لعلّ أكثر المشاهد الدرامية المحفورة في ذاكرتنا الجماعية، هو ذلك الموجود في فيلم “تيتانيك” الشهير (1997)، والذي يصوّر زوجَين مُسنَّين مُتكّورَين بهدوءٍ في سريرهما، وهما ينتظران الموت عندما بدأت السفينة تغرق.
ورغم أن لحظةً مماثلة قد تبدو سينمائية للغاية، ويصعب تصديقها، فإنها في الواقع مبنية على قصة حقيقية لزوجين من الحياة الواقعية؛ وهما إيزيدور وإيدا شتراوس، والفيلم يصوّر قصّتهما كما هي، مع إدخال بعض العناصر الدرامية المفهومة.
فرغم أن الزوجين ربما لم يموتا في سريرهما، كما يصوّر فيلم “تيتانيك”، لكنهما في الواقع لم يبذلا أي مجهود لمحاولة الهرب من السفينة أثناء غرقها في المحيط الأطلسي. وبدلاً من ذلك، اختارا الموت معاً.
من حياتهما السعيدة معاً، إلى رفضهما الانفصال حتى في لحظات النهاية المريرة.. إليكم القصة المؤثرة لـ”إيدا شتراوس”، المرأة التي فضّلت الغرق مع زوجها “إيزيدور”، بدلاً من تركه وراءها.
قصة حب إيدا شتراوس وإيزيدور
منذ البداية، بدا الأمر كما لو أنه كان مقدَّراً لهذا الثنائي أن يكونا معاً. كانا يشتركان في تاريخ الولادة نفسه (6 فبراير/شباط)، وكلاهما من أصلٍ يهودي، وهاجرا من ألمانيا إلى أمريكا في وقتٍ مُبكر من حياتهما.
تزوجت إيدا شتراوس من إيزيدور عام 1871، وكان يعمل في شركة والده “شتراوس وأبناؤه”، حين كانت علامةً تجارية للفخار قبل أن تُدمَج لاحقاً في قسم الزجاج والصيني مع محلات Macy’s الأمريكية الشهيرة.
عمل إيزيدور بجدّ، من دون أن يستفيد من امتياز كونه ابن صاحب الشركة، لا بل كان كادحاً ونشيطاً في عمله؛ حتى وصل في النهاية لأن يُصبح مالكاً مشاركاً لسلسلة Macy’s بأكملها.
من جهتها، كانت إيدا شتراوس ربة منزل وأم مشغولة للغاية، بعدما أنجبت سبعة أطفال (توفي واحد، يُدعى كلارنس، في سن الثانية تقريباً). ورغم أن إيزيدور كان مشغولاً طوال الوقت، إضافةً إلى واجباته كعضو في الكونغرس الأمريكي لمدة عام، قيل إن الزوجين كانا قريبين بشكلٍ خاص ولافت.
ووفقاً لموقع The Vintage News، فقد كان الزوجان يتراسلان كلما سافر إيزيدور في رحلة عمل. لقد كانا في حالة حُبٍّ شديدة، وكانا يكرهان حقاً أن ينفصلا عن بعضهما. كان حبهما جميلاً ونادراً، ويصعب العثور على عاشقين مثلهما.
المكان الخطأ في الوقت الخطأ
نظراً لأن حاملي التذاكر رقم 17483 ينزلون بالعادة في كابينة C55، لم يخطط إيزيدور وإيدا شتراوس -في الأصل- للسفر على متن سفينة “تيتانيك” من ساوثهامبتون. في الواقع، لم يكن من المقرر أن يكونوا في أوروبا في ذلك الوقت.
وفي أي عامٍ آخر، كان الزوجان يقضيان إجازتهما في جنوب كاليفورنيا مع شريك أعمال إيزيدور، السيد أبراهام؛ لكن موت أبراهام المفاجئ استدعى من الثنائي تبديل خطتهما في اللحظة الأخيرة.
كان من المقرّر أن يسافر الزوجان إلى نيويورك، مع العاملة الإنجليزية التي وظفاها حديثاً. لكن كان على السفينة، التي خطّطا لاستقلالها، أن تمنح فحمها إلى سفينةٍ أخرى بسبب إضراب عُمّال الفحم في إنجلترا آنذاك.
كانت هذه السفينة جديدة ومشهورة جداً، وتقوم برحلتها الأولى. وكان من المُحتمل أن يكون هناك تغييرٌ مثير لخطة ركوب السفينة الفاخرة التي ستعبر المحيط، نتحدث هنا عن “تيتانيك”.
ورغم أنها وُصفت بـ”السفينة غير القابلة للغرق”، فإن الرحلة على متن “تيتانيك” جلبت المأساة -بدل الإثارة- إلى إيدا وإيزيدور والكثير من العائلات التي خسرت أحد أفرادها، الذين كانوا على متنها.
ووفقاً لموقع ati الأمريكي، فإن ابنة عم إيزيدور كانت تعرف بالفعل مصير الزوجين قبل أن تنكشف الأمور، بعد غرق السفينة وبدء انتشار الأخبار عنها من حول العالم.
وتقول السيدة سامويل بيسينغر: “بمعرفتنا للسيدة شتراوس، نحن على يقين من أنها، بدلاً من ترك زوجها، بقيت على متن السفينة. إذا لم يسُمِحَ له بدخول أحد القوارب الصغيرة، فقد ضاع كلاهما بلا شك”.
إيدا شتراوس وليليتها الأخيرة على تيتانيك
بعد أن بدأت عمليات الإجلاء في تلك الليلة من يوم 15 أبريل/نيسان 1912، كانت إيدا شتراوس وزوجها يقفان على سطح السفينة بجوار قارب النجاة رقم 8. حاول الكولونيل أرشيبالد غرايسي، وهو أحد الركاب الذي كان صديقاً لإيزيدور، إقناع إيدا شتراوس بركوب قارب نجاة.
كادت أن تفعل ذلك، لكن إيزيدور رفض اللحاق بها، لأن هناك نساءً وأطفالاً كانوا لا يزالون خارج قوارب النجاة، قائلاً لصديقه غرايسي: “لن أذهب قبل الرجال الآخرين”.
فرفضت إيدا شتراوس أن تذهب بقارب النجاة من دون زوجها، ووقفت إلى جانب إيزيدور، قائلة: “لقد عشنا معاً لسنوات عديدة. سأذهب أينما تذهب”.
حرص الزوجان على تأمين مكانٍ للعاملة الجديدة -التي كانت برفقتهما- على متن قارب النجاة، ومنحها إيزيدور معطف إيدا الطويل لإبقائها دافئة، بعدما أخبرتها إيدا أنها لن تكون بحاجةٍ إليه.
مرة أخرى، قدّم شخصٌ ما على متن قارب النجاة مقعداً لإيدا. ومع علمها بأن زوجها لن يصعد إلى القارب حتى تُجلَى كل امرأة وطفل، فقد استمرّت في الرفض، قائلةً: “كما عشنا معاً، سنموت معاً”.
في المرة الأخيرة التي رأى فيها أي شخص إيدا وإيزيدور، كانا جالسين جنباً إلى جنب على على سطح السفينة، بينما استمرت السفينة في الغرق. وفي النهاية، ابتلعهم المحيط.
تراث إيدا وإيزيدور شتراوس
بعد إنقاذها من قارب النجاة، نقلت إيلين بيرد -العاملة- قصة الإخلاص المتبادل ما بين إيدا وإيزيدور شتراوس، وكان لها صدىً واسعاً لدى الناس في جميع أنحاء العالم.
عثر الباحثون في النهاية على جثة إيزيدور. كان في جيبه قلادة من الذهب والعقيق فيها صور لطفله الأكبر. وكان لا يزال يرتدي معطفه المبطن بالفراء.
لم يُعثَر على جثة إيدا أبداً، ولا على جثة العاملة جون فارثينغ.
أُطلِقَ اسم الزوجين على حديقة في مانهاتن “متنزه شتراوس”، ونُصِبَ تمثالٌ برونزي لحوريةٍ تُطلّ على المياه داخل الحديقة.
بعد إنقاذ إلين بيرد، اتصلت بابنة الزوجين سارة، من أجل إعادة المعطف الفرو الذي أعطتها إياه إيدا. شكرتها سارة لكنها طلبت منها الاحتفاظ به، قائلة: “هذا المعطف لكِ. أريدك أن تحتفظي به كذكرى من أمي”.
دُفِنَ إيزيدور في مقبرة “وودلون” في برونكس، نيويورك، داخل تابوتٍ كُتِبَ عليه: “الكثير من المياه لا تستطيع إخماد الحب، ولا الفيضانات يمكن أن تغرقه”.