الجمعة , نوفمبر 22 2024

خصخصة الأمن.. الشركات العسكرية تقود الحروب الجديدة

خصخصة الأمن.. الشركات العسكرية تقود الحروب الجديدة

كما في كل الحروب تعود قضية المرتزقة إلى الواجهة، فبعد تأكيد ممثل ما يسمى بـ “الفيلق الدولي” داميان ماجرو، في حزيران/يونيو الماضي، أنّ مقاتلين من 55 دولة يشاركون في القتال إلى جانب كييف، كجزء من الفيلق الذي أنشأته السلطات الأوكرانية، لا بد من التساؤل عما إذا كان استقدام المقاتلين رغم أعدادهم الكبيرة، سيبقى فردياً وفق ما تقول الدول المساندة، أم أنّ ذلك سيصبح ضمن إطار الشركات الأمنية العسكرية، التي وإن تنصّلت دولها من مسؤوليّتها عنها، إلاّ أنّها تبقى أذرع جيوشها المخفية.

الولايات المتحدة، مثلاً، التي أججت الصراع في أوكرانيا من خلال إمدادها بمليارات الدولارات من المساعدات العسكرية والأسلحة الفتاكة، والتي لا تخوض الحروب على أراضيها، أصبحت منذ فترة بعيدة تتجنب الاعتماد بشكل كامل على جيشها في نقاط عدة من العالم، ما يعزز فرضية تدخل مثل هذه الشركات مستقبلاً في الحرب الأوكرانية.

أسباب عديدة تدفع الدول والحكومات إلى خصخصة الإمكانات والطاقات و”تعهيدها” لمثل هذه الشركات، لعل أهمها التكلفة السياسية الكبيرة التي تحدث عند مقتل جنود نظاميين فوق أراضي دول أخرى وفي مهام لا تخص الأمن القومي للدولة المعنية، وإبعاد الحكومة الراعية عن أي مساءلة أمام الرأي العام فيما يتعلق بمقتل الجنود وبتدخلاتها الخارجية، خصوصاً تلك السرية.

وعلى صعيد آخر، تجد الدول في الشركات العسكرية الخاصة طريقاً بديلاً مختصراً، لا يضطرها إلى الاستثمار ببنيتها العسكرية أكثر من اللازم، ويساعدها على التوفير في ميزانياتها وتخفيف الأعباء المادية والبشرية عن كواهلها، لأنّ التكلفة المالية لمثل هذه الشركات منخفضة نسبياً.
ما هي الشركات الأمنية؟

عرفت الأمم المتحدة شركات الخدمات الأمنية والعسكرية الخاصة بأنّها شركات ذات كيان قانوني، تقدم لقاء مقابل مادي خدمات عسكرية-أمنية بواسطة أشخاص طبيعيين أو كيانات قانونية، بما في ذلك التخطيط الاستراتيجي والاستخبارات والتحقيقات وعمليات الاستطلاع البري أو البحري أو الجوي، وعمليات الطيران أياً كان نوعها، والمراقبة بالأقمار الصناعية. أمّا الخدمات الأمنية، فتتضمن حراسة أو حماية المباني والمنشآت والممتلكات والأشخاص بواسطة حرس مسلحين، وأي نوع من أنواع نقل المعارف بواسطة تطبيقات أمنية أو تطبيقات حفظ النظام، واتخاذ تدابير أمنية لأغراض الرقابة وتنفيذها.

هذا التعريف يجعل تعريف المرتزقة الوارد في المادة الأولى من الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم، الصادرة عام 1989، غير منطبق على موظفي هذه الشركات إذا ما عملوا بشكل قانوني، إلا أنّ الحالة ليست على هذه الصورة على الدوام.

ويشير مفهوم صناعة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، بصورة عامة، إلى شركات تجارية تبرم عقوداً قانونية تهدف بالأساس إلى تحقيق الربح مقابل ما تقدّمه من خدمات تتعلق بالمجال الأمني.
“بلاك ووتر”.. ما فعلته “فيديكس” لخدمة البريد

سياسة المقاتل البديل ظهرت جلياً عندما تشكلت شركة “بلاك ووتر” في الولايات المتحدة الأميركية في العام 1997، من قبل آل كلارك، ورجل الأعمال الأميركي والضابط السابق في مشاة البحرية إيريك برينس، في ولاية كارولينا الشمالية، لتوفير الدعم في مجال التدريب للمنظمات العسكرية.

وفي معرض شرحه لأهداف “بلاك ووتر”، قال برنس: “إننا نحاول أن نفعل لجهاز الأمن القومي ما فعلته فيديكس لخدمة البريد”.

وتعتمد الشركة على مرتزقة من المتقاعدين والقوات الخاصة، من مختلف أنحاء العالم، مقابل تعويضات مالية مجزية، وتقدم خدماتها العسكرية والأمنية للحكومات والأفراد بعد موافقة الإدارة الأميركية.

ولعبت الشركة الأمنية الأميركية دوراً مهماً خلال حرب العراق كمقاول لحكومة الولايات المتحدة. وفي العام 2003، حصلت “بلاك ووتر” على أول عقد رفيع المستوى عندما تلقت عقداً بقيمة 21 مليون دولار لحراسة رئيس سلطة التحالف الموقتة بول بريمر. وفي حزيران/يونيو 2004، تلقت الشركة أكثر من 320 مليون دولار من أصل مليار دولار من ميزانية وزارة الخارجية لخمس سنوات لخدمة الحماية الشخصية العالمية، التي تحمي المسؤولين الأميركيين وبعض المسؤولين الأجانب في مناطق الصراع. وفي العام 2006، حصلت “بلاك ووتر” على عقد لحماية الدبلوماسيين في السفارة الأميركية في العراق.

وكانت الشركة تورطت في جرائم قتل كثيرة، أبرزها مجزرة ساحة النسور، ففي العام 2007 أطلق 4 “حراس أمن” أميركيون النار على مدنيين عراقيين، فأردوا 17 قتيلاً وأصابوا 17 آخرين. المحاكمة تابعها العالم بشغف لأسباب كثيرة، فإضافة إلى مقتل مدنيين عراقيين في بلدهم على يد “عسكريين” أميركيين، عرف المتابعون أنّ “العسكريين” ليسوا جنوداً بالمعنى المعروف، لكنهم عناصر يعملون في شركة “بلاك ووتر” الأمنية الأميركية، وحينها أدرك العالم أنّ مقاتلي “القطاع الخاص” باتوا واقعاً، وبدأ البحث عن الشركة وأصلها وتأسيسها وطبيعة عملها.

هذه المجزرة أثارت غضباً دولياً من استخدام الشركات الأمنية الخاصة في الحروب، ودين 4 من أفرادها بالسجن بين المؤبد و30 سنة، لكن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أصدر، في 22 ديسمبر/كانون الأول 2020، عفواً عن عناصر “بلاك ووتر” الأربعة، ما أثار استياءً من السلطات العراقية.

وبسبب الفضائح التي لاحقتها إبان احتلال العراق، غيّرت “بلاك ووتر” اسمها إلى “Service Xe ” في 2009، ثم “أكاديمي” في 2011، بعد أن استحوذت عليها شركات منافسة وأصبحت تحت لواء مجموعة “كونستليس”، التي تنشط في 20 بلداً وتوظف أكثر من 16 ألف شخص.

ويتركز نشاط “بلاك ووتر” باسمها الجديد في اليمن، إذ كشفت تقارير إعلامية توقيع مؤسسها عقود مع الإمارات والسعودية للقتال في اليمن إلى جانب التحالف السعودي.

وبلغ عدد من جندتهم الشركة في 2015 نحو 1500 مرتزق، من كولومبيا وجنوب أفريقيا والمكسيك وبنما والسلفادور وتشيلي، قتل بعضهم في المعارك خصوصاً في تعز.
برامج “e127”.. حروب بالوكالة

وتعتبر برامج “e127” السرية جزءاً من أساليب واشنطن وأدواتها في خوض حروب بالوكالة، وهي العقيدة التي تبلورت في الإدارات الأميركية المتعاقبة، والتي توصلت، بجانب منها، إلى تجهيز وتطوير وتدريب مجموعات عسكرية وأمنية ودسها في الدول المستهدفة، وقد تكون جزءاً من جيوشها وتأتي تحت مسميات متعددة.

وتشارك قوات العمليات الخاصة الأميركية في برنامج الحرب بالوكالة على نطاق أوسع بكثير مما كان معروفاً في السابق، وفقاً لوثائق حصرية ومقابلات مع أكثر من عشرة من المسؤولين الحكوميين الحاليين والسابقين، حسبما نشر موقع “Intercept”.

يعرف هذا البرنامج باللغة العسكرية باسم “127echo”، وقد كان فاعلاً في ملاحقة الخصوم من دون تعريض حياة الأميركيين للخطر، وهو واحد من عدة سلطات غير معروفة تقريباً منحها الكونغرس لوزارة الدفاع على مدى العقدين الماضيين، والتي تسمح لقوات الكوماندوز الأميركية بإجراء عمليات على هامش الحرب وبأقل قدر من الإشراف الخارجي.

وفي حين أُبلغ سابقاً عن استخدام البنتاغون لسلطة “e127” السرية في العديد من البلدان الأفريقية، تقدم وثيقة جديدة جرى الحصول عليها من خلال قانون حرية المعلومات أول تأكيد رسمي على أنّ 14 خطة على الأقل، ضمن “e127″، كانت نشطة في الشرق الأوسط ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ حتى العام 2020.

وأكد الجنرال المتقاعد من الجيش، الذي ترأس كلاً من قيادة العمليات الخاصة والقيادة المركزية التي تشرف على الجهود العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، جوزيف فوتيل، وجود أنشطة لـ “e127” في مصر ولبنان وسوريا واليمن.

وفي المجموع، نفذت قوات الكوماندوز الأميركية ما لا يقل عن 23 خطة ضمن البرنامج عينه، في جميع أنحاء العالم، بين عامي 2017 و2020، وتحدد إحدى الوثائق التي حصل عليها موقع “The Intercept” تكلفة عمليات “e127” بين هذين العامين بمبلغ 310 ملايين دولار، وهو جزء بسيط من الإنفاق العسكري الأميركي.

ويمكن إرجاع أصول برنامج “127e ” إلى الأيام الأولى من الحرب الأميركية في أفغانستان، إذ سعى أفراد الكوماندوز ووكالة المخابرات المركزية لدعم التحالف الشمالي الأفغاني في قتاله ضد طالبان، وسرعان ما أدركت قيادة العمليات الخاصة بالجيش أنها تفتقر إلى السلطة لتقديم مدفوعات مباشرة لعملائها الجدد، واضطرت إلى الاعتماد على تمويل وكالة المخابرات المركزية. ودفع هذا إلى انفاق أكبر من قبل قيادة العمليات الخاصة الأميركية (SOCOM) لتأمين القدرة على دعم القوات الأجنبية في مهماتها.
“جي فور اس”.. أكبر “الجيوش الخاصة”

“جي فور أس” واحدة من أكبر شركات الخدمات الأمنية متعددة الجنسيات، وهي بريطانية الأصل، وتوصف بأنها أكبر “جيش خاص” في العالم، مقرّها الرئيسي في كرولي الواقعة جنوب لندن في ويست ساسكس، وتعمل في أكثر من 125 دولة، ولديها أكثر من 650 ألف موظف في العالم، ويُعتقَد أنّها ثاني أكبر شركة خاصة عالمياً، بعد شركة “والمارت”. تتولى مسؤولية الأمن في أكثر من 150 مطاراً في العالم، ويتولى عناصرها وظيفة رجال شرطة في بريطانيا.

بعد بسط سيطرتها داخل قاعدتها التقليدية في أوروبا والولايات المتحدة، بدأت الشركة البريطانية الدنماركية، المعروفة بتنافسيتها الشديدة، بالتوسع في الخارج، وكان الشرق الأوسط هو أحد أهدافها الرئيسة، وتجاوز تكلفة عملياتها في المنطقة 410 ملايين دولار، بأقل من 50 ألف موظف.

ولشركة “جي فور أس” جانب أكثر قتامة بكثير مما تسعى لترويجه كتيباتها الرسمية، إذ ظهر تورطها في سوء معاملة المعتقلين البريطانيين، ثم ظهرت أدلة قاطعة على دورها في مساندة الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية عام 2012، حيث قدمت تجهيزات وخدمات أمنية للسجون التي يُحتجَز فيها الأسرى الفلسطينيون، وخدمات أمنية إلى الشركات في المستوطنات، إضافة إلى خدمات صيانة لنقاط التفتيش العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية. وقد أصبحت فيما بعد شركة “هاشميرا”، أول شركة أمنية خاصة أسستها “إسرائيل” سنة 1937، والتي يعمل بها حالياً 15 ألف موظف، فرعاً للشركة الأمنية العملاقة “جي فور أس”.
“فاغنر” الروسية.. حروب الظل

وتمثّل “فاغنر” الروسية إحدى أشهر الشركات العسكرية التي تنشط في المنطقة العربية بعد أفول نجم “بلاك ووتر” الأميركية، وقد تردّد اسمها لأول مرة أثناء ضم روسيا شبه جزيرة القرم في العام 2014.

أعقب سقوط وتفكك الاتحاد السوفيتي تسريح عدد كبير من العسكريين والأمنيين الذين اتجهوا إلى تأسيس شركات أمنية وعسكرية، إذ توجد نحو 20,000 شركة حماية خاصة في روسيا، وقرابة 4,000 شركة أمنية خاصة، وما بين 10 إلى 20 شركة عسكرية خاصة.إلا أنّ الأرقام الدقيقة تظل مجهولة عندما يتعلق الأمر بمنظمات أمنية، وإن كانت خاصة.

وتعود جذور شركة “فاغنر” إلى شركة “أوريل” لمكافحة الإرهاب التي تأسّست رسمياً في مدينة أوريل، في العام 2003، باعتبارها مركزاً للتعليم والتدريب غير الحكومي، وهي شركة أسسها أفراد متقاعدين من القوات الخاصة. ووقعت تلك الشركة عقوداً مع شركات مدنية روسية مختلفة لحماية عملياتها التجارية في العراق. وانبثقت عن هذه الشركة عدة شركات من أبرزها شركة تدعى مجموعة “موران للأمن” لتصبح مسجّلة رسمياً في العام 2011.

وظهر اسم ضابط الاستخبارات العسكرية ديمتري أوتكين، المولود عام 1970، والذي شارك في حربي الشيشان الأولى والثانية، ثم انتقل في عام 2000 إلى بلدة بيتشوري قرب الحدود الإستونية، حيث خدم كقائد لفرقة العمليات الخاصة “سبستيناز” في اللواء الثاني التابع للمخابرات العسكرية الروسية.

أسس أوتكين شركة “فاغنر” في العام 2014، على اسم الموسيقار الألماني ريتشارد فاغنر (1813-1883) الذي يعشق موسيقاه، وظهرت الشركة لأول مرة بالمشهد العام في شرق أوكرانيا، في آذار/مارس 2014، في وقت كان الكرملين بحاجة إلى خوض الحرب هناك بشكل سري لتخفيف الضغوط الدولية ضده. ونشطت “فاغنر” في جزيرة القرم ودونباس ولوغانسك، وخاضت معارك عديدة ضد القوات الأوكرانية.

وتنشط المجموعة في ليبيا منذ 2016، وتدعم القوات الموالية للقائد العسكري خليفة حفتر، ويُعتقد أنّ ما يصل إلى 1000 مقاتل من “فاغنر” شاركوا قوات حفتر في الهجوم الذي شنّته على الحكومة الرسمية في طرابلس عام 2019.

كذلك، شاركت قوات من المجموعة في جمهورية أفريقيا الوسطى عام 2017 بحراسة مناجم الماس، وفق ما أفادت تقارير إعلامية بأنّ المجموعة تنشط كذلك في السودان، حيث تعمل على حراسة مناجم الذهب.

وفي الآونة الأخيرة دُعيت مجموعة “فاغنر” من قبل حكومة مالي في غرب أفريقيا لتوفير الأمن ضد الإرهابيين، وقد كان لوصول المجموعة إلى مالي أثر في قرار فرنسا بسحب قواتها من البلاد عام 2021.

لا شك أنّ وجود المرتزقة يؤدي بشكل مباشر إلى تصعيد العنف في النزاعات، ويزيد من خطر انتهاكات حقوق الإنسان وانتهاكات القانون الدولي، إذ إنّ ذلك يجعل المحاسبة على جرائم الحرب مسألة صعبة، إلاّ أنّ عولمة الحروب لا تعرف الأخلاقيات، فهل نشهد في ظل تفاقم الأزمة في أوكرانيا تدخلاً رسمياً لهذه الشركات؟