تذبذب تركيّ حيال سوريا: عودةٌ إلى لغة التهديد
محمد نور الدين
يستمرّ التناقض في الإشارات الآتية من تركيا بخصوص مسار المصالحة مع سوريا، وآخر مظاهره تلويح متجدّد بعملية عسكرية في الشمال السوري، ودعوة من خارج السياق إلى «وضع دستور جديد لسوريا بالسرعة الممكنة». دعوةٌ سرعان ما وجدت مؤيدين لها في أوساط القاعدة «الإردوغانية» الرافضة للمصالحة، والتي عادت إلى رفع سقف الشروط حدّ الحديث عن «منطقة آمنة»، فيما ذهبت منابر المعارضة إلى الحديث عن الصعوبات التي تعترض طريق التطبيع، من دون أن تَعدّ ذلك مستحيلاً
جاءت تصريحات وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، خلال زيارته الأخيرة لموسكو، واضحةً لناحية التأكيد أن مفتاح المصالحة مع تركيا، يتمثّل في انسحاب جيشها بشكل كامل من الأراضي السورية، وتخلّي حكومتها عن كلّ أنواع الدعم للمنظّمات الإرهابية، وتوقُّفها عن التدخُّل في الشؤون الداخلية السورية. لكن الإشارات الآتية من أنقرة بهذا الخصوص لا تزال موسومة بالتناقض؛ إذ جدّد الرئيس رجب طيب إردوغان تهديداته بأن بلاده «ستُواصل عملياتها العسكرية وفقاً لأولوياتها. وكما قُلنا سابقاً أقول اليوم لكلّ العالم، إنه يمكن فجأة وفي ليلة ما، الوصول إلى أيّ مكان»، مضيفاً أنه «في كلّ مرة نتّجه فيها إلى القيام بعملية عسكرية، يلوّحون بأصابعهم رافضين العملية، ونحن نعرف مِثل هذا النفاق والرياء، لكنّنا لن نردّ عليهم، وسنُواصل القيام بما تُمليه علينا أولوياتنا الأمنية»، مُنهياً كلامه بأنه «من دون شريط أمني بعمق 30 كيلومتراً، فلن تنتهي عملياتنا العسكرية». وجاء حديث إردوغان خلال الاحتفال الذي أُقيم بمناسبة الذكرى الـ951 لـ«مَوقعة ملازكرد» بين السلاجقة والبيزنطيين عام 1071، وذلك في منطقة أخلاط في شرق تركيا في مكان المعركة التاريخية التي انتهت بانتصار كبير للسلاجقة فَتح باب الأناضول أمامهم.
بدوره، اعتبر وزير الدفاع، خلوصي آقار، في حوار مع صحيفة «خبر تورك»، أن «تل رفعت ومنبج تَحوّلتا أخيراً إلى عشّ للإرهاب. وعملياتنا العسكرية ستتواصل حتى تنظيف المنطقة نهائياً من الإرهاب». وإذ أوضح أن «موعد العملية سيتحدّد عندما تكتمل الظروف لبدئها»، فقد دعا إلى «وضع دستور جديد لسوريا بالسرعة الممكنة، حتى تَجري على أساسه انتخابات تنبثق عنها حكومة شرعية». وفي الاتجاه نفسه، كتب في الصحيفة عينها، كمال أوزتورك، المُوالي للسلطة، قائلاً إن «أيّ سلام تركي مع سوريا يجب أن يتضمّن دستوراً جديداً وانتخابات، وعودة اللاجئين واستعادة ممتلكاتهم، وإخراج الميليشيات الإيرانية من سوريا، وعدم انسحاب القوات التركية إلّا بالتزامن مع انسحاب القوات الأميركية والروسية والإيرانية وحزب الله، ووقف نشاط حزب العمال الكردستاني، ووضع نظام دستوري يساوي بين جميع الأعراق والمذاهب». واعتبر أنه «في حال لم تُوافق سوريا على هذه الشروط، يجب استصدار قرار من الأمم المتحدة بإنشاء منطقة آمنة ومنطقة حظر جوّي فوق سوريا وما إلى ذلك من إجراءات».
وبينما رأى سادات إرغين، في صحيفة «حرييات»، أن كلام المقداد عن التنظيمات الإرهابية إنّما يُقصد به «الجيش السوري الحر»، و«هذا سيكون من المشكلات الشائكة في الحوار بين البلدَين»، فقد أعرب الناطق باسم حزب «العدالة والتنمية»، عمر تشيليك، عن اعتقاده بأن «الظروف التي كانت سبباً لقطع العلاقات مع سوريا لم تختفِ». ومع أن هذا التصريح فسّره البعض على أنه محاولة لتسكين قواعد الحزب، فإن ما لا يخفى هو أن جانباً من قاعدة إردوغان تَنظر بعين الشكّ إلى إمكانية تحقيق مصافحة بينه وبين الرئيس السوري، بشار الأسد، الذي طالما وصفتْه بأقذع النعوت، بل وتُعارض مِثل هذه المصالحة. لكن حتى النائب المعارض، مصطفى بلباي، اعتبر أن تلك المصافحة «ليست سهلة»، لافتاً إلى أن «هناك أكثر من أربعين عقدة في طريق العلاقات بين البلدَين، لكنها تبدأ بتفكيك العقدة الأولى عبر بدء الحوار المباشر»، في حين حذّر زعيم حزب «السعادة»، تيميل قره ملا أوغلو، إردوغان من أن يستغلّ «خطوة المصالحة لغايات سياسية داخلية»، مشدّداً على أن «العلاقات مع سوريا أكبر من أن تدْخل في زواريب السياسات المحلّية».
وعلى مقلب الكتّاب المعارضين، كتب الباحث في الشؤون الخارجية، باريش دوستر، في صحيفة «جمهورييات» المعارضة، أن «مجرّد الوصول إلى مرحلة المفاوضات والجلوس إلى طاولة واحدة بين أنقرة ودمشق بعد 11 عاماً من القتال، هو أمر مهمّ وإيجابي»، مستدركاً بأنه «يجب القيام بالمساءلة عن الوضع الذي وصلت إليه تركيا التي تُعتبر من أكبر الخاسرين، بعد سوريا، من الحرب القائمة، فيما كسبت الولايات المتحدة واستقرّت في سوريا داعمةً قوات الحماية الكردية، وكسبت باتّخاذ اليونان وجنوب قبرص قاعدتها الرئيسة في شرق المتوسّط». ويشير دوستر إلى «انهيار السياسة الخارجية التركية التي تدّعي أنها رائدة العالم الإسلامي وزعيمة العالم العربي، فيما لم يتسبّب حبّ الإخوان المسلمين سوى في إلحاق الضرر الكبير بتركيا وإخافة العالم العربي»، مضيفاً: «لقد فُهم مرّة أخرى كم أن العلمانية ضرورية، ليس فقط في السياسات الداخلية بل أيضاً في السياسات الخارجية».
وفي «جمهورييات» أيضاً، كتب محمد علي غولر أن «الباب مع دمشق قد فُتح، ولكن يَصعب فتحه بالكامل»، عازياً ذلك إلى أن «سوريا ترى أن تركيا عملت على مدى 11 عاماً للإطاحة بالحكومة في دمشق، وفتحت حدودها للمقاتلين الأجانب، وأسّست ودعمت جيشاً من المعارضة، ولديها جنود يحتلّون مناطق مختلفة من أراضيها». أمّا لجهة تركيا، فإن «للعودة عن سياسات عمرها 11 عاماً من العمل على إسقاط النظام في سوريا، وإقامة مناطق نفوذ هناك، كلفة داخلية وخارجية»، وفق غولر، الذي أضاف أن «لتلك العودة تأثيرات على الانتخابات الرئاسية في الداخل. كما أن للتخلّي عن الجيش السوري الحر تأثيراته الأمنية التي يمكن أن تَظهر». ورأى الكاتب أن «العقبة الأساسية أمام التطبيع مع دمشق هي سياسات إردوغان المتعدّدة الأبعاد، من الفوز بانتخابات الرئاسة، إلى الحاجة إلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لتحقيق المصالحة»، متابعاً أن هذه الصعوبات تتجلّى في تصريحات لمسؤولين في السلطة مِن مِثل: «نحن لم نقُل اتفاقاً بل مصالحة»، و«الهدف ليس التطبيع بل الحوار»، و«نظرتنا إلى الأسد لم تتغيّر». ومع ذلك، شدّد غولر على أن «التطبيع بين أنقرة ودمشق أهمّ من كلّ العقبات»، راسماً خريطة طريق لكيفية تحقيقه، على النحو الآتي:
1- انسحاب الجيش التركي تدريجياً من سوريا وتسليم السيادة للجيش السوري.
2- إغلاق أنقرة جميع المقرّات السياسية للمعارضة في تركيا، كما قطْع كلّ العلاقات العسكرية مع المعارضة في الداخل السوري.
3- تطوير دمشق لنموذج العفو العام لنزع السلاح والبدء بحلّ مشكلة اللاجئين ميدانياً.
4- أن يعمل الجيشان السوري والتركي معاً ضدّ كلّ الجماعات التي ترفض إلقاء السلاح.
من جانبه، عكَس جعفر تار، في صحيفة «يني أوزغور بوليتيكا» التابعة لحزب «العمال الكردستاني»، جانباً من الموقف الكردي من مسألة المصالحة، قائلاً إن «إردوغان، الخاسر الحقيقي في الحرب السورية، يريد لقاء الأسد في أسرع وقت وإنهاء العملية بأقلّ ضرر ممكن. ولكن هل النظام في سوريا مستعدّ لذلك وبأيّ شروط؟». ورأى تار أن «الكثير قد تَغيّر في المنطقة منذ عشر سنوات. لكن الأسد وإردوغان لم يَعُد بإمكانهما حلّ المشكلة بمفردهما، والسلام الدائم لن يكون ممكناً من دون موافقة الأكراد وحلفائهم».
الأخبار