 1860، وعرض روايتي السوفيت والصينيين بشأن ما حدث، ودلف إلى النوايا الصينية التي وصفها بغير الواضحة، واستبعد فكرة أن يهاجم السوفيت، الصينيين.
Embed from Getty Images
صواريخ نووية
لكن الاستنتاجات الأمريكية سرعان ما ثبت خطؤها بتهديد السوفيت للصينيين بضربة نووية بعد عدة شهور، وفي سلسلة من التقارير اللاحقة لوزارة الخارجية الأمريكية نستطيع تتبع رؤية الأمريكيين للصراع بين القوتين وهي تتحول إلى التشاؤم أكثر بمرور الوقت، حتى وصلت التقارير إلى 28 تقريرًا كان آخرها في الحادي عشر من أبريل (نيسان) عام 1970.
وبعد تلويح السوفيت بالهجوم النووي، بدأت بكين في بناء أقبية نووية تحت الأرض، ولم يجلس الحزب الشيوعي الصيني على مائدة المفاوضات مع الاتحاد السوفيتي إلا حين أعلن الأخير نيته في عدم استهداف برنامج بكين النووي.
بينما تراجع الصينيون عن مطالبهم للسوفيت بالاعتراف بأن اتفاقيات ترسيم الحدود القديمة كانت غير عادلة، وهو ما برره تقرير وزارة الخارجية الأمريكية رقم 26 بتاريخ 10 نوفمبر (تشرين الثاني) بأن بكين تراجعت على إثر التهديدات النووية الجدية من السوفيت.
تقارب مع أمريكا.. العواقب المكلفة للانشقاق
قبيل تفكك الاتحاد السوفيتي بسنوات قليلة، حلت مشكلة الحدود بأن أعطيت بكين جزيرة «جينباو»، (تنازلت موسكو عن بعض الأراضي الأخرى أيضًا لصالح بكين عامي 2003 و2008) لكن هذه الخسارة لم تكن الوحيدة بالنسبة للاتحاد السوفيتي، إذ أدى الصراع بين السوفيت والصينيين إلى انشقاق في الكتلة الشيوعية بلا رجعة، وبدأ تقرب بكين إلى الولايات المتحدة ظنًا منها بأنها ستكون داعمًا لها في مواجهة السوفيت، وهي الخسارة الأكبر للاتحاد السوفييتي من ذلك الصراع، إذ أضعف ذلك من مركزه في الحرب الباردة في مقابل تعزيز للمعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
Embed from Getty Images
نيكسون مع ماو تسي تونج
وفي التقرير السابع والعشرين من وزارة الخارجية الأمريكية بتاريخ الثاني والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) عام 1969، كتب مساعد وزير الخارجية لشئون الاستخبارات هارولد سوندرز إلى هنري كيسنجر مخبرًا إياه بأن الصينيين أطلقوا سراح بحاريْن أمريكييْن كبادرة لإنشاء خط تواصل سري مع الأمريكيين.
وهو ما حدث بالفعل، إذ نفذ كسينجر زيارة سرية للغاية إلى بكين بعدها بعدة شهور، وقام الرئيس الأمريكي نيكسون بزيارة إليها بعد ثلاث سنوات، وكان ذلك بداية التقارب الصيني الأمريكي على مستوى رسمي، وبداية رؤية الصينيين للسوفيت على أنهم خطر أكبر من الأمريكيين، وقد كان ذلك الأمر مكلفًا على المستوى السياسي بالنسبة للاتحاد السوفييتي، وقد عانى من ذلك التقارب حتى سقوطه مطلع التسعينيات.
وتمثلت العاقبة الأخيرة لذلك الصراع في تدشين المشروع الصيني السري «الجبهة الثالثة»، والذي هدف إلى نقل مراكز الصناعة من السواحل إلى قواعد مؤمنة ومنعزلة داخل البلاد، وهو ما مثل نقلة في السياسة الاقتصادية والأمنية للحزب الشيوعي الصيني.
ساسة بوست
اقرأ أيضا: جثمان القذافي يطفو ثانية.. فيديو مريب من الصحراء