الغرب يتعب في أوكرانيا.. هل تُفتح أبواب التسوية؟
سميح صعب
ملامح التعب التي بدأ يبديها قادة الغرب حيال الحرب بالوكالة ضد روسيا في أوكرانيا، هل تؤسس لمرحلة من الواقعية السياسية بما يهيء الظروف المناسبة للشروع في حوار جدي مع موسكو لإنهاء الحرب، أم تكون منطلقاً لتصعيد خيار المواجهة معها عبر الدفع بالمزيد من الأسلحة النوعية إلى كييف تمهيداً لحرب طويلة على الطريقة الأفغانية؟
علامات الإرهاق الغربي بادية بوضوح من جراء الجدل الدائر حول القدرة الفعلية للدول الأوروبية على الإستغناء عن موارد الطاقة الروسية، من دون إلحاق أضرار بنيوية في إقتصادات هذه الدول، وألمانيا أسطع مثال على ذلك. إن إنقطاعاً دام عشرة أيام في خط “نورد ستريم 1” قد أحدث بلبلة داخل الإتحاد الأوروبي، الأمر الذي جعل اليورو يهوي إلى أقل من دولار للمرة الأولى منذ بدء العمل بالعملة الموحدة قبل عشرين عاماً، ودفع بالبنك الأوروبي إلى رفع أسعار الفائدة بمقدار نصف نقطة لمكافحة موجات التضخم غير المسبوقة منذ أيام “الصدمة النفطية” عام 1973. وهذا إجراء ستدفع تكاليفه دولة مثل إيطاليا تزيد ديونها على 2.6 تريليون دولار أو ما يوازي نسبة 150 في المئة من إجمالي الناتج القومي. هل أتت مصادفة إنفراط الإئتلاف الحكومي وإستقالة رئيس الوزراء ماريو دراغي، مع أزمتي الطاقة والتضخم في البلاد؟ واليونان التي لم تتعاف كلياً من أزمة المديونية التي ضربتها في العقد الأول من القرن الجاري، مرشحة كذلك لتشهد زيادة في أعباء دفع كلفة الديون.
والإقتراح الذي تقدمت به رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين لخفض إستيراد الغاز الروسي بنسبة 15 في المئة من الآن وحتى نهاية السنة، جوبه برفض قاطع من أسبانيا، لأن ذلك يتطلب تقنيناً حاداً في إستهلاك الطاقة في الدول الأوروبية في الخريف والشتاء المقبلين. وماذا عن مصير الكثير من الصناعات في هذه الحال؟
لا شك أن ثمة ملامح تعب غربي من الحرب الأوكرانية. ولا حاجة إلى التعمق كثيراً في إتفاق الحبوب برعاية تركيا والأمم المتحدة، لإكتشاف أن ثمة ميلاً جدياً لدى الأطراف لسبر غور تسوية ما في أمد غير بعيد، وإلا الجميع ذاهبون إلى ما لا تحمد عقباه
تصير المسألة هنا وكأن أوروبا تعاقب نفسها وليس روسيا. ويصف رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الوضع في الإتحاد الأوروبي على النحو الآتي:”كنت أعتقد بداية أننا أطلقنا فقط رصاصة على قدمنا، لكن الإقتصاد الأوروبي أطلق رصاصة على صدره واختنق”. كان هذا القول مقدمة لإبرام المجر إتفاقية على زيادة وارداتها من الطاقة الروسية قبل أيام قليلة.
تعيش أوروبا أزمة شديدة التعقيد. فقد أضطرت كندا تحت الإلحاح الألماني إلى إصلاح أحد التوربينات العائدة لخط “نورد ستريم-1” الذي كان سبباً في وقف الإمدادات عبر الخط من 11 تموز/يوليو لغاية 21 منه. لكن عملية الإصلاح أثارت سخط الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي إعتبر ذلك بمثابة تساهل ألماني وكندي في تطبيق العقوبات الغربية وتالياً المساهمة في قتل الشعب الأوكراني، من خلال توفير موارد مالية لموسكو. وبكلام آخر، يدفع الرئيس الأوكراني الغرب إلى الشعور بأزمة أخلاقية في حال إستمر بإقامة أدنى العلاقات مع روسيا.
ويخشى زيلينسكي بعدما فقد سنده الأوروبي الأقوى ممثلاً برئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، أن يتخلخل الدعم الغربي لأوكرانيا. جونسون كان أشد الممانعين للدخول في أي تسوية مع روسيا والمضي في دعم كييف حتى تحقيق الإنتصار على موسكو. هذا ما يفتقده زيلينسكي في الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس. ومن المؤكد أن زيلينسكي يطلع على إستطلاعات الرأي في الدول الأوروبية، التي تؤيد بنسبة كبيرة إيجاد تسوية سلمية للنزاع الروسي ـ الأوكراني.
وفي الولايات المتحدة نفسها، تشير التوقعات إلى أن الإنتخابات النصفية في الخريف المقبل ستحدث هي الأخرى، تحولاً في الموقف الأميركي. هذا الموقف الذي يتلخص حتى الآن بتقديم إدارة الرئيس جو بايدن أكثر من 8 مليارات من المساعدات العسكرية لأوكرانيا بينما خصص لها الكونغرس مساعدة إقتصادية بقيمة 40 مليار دولار، وصفتها مجلة “الإيكونوميست” البريطانية بأنها أكبر من موازنات دول أوروبية كثيرة. وزودت واشنطن كييف بأنواع مختلفة من الأسلحة آخرها مدافع “هاوتزر” وراجمات “هيمارس” التي يبلغ مدى صواريخها ما بين 80 كيلومتراً و300 كيلومتر. وإشترطت الإدارة الأميركية على كييف عدم قصف الأراضي الروسية بهذه الراجمات كي لا تثير صداماً مباشراً بين الناتو وروسيا. كما أن العدد يقتصر حتى الآن على توفير 3 راجمات من هذا النوع لأوكرانيا بينما الراجمة الرابعة على الطريق، وكأن المسؤولين الأميركيين يرصدون تأثير هذا السلاح النوعي على المعركة وهل ستتقيد كييف بشروط الإستخدام. بيد أن القيادة الأوكرانية بدأت تتحدث عن التحضير لتدمير الأسطول الروسي في البحر الاسود ومهاجمة شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام 2014، وعن تجنيد مئات الآلاف لشن هجوم معاكس لإستعادة منطقة خيرسون!
إن الخوف من حرب طويلة، قد يكون الدافع من وراء تكثيف إدارة بايدن تسليح أوكرانيا، كماً ونوعاً، وذلك بهدف إحداث توازن في الميدان يفتح باب التسوية مع روسيا. والملاحظ، أن بايدن نفسه بدّل لهجة الحديث عن هزيمة روسيا إلى الحؤول دون هزيمة أوكرانيا في الحرب
ربما بدأت التعقيدات التي يمكن أن تقود إليها الحماسة الديموقراطية في دعم أوكرانيا، تؤسس لحالة من الحذر في الرأي العام الأميركي ولدى الجمهوريين المؤيدين لدونالد ترامب، في ما يمكن أن تؤول إليه المغالاة في الدعم الأميركي لأوكرانيا. لهذا، يخشى بايدن أن يؤثر إحتمال إنتقال السيطرة على مجلسي الكونغرس إلى الجمهوريين في الإنتخابات النصفية في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، على الدعم المستقبلي لأوكرانيا. وأظهر إستطلاع أجراه معهد “يوغوف” مؤخراً أن 43 في المئة من الأميركيين يدعون إلى عدم الذهاب بعيداً في هذا الدعم، في ظل الخوف من تورط مباشر في الحرب، والخشية من الأعباء الإقتصادية التي تترتب على هذه الحرب وفي مقدمها التضخم.
إن الخوف من حرب طويلة، قد يكون الدافع من وراء تكثيف إدارة بايدن تسليح أوكرانيا، كماً ونوعاً، وذلك بهدف إحداث توازن في الميدان يفتح باب التسوية مع روسيا. والملاحظ، أن بايدن نفسه بدّل لهجة الحديث عن هزيمة روسيا إلى الحؤول دون هزيمة أوكرانيا في الحرب.
توماس فريدمان قال في عموده بصحيفة “النيويورك تايمز” إن رهان الغرب، هو على قلب نتيجة الحرب في ما تبقى من أشهر الصيف، بينما رهان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هو على “حليفه” الشتاء لتحقيق ما عجز عن تحقيقه حتى الآن.
ومن الملفت للإنتباه أيضاً أن رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير يسلم منذ الآن بقيام عالم متعدد الأقطاب على أنقاذ الحرب الأوكرانية، وأن الصين هي قوة عظمى قادمة.
ولن يغير من هذا الواقع الجيوسياسي الجديد الزيارة المزمعة لرئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان. بل قد تجعل الصين أكثر تصميماً على عدم السماح بنشوء أوكرانيا أخرى على حدودها.
لا شك أن ثمة ملامح تعب غربي من الحرب الأوكرانية. ولا حاجة إلى التعمق كثيراً في إتفاق الحبوب برعاية تركيا والأمم المتحدة، لإكتشاف أن ثمة ميلاً جدياً لدى الأطراف لسبر غور تسوية ما في أمد غير بعيد، وإلا الجميع ذاهبون إلى ما لا تحمد عقباه.
180 بوست