اسم منظمة اليد السوداء ارتبط تاريخياً بقرابة 21 مليون قتيل، وقرابة مثلهم من المصابين والمفقودين، بخلاف الدمار الكاسح الذي اجتاح أوروبا، وهو ما يقترن أيضاً حتى اليوم بأحداث الحرب العالمية الأولى، أو الحرب العظمى التي هزت سلام هذا الكوكب في مطلع القرن العشرين، والتي من بعدها لم تعد خرائط القوى العالمية كما كانت عليه قبلها.
هذه الحرب الشرسة التي تتصدر كتب التاريخ في حجم أطرافها ونتائجها، مثلها مثل أي شيء آخر في العالم؛ بدأت ببضع رصاصات أطلقها شاب متحمس على ولي عهد النمسا -كواحدة من أبرز القوى العالمية آنذاك- في 28 يونيو/حزيران عام 1914 في قلب العاصمة البوسنية “سراييفو”، هذه العملية التي كانت بمثابة مستصغر الشرر الذي بدأ مستعظم النار في قلب أوروبا، والتي غيرت للأبد صفحات كتب التاريخ؛ وكان وراء تلك الرصاصات الشهيرة منظمة عُرفت باسم “اليد السوداء”.
من هو دراغوتين ديميتريفيتش؟
بدأت قصة تأسيس منظمة اليد السوداء بتخرج دراغوتين ديمتيريفيتش Dragutin Dimitrijević أحد الضباط الشباب في الجيش الصربي نهاية القرن التاسع عشر، والذي وُلد في العاصمة الصربية، بلغراد، في أغسطس/آب عام 1976 لأبوين من طبقة متوسطة تميل للثراء، وعندما أظهر براعة في تلقيه العلوم العسكرية ترقى سريعاً، وحصل على رتبة كولونيل في الجيش الصربي قبل أن يتم الثلاثين من عمره.
ثم لاحقاً انتدب ديميتريفيتش لتدريس التكتيكات العسكرية والحرية في الأكاديمية الصربية للعلوم العسكرية، ثم استطاع بشخصية قوية وحضور كبير أن يتحول إلى أحد أبرز الوجوه في الجيش الصربي، وهو ما ساعده في علاقات متشعبة كانت النواة الأولى لفكرته “القومية” التي أنشاً من أجلها الجماعة السرية: “اليد السوداء، وحصد اللقب الذي اشتُهر به في المراجع التاريخية : “آبيس”؛ وهو اسم الثور المقدس في الحضارة المصرية القديمة.
بعد شعبية كاسحة في أرجاء الجيش الصربي، بدأ ديميتريفيتش (آبيس) في التودد لعدد من كبار ضباط الجيش الصربي وأقنعهم بـ”أيديولوجيته” القومية وطلب منهم الانضمام له لتكوين نواة لجماعة تواجه نفوذ التاج الملكي الصربي، وعلى رأسهم الملك الصربي “ألكسندر الأول”، والذي كانت شعبيته آخذة في التراجع، تراجعت في أوساط الجيش الصربي الجيش، وهكذا وُلد أول هيكل غير رسمي لجماعة اليد السوداء -والتي لم يكن عدد أفرادها الحقيقي معروف بالتحديد-؛ والتي قررت أن تغير نظام الحكم الملكي عبر سلاح الاغتيالات.
اليد السوداء والانقلاب الصربي
بتاريخ 3 يونيو/حزيران سنة 1903، كان (آبيس) أو الكولونيل دراغوتين ديميترييفيتش على رأس عملية انقلاب تستهدف التخلص من الملك “ألكسندر الأول” وزوجته -التي كانت أحد أبرز أسباب استياء ضباط الجيش وغضبهم من الملك- بعد أن تلقى دعم وموافقة من كبار الساسة والقادة العسكريين المدعومين من الإمبراطورية الروسية التي حكمها آل رومانوف آنذاك وكانت لديها تطلعات توسعية في الدول السلافية.
وفي صباح اليوم المشهود هاجمت الفرق العسكرية بقيادة “ديميتريفيتش” القصر الملكي في بلغراد، وجرت معركة بينهم وبين الحرس الملكي، وبعد تبادل إطلاق النار داخل باحات القصر، قام العسكريون باعتقال الملك “ألكسندر الأول” وزوجته وأعدموهما رمياً بالرصاص، وفي خضم الثورة والمعارك تم التنكيل بجثتي الزوجين الملكيين، وبعد الانقلاب الدموي -عرف أيضاً في التاريخ الأوروبي باسم انقلاب مايو/آيار- اجتمعت القوى المتصارعة على الحكم، واتفق الجميع على تعيين “بيتر الأول” ملكاً، والذي كان قد نُفي سابقاً إلى العاصمة البريطانية لندن من قبل “ألكساندر الأول” وأعوانه.
“اليد السوداء”: فلنوحد الصف!
في 6 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1908 أعلنت مبراطورية (النمسا والمجر) ضم أراضي البوسنة والهرسك إلى ممتلكاتها، وإثر ذلك اجتمع عدد من الساسة والمسؤولين السياسيين والعسكريين الصربيين في العاصمة بلغراد، وهو الاجتماع الذي اتفقت جميع أطرافه على خطورة موقف أقلية الصرب في “البوسنة والهرسك”، وتمخض الاجتماع عن الاتفاق على إنشاء منظمة تعمل بشكل سري وتهدف إلى نشر الفكر “القومي” الصربي، وتنفيذ عمليات مقاومة مخابراتية وعسكرية داخل المناطق النمساوية المجرية التي تتواجد بها الأقليات الصربية، وبهذا تستهدف أمراً أكبر وهو جمع شمل الصرب في المنطقة السلافية، وفي مايو\آيار عام 1911 ولدت رسمياً جماعة “اليد السوداء”، والتي دعمتها كل الأطراف السياسة في صربيا تقريباً باستثناء البعض من رجال الملك الجديد “بيتر الأول”.
واختير الاسم تيمناً -وتشابها في الأسلوب- باسم أحد عصابات المافيا الصقلية التي كانت تعمل في أمريكا بشكل سري، بعيداً عن العصابات الكبرى هناك، وكانت أول من استخدم شعار “قبضة اليد أو الكفّ الأسود”؛ للتدليل على نية التخلص من أحد أعدائها.
وكان الهدف الأول للمنظمة هو استخدام الوسائل العنيفة والاغتيالات لتحقيق الغاية الأساسية لها، وهو توحيد المناطق السلافية الجنوبية بما فيها صربيا والبوسنة والهرسك وكرواتيا ومقدونيا وبلغاريا وحتى الجبل الأسود (مونتينيغرو).
عمليات الاغتيال وشرارة الحرب العالمية الأولى
اعتبرت منظمة اليد السوداء إمبراطورية (النمسا والمجر) ألد أعدائها آنذاك العقبة الأساسية أمام تحقيق الوحدة المنشودة مع دول السلاف الجنوبية ،وبدأت بالفعل اليد السوداء في تنفيذ مخططات لعدد من العمليات في (النمسا والمجر) كانت أبرزها محاولة اغتيال الإمبراطور النمساوي “فرانز الأول” عام 1911، والتي باءت بالفشل، وتلتها محاولة أخرى لاغتيال أحد كبار الجنرالات النمساويين “أوسكار بوتيورك” والتي فشلت أيضاً، ولكن في 28 يونيو/حزيران 1914، كان ولي عهد النمسا “فرانز فرديناند” وزوجته في زيارة لسراييفو العاصمة البوسنية، عندما اقتحم مسار ركبهم مجموعة مكونة من 6 أفراد ينتمون لمنظمتي “البوسنة الشابة” و”اليد السوداء” بإلقاء قنبلة على سيارته، وعندما حاول الموكب الفرار حاصروه وأطلقوا النار عليه وزوجته. وكانت تلك الرصاصات هي الشرارة الأولى لرد الفعل الذي هز أرجاء العالم.
بعد أن ألقي القبض على منفذي الاغتيال، اعترف أحد منفذي العملية بأن المخطط الأول والمسؤول عن الاغتيال هو الكولونيل الصربي دراغوتين ديميتريفيتش، فطالبت الحكومة النمساوية صربيا بتسليمها دراغوتين ديميترييفيتش، فرفضت صربيا طلب النمسا، فكان رد الفعل الأعنف بعد 3 أيام فقط من الرد الصربي، وأعلنت امبراطورية النمسا والمجر في 28 يوليو/تموز 1914 الحرب على صربيا.
بعد إعلان الحرب المخيف الذي هز أرجاء الدول الصغرى قبل الكبرى آنذاك، دعمت بريطانيا، كقوة عظمى آنذاك، صربيا، فاشتعلت الحرب العالمية الأولى والتي حاربت فيها (قوى الوفاق) المكونة من بريطانيا وفرنسا وصربيا والإمبراطورية الروسية وإيطاليا واليونان والبرتغال ورومانيا والولايات المتحدة؛ القوى المقابلة وهي قوى (المركز) وتكونت من ألمانيا والنمسا والمجر والإمبراطورية العثمانية وبلغاريا.
وأثناء الحرب، وعام 1916 أصدرت صربيا أمراً ملكياً بحل جماعة “اليد السوداء”، واعتقال أفرادها، وعلى رأسهم مؤسسها آبيس أو دراغوتين ديميتريفيتش، وحُكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص في يونيو/حزيران سنة 1917، وبهذا الإعدام انتهى كل وجود للجماعة الصربية التي غيرت تاريخ العالم.
عربي بوست
اقرأ أيضا: ظاهرة جديدة في درعا.. الق.ـتل بسبب السحر فمن وراءها؟