تعرضت روسيا لأكبر حملة عقوبات غربية منذ بدء الهجوم على أوكرانيا، لكن بعد شهور من الحرب لا تزال ثروات رجال الأعمال المقربين من فلاديمير بوتين في أمان، والفضل لدولة أوروبية متخصصة في خدمة أصحاب الأموال.
كانت العقوبات الغربية على روسيا قد بدأت منذ أن أعلن فلاديمير بوتين، الأحد 21 فبراير/شباط 2022، الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك في إقليم دونباس الأوكراني، وتصاعدت وتيرة تلك العقوبات وحدتها وشمولها مع بدء الهجوم على أوكرانيا، الخميس 24 فبراير/شباط.
ومع تواصل الهجوم الروسي على أوكرانيا، تزايدت بشكل متسارع عزلة روسيا على جميع المستويات الاقتصادية والسياسية والرياضية، وحتى الثقافية والسينمائية، لكن بعد ما يقرب من 5 أشهر من تلك التحركات غير المسبوقة يبدو أن هناك ثغرات في النظام المالي لدولة أوروبية تمثل طوق النجاة لروسيا ورجالها الأثرياء للبقاء في مأمن من تلك العقوبات.
“ساحة خلفية” للأثرياء الروس
صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه “سويسرا تتحول إلى “ساحة خلفية” لنخبة الأثرياء الروس وثغرة للإفلات من العقوبات الغربية”، رصدت من خلاله تفاصيل قصة مدينة سويسرية صغيرة باتت تعرف باسم “موسكو الصغيرة”.
كانت سويسرا قد أعلنت، في فبراير/شباط الماضي عزمها الانضمام إلى عقوبات الاتحاد الأوروبي المفروضة على نخبة الأثرياء الروس بسبب الحرب على أوكرانيا، وبدا حينها أن هذا البلد الذي لطالما وُصف بأنه مهرب آمن في جبال الألب سيتحول إلى مصيدة للإيقاع بالنخبة المقربة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتعقبها بالعقوبات.
تحتشد شوارع سويسرا بتجمعات مكاتب الشركات الروسية التي أسسها أغنى أثرياء روسيا، وإلى جانبها تقع المقرات الرئيسية للمسؤولين عن خطي أنابيب الغاز الطبيعي “نورد ستريم 1” و”نورد ستريم 2″، ومكتب تجارة الطاقة التابع لشركة “غاز بروم” الروسية.
يملك كثير من المليارديرات الروس منازل وشركات تجارية في سويسرا، حتى إن الصحف السويسرية أطلقت على بلدة “تسوغ” اسم “موسكو الصغيرة”، وقالت مازحةً إن مسؤولي البلدة قد يحتاجون إلى بناء جدار شبيه بجدار قصر الكرملين الرئاسي الروسي حول البلدة.
لم يبدُ الأمر بهذه السهولة للمسؤولين المحليين الستة المكلفين بالإشراف على تنفيذ العقوبات، فقد واجه الفريق صعوبات جمة في تعقب المنازل والشركات المحلية المملوكة رسمياً لأيٍّ من المئات المنتمين إلى النخبة الروسية المدرجة في قائمة الحكومة السويسرية للعقوبات.
وقال هاينز تانلر، المدير المالي لإقليم تسوغ، لصحيفة وول ستريت جورنال إنهم تعسر عليهم استيعاب الأسماء المكتوبة بالأبجدية الكريلية، وعجزوا في غالب الأحيان عن فهم البيانات الواردة في القائمة المكونة من 300 صفحة.
وأشار تانلر أيضاً إلى خشية المسؤولين من تداعيات تلك العقوبات على الاقتصاد المحلي، لا سيما المخاوف من أن تنال العقوبات من سمعة الإقليم الذي طالما عُرف بكونه ملاذاً آمناً للاستثمار الأجنبي. وأوجز تانلر الأمر بالقول: “إنه وقت عصيب على البلاد عامة، وعلى إقليم تسوغ خاصة”.
كم شركة روسية تعرضت لتطبيق العقوبات؟
رغم الجهود المضنية، لم ينجح المسؤولون إلا في تعقب شركة واحدة من بين نحو 30 ألف شركة مسجلة في تسوغ غلبَ على ظنهم أن أحد الأثرياء الروس المفروضة عليهم عقوبات يملكها أو يسيطر عليها.
مع ذلك، تمثل تلك البداية المتعسرة لفرض العقوبات في تسوغ تجسيداً لحال البلد ككل. فقد تعهدت سويسرا بمعاقبة روسيا، إلا أن ذلك التعهد لم يؤدِّ حتى الآن إلى إجراءات فعالة ضد الشركات الروسية التي تمارس التجارة هناك، وقد أثار ذلك مخاوف في عواصم العالم الغربي من أن سويسرا لا تبذل الجهد اللازم لتثبيط مساعي الكرملين والرئيس الروسي.
تمر نحو 80% من تجارة السلع الأساسية الروسية عبر سويسرا، ومعظمها يمر عبر تسوغ ومدينة جنيف. وتشير بيانات اتحاد البنوك في البلاد إلى أن البنوك السويسرية تدير ما يُقدر بنحو 150 مليار دولار من أموال العملاء الروس. وتذهب بيانات واردة عن منظمة مراقبة الشفافية Public Eye التي تتخذ من سويسرا مقراً لها، إلى أن 32 من رجال النخبة المقربة من بوتين يملكون عقارات أو حسابات بنكية أو شركات تجارية، أو جميع ذلك، في سويسرا.
مضت أربعة أشهر منذ أن انضمت السلطات السويسرية إلى العقوبات على روسيا، ومن ذلك الحين أعلنت “أمانة الدولة السويسرية للشؤون الاقتصادية” SECO، وهي الهيئة المسؤولة عن تنفيذ العقوبات، عن تجميد 6.8 مليار دولار من الأصول المالية الروسية، إلى جانب 15 منزلاً وممتلكات أخرى.
في المقابل، أعلنت دول الاتحاد الأوروبي مجتمعةً عن تجميد 14 مليار دولار من أصول مزعومة لنخبة الأثرياء الروسية، شملت أموالاً وقوارب ومروحيات وعقارات، بالإضافة إلى أكثر من 20 مليار دولار من الاحتياطي المالي للبنك المركزي الروسي، وحظرت دول الاتحاد الأوروبي معاملات مالية مع روسيا بنحو 200 مليار دولار. وقد بلغت قيمة الأصول التي أعلنت جزيرة جيرسي البريطانية وحدها عن تجميدها أكثر من 7 مليارات دولار، وقيل إنها كلها مرتبطة بالثري الروسي رومان أبراموفيتش.
والحال كذلك، قدَّم أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي التماسات خاصة إلى المسؤولين السويسريين يحثونهم فيها على بذل المزيد من الجهد لتعقُّب الأموال والممتلكات الروسية. وقال السيناتور الأمريكي روجر ويكر، رئيس لجنة مجلس الشيوخ للأمن والتعاون، للصحيفة الأمريكية إن سويسرا “يجب أن تبذل جهدها لكبح استخدام روسيا للنظام المالي العالمي، لا أن تمكِّنها من ذلك”.
ماذا تقول سويسرا؟
على الجانب الآخر، استنكرت الحكومة السويسرية هذا النوع من الانتقادات، وشددت على أن اعتمادها لعقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا سابقة لها وتحول غير مسبوق في تاريخها، وأنها تبذل قصارى جهدها لتعقب الأصول المدرجة في قائمة العقوبات.
وقالت متحدثة باسم أمانة الدولة السويسرية للشؤون الاقتصادية: “لا يخفى على أحد أن هذا القدر الهائل من العقوبات المفروضة على روسيا وبيلاروسيا، والتعجيل الكبير بهذه العقوبات، تسببا في صعوبات جمة للسلطات المنفِّذة للعقوبات، في سويسرا وغيرها من الدول”.
لا تقتصر العقبات على ذلك، فمع أن سويسرا تحظى بمكانة بارزة بين المراكز المالية العالمية، فإن واقع الأمر أن الجهات التنظيمية المسؤولة عن تنفيذ العقوبات عاجزة لضعف مواردها، ويكفي دليلاً على ذلك أن أمانة سويسرا للشؤون الاقتصادية لم تخصص إلا 10 مسؤولين مكرسين بالكامل للعمل على العقوبات حتى وقت قريب، ثم عينت الحكومة خمسة آخرين بعد ذلك.
بالإضافة إلى ذلك، يقول دبلوماسيون غربيون إن تفاصيل تسجيل الشركات في سويسرا لا تزال تحيطها شبكة محكمة من السرية، ومن ثم يتعذر تعقُّب المالك النهائي للأصول. ويقول مصرفيون سويسريون وخبراء في المراقبة المالية إن العملاء الروس نقلوا مليارات الدولار من أصولهم إلى حيازة زوجاتهم وأطفالهم في السنوات الماضية، بل وزادت وتيرة ذلك قبيل الحرب على أوكرانيا.
بدأ نظام بوتين في التمدد داخل الشبكة المالية في تسوغ السويسرية منذ الأيام الأولى لرئاسته. فقد منحته منظمة من رجال أعمال بارزين في الإقليم، تُدعى منتدى نزع السلاح النووي، “جائزة تسوغ للسلام” لعام 2000 في وقت كان فيه الجيش الروسي يقصف جمهورية الشيشان التي ثارت ضد حكم موسكو.
أما الشركات التجارية المملوكة لأثرياء النخبة الروسية في تسوغ، فأكثرها لم يتأثر بالعقوبات. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، حالة الثري الروسي رومان أبراموفيتش، فهو أكبر مساهم في شركة “إفراز” Evraz PLC، وهي شركة روسية تعمل بالتعدين وصناعة الصلب، ولها ذراع تجاري بارز في إقليم تسوغ السويسري، ومع أن بريطانيا فرضت بالفعل عقوبات على “إفراز”، التي تتداول أسهمها في بورصة لندن، فإن الشركة لم يُفرض عليها عقوبات في سويسرا ولا في الاتحاد الأوروبي.
كيف تشكلت تلك الثغرة إذاً؟
وما يجري في تسوغ لا يختلف كثيراً عما يسري في مقاطعة فينترتور، التي يوجد فيها المقر الرئيسي لشركة “سولزر” Sulzer AG، وهي شركة هندسية سويسرية يملك الملياردير الروسي فيكتور فيكسِلبيرغ 48.8% من أسهمها، وقد أدرجت الولايات المتحدة وبريطانيا فيكسِلبيرغ في قائمة العقوبات، ومع ذلك يقول مسؤول حكومي بولندي ومصادر من وزارة الخارجية السويسرية إنه ما إن شرعت بولندا في فرض عقوبات على تجارة “سولزر”، إلا وضغطت السفارة السويسرية في وارسو على الحكومة البولندية للتراجع عن هذه الخطوات.
قال متحدث باسم وزارة الشؤون الخارجية السويسرية إن القانون السويسري يُجيز للحكومة مساعدة الشركات السويسرية في الخارج، وإن فرض عقوبات على تجارة شركة “سولزر” السويسرية في بولندا يهدد موظفي الشركة في أرزاقهم، ويضر بعملائها.
من جهة أخرى، يقول مسؤولون أمريكيون وأوروبيون إنهم يعوِّلون على الحكومة السويسرية في تعقب شركات نخبة الأثرياء الروسية وعقاراتها في سويسرا وتنفيذ العقوبات المفروضة عليها، لكن تقاليد السرية المالية المتبعة في سويسرا، والمنصوص عليها في قوانين البلاد نفسها، تصعِّب بشدة عملية التعقب ومعرفة الملاك الأصليين للشركات.
سبقت القوانين السويسرية غيرها في السماح للمحامين بإنشاء شركات بالنيابة عن عملائهم، بل ومنحهم الحق في إخفاء هوية المالك بموجب قوانين حفظ السرية بين المحامي وموكله. ولا تتطلب السجلات التجارية في سويسرا من الشركات أن تدرج أسماء المالكين الحقيقيين، وهو ما يسمح لكثير من شركات الملاذات المالية بإخفاء هوية مالكيها في سويسرا، ويقول سياسيون سويسريون معارضون ودعاة الإصلاح المالي، إن كثيراً من رجال الأعمال الروس وغيرهم ممن يحرصون على إخفاء الملكية الحقيقة لأصولهم يستغلون هذه الثغرة في النظام المالي السويسري.
يقول مارك بيث، الرئيس السابق لقسم مكافحة الرشوة التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إن “المحامي السويسري يستطيع إخفاء اسم المالك الأصلي للشركة في قبو منزله، ومع ذلك لا يمكن للسلطات السويسرية أن تعرف هذا الاسم. فالحكومة تعمدت [بما أقرته من قوانين] تعجيز نفسها” عن الأدوات القانونية اللازمة للكشف عن ملاك الشركات.
عربي بوست
اقرأ أيضا: “واشنطن بوست”: هل نجحت رحلة بايدن إلى الشرق الأوسط؟