تشهد خطوط التماس بين مختلف أطراف النزاع في سوريا وقفا لإطلاق النار منذ سنتين ونصف السنة تقريبا، كترجمة للتفاهمات المشتركة بين الدول الضامنة التي لطالما أكّدت أنّ “النزاع ليس له حلّ عسكري”. وكان آخر هذه التأكيدات خلال مباحثات الجولة الـ18 من مباحثات أستانا التي عُقدت في 16 يونيو/حزيران 2022.
كانت الدول الضامنة، أي روسيا وإيران وتركيا، ومنذ عام 2017 تعتبر أنّ التعاون والتنسيق الثلاثي سيقود إلى تخفيض استخدام القوة العسكرية بين أطراف النزاع في سوريا كأداة للحل، وهو بالفعل ما تحقّق بعد الجولة الـ15 من مباحثات أستانا منتصف فبراير/شباط 2020.
غير أنّ هذا التخفيض لم يكن نتيجة تحقيق اختراق أو حتى تقدّم في المباحثات السياسية سواءً على مستوى الضامنين أو على مستوى أطراف النزاع المحلية، بل بسبب التغيّر الكبير الذي طرأ على قواعد الاشتباك بعد إعلان تركيا عن إطلاق “عملية درع الربيع”، والتي كانت أول اشتباك عسكري مباشر مع قوات الجيش السوري. أي عندما ازداد احتمال المواجهة العسكرية بين القوّات التركية والقوات الإيرانية والروسية؛ كانت هناك ضرورة لخفض التصعيد ليس لمنع التصادم فحسب؛ إنما لضمان استمرار آلية التنسيق الثلاثية بين الدول الضامنة.
بعد اندلاع الصراع في أوكرانيا في فبراير/شباط 2022 تعرّضت قواعد الاشتباك للتغيّر مرة أخرى، وهذه المرة في الجنوب السوري أيضا، فقد زادت القوات الإيرانية من انتشارها ونشاطها العسكري في محافظات الحسكة والرقة وحلب وإدلب ودرعا والقنيطرة والسويداء، بينما غيّرت القوات الروسية من مهامها لتصبح مسؤولة عن ضبط الأمن والاستقرار فقط؛ بعدما كانت معنية بإدارة العمليات القتالية أيضا.
كذلك، فقد باتت القوات التركية أكثر اعتمادا على استخدام القوة المنفردة في سوريا لضمان الأمن القومي لبلادها بعدما كانت تعوّل على أدوات العمل المشترك مع روسيا من دوريات ونقاط مراقبة وغيرها.
بدورها، فقد كثّفت إسرائيل من نشاطها العسكري ضد القوات الإيرانية وقوات الجيش السوري جنوب سوريا؛ نتيجة تراجع التنسيق مع القوات الروسية، وتزايد نشاط وانتشار القوات الإيرانية. وقد شمل ذلك زيادة في عدد طلعات سلاح الجو وتنفيذ عمليات توغل بري في منطقة فضّ الاشتباك (1974).
وللمرة الأولى نفّذت القوات الروسية في يونيو/حزيران 2022 ضربة جوية في قاعدة التنف جنوب سوريا ضد فصائل المعارضة المدعومة من التحالف الدولي، وهو تغيّر ملحوظ في قواعد الاشتباك بين الطرفين والتي تم تحديدها في إطار اتفاق خفض التصعيد (2017).
إنّ التغيّر الواضح الذي طرأ على قواعد الاشتباك في سوريا منذ نهاية عام 2021 وبلغ ذروته بعد اندلاع الصراع في أوكرانيا قد يتسبّب بعودة النزاع بين القوات المحلية وحتى احتمال الصدام بين القوات الأجنبية.
هذا لا يعني التخلي عن قنوات الاتصال والتنسيق بين الأطراف العسكرية بل احتمال تخفيض الاعتماد عليها، على غرار كل العمليات القتالية التي اندلعت بين مباحثات أستانا 1 وأستانا 15، والتي استطاعت فيها قوات الجيش السوري بدعم من روسيا وإيران السيطرة على أكثر من 63% من خارطة النفوذ.
والدافع لاستخدام القوة العسكرية هو الرغبة والاستعداد دائما لاختبار سبل توسيع أو تقليص فارق القوة بين الفاعلين المحليين والدوليين، وبالتالي إعادة رسم خارطة السيطرة والنفوذ من جديد. وفي ظل الظروف الراهنة فإنّ التغيير الأكبر سيطرأ لصالح المعارضة السورية على حساب قوات سوريا الديمقراطية وقوات الجيش السوري.
ويبدو أنّ هناك عودة حقيقية للحل العسكري، ليس بغرض الحسم، إنّما بهدف إرساء صيغة جديدة لضمان الاستقرار والأمن والجنوب السوري قد يكون أول المتأثرين بهذه التغييرات.
حلب أيضا ليست خارج هذا السياق، فالفصائل المدعومة من إيران انتشرت على نحو غير مسبوق في محيطها، وزادت من عمليات الدعم والإسناد لقوات سوريا الديمقراطية في ريف المدينة الشمالي, التي تستعد للصدام مع القوات المدعومة من تركيا.
وفي حال الاصطدام بين الطرفين، لن تتوانى أنقرة في الغالب عن محاولة تغيير قواعد الاشتباك لتأمين المنطقة الآمنة التي تعمل على استكمال إنشائها.
على أيّ حال، إنّ استخدام القوة العسكرية يبقى مرهونا بالقدرة على فهم التغيّر الطارئ على قواعد الاشتباك والاستعداد للمناورة أو اختبار سبل استخدام هذه القوة.
فالنزاع والحلّ العسكري ليس سوى تهيئة لأوضاع جديدة والتهدئة مرة أخرى قبل خفض التصعيد والعودة إلى قنوات الاتصال والتنسيق الأمنية والدبلوماسية.
على أي حال، إنّ التغيّر الطارئ على قواعد الاشتباك في سوريا يعطي مؤشرا قويا على عدم وجود أي حلّ سياسي قريب، وإنّ نظام وقف إطلاق النار الذي تم تفعيله منذ عام 2017 لم يكن قادرا على الانتقال إلى تسوية مستدامة أو تشكيل فرصة لبناء الثقة بعملية سياسية ذات مصداقية.
إنّ الحل السياسي لا يرتبط فقط بجلوس أطراف النزاع على طاولة حوار واحدة، إنّما بتسوية الخلافات بين القوى الدولية.
هذا يحتاج إلى رغبة القوى الدولية الفاعلة في سوريا بإيجاد حلّ مستدام. لقد كانت هناك محاولات مماثلة سابقا لكنّ تلك الرغبة لم تتحوّل إلى اتفاق نهائي أو إلى سياسات إجرائية تتم ترجمتها عبر قرار من مجلس الأمن أو عبر عملية سياسية ذات مصداقية بجدول زمني محدّد وجدول أعمال واضح وقبل ذلك عملية بناء الثقة.
بالنتيجة، إنّ تغيير قواعد الاشتباك في سوريا مرة جديدة وعودة وتيرة التصعيد المرتفعة أو استخدام القوة العسكرية لا تعني أنّ ذلك قد يهيئ لحل سياسي مستدام بقدر ما قد يُشكّل ظروفا جديدة لتهدئة مؤقتة، والتي بدورها ستكون فرصة جديدة للقوى الدولية الفاعلة من أجل التواصل أو إمكانية حل الخلافات فيما بينها.
وكالات
اقرأ أيضا: كمال خلف: أسئلة هامة حول الوساطة الإيرانية بين دمشق وانقرة