اتهموه بالزندقة ودفعوا صلاح الدين إلى خنقه في قلعة حلب.. “السهروردي المقتول” شاعر صوفي مُثير للجدل
أبداً تَحنُّ إِلَيكُمُ الأَرواحُ وَوِصالُكُم رَيحانُها وَالراحُ
وَقُلوبُ أَهلِ وِدادكم تَشتاقُكُم وَإِلى لَذيذ لقائكم تَرتاحُ
وَا رَحمةً للعاشِقينَ تَكلّفوا ستر المَحبّةِ وَالهَوى فَضّاحُ
بِالسرِّ إِن باحوا تُباحُ دِماؤُهم وَكَذا دِماءُ العاشِقينَ تُباحُ
وَإِذا هُم كَتَموا تَحَدّث عَنهُم عِندَ الوشاةِ المَدمعُ السَفّاحُ
لا شكَّ في أنه عندَ كل حديث يدور عن أبرز أعلام الصوفية يتتبادر إلى أذهاننا أسماء مُهمّة، كمولانا جلال الدين الرومي، وصديقه شمس الدين التبريزي، وسلطان العاشقين ابن الفارض، والحلاج أبو المغيث الحسين وغيرهم.
فتجعلنا تلك الأسماء الكبيرة نغفل عن ذكر شعراء آخرين قدّموا- رغم شهرتهم القليلة- أشعاراً مُذهلة، وكانوا فقهاء عصرهم سواء في الدين والفلسفة أو في المنطق والحكمة، مثل قائل الأبيات السابقة السهروردي المقتول.
السهروردي المقتول.. نشأته ورحلة شبابه
السهروردي المقتول، واسمه الحقيقي هو أبو الفتوح يحيى بن حبش أميرك السهروردي، نسبة إلى بلدته التي وُلد فيها، وهي بلدة سهرورد الجبلية، ذات الأغلبية الكردية في شمال غربي إيران، والتي تعتبر تركيبتها السكانية سبباً وراء اعتباره من قبل بعض العلماء كردياً، في حين تشير روايات أخرى إلى أن اسمه هو أحمد أو عمر.
واشتُهر باسم “السهروردي المقتول” تمييزاً له عن صوفيَّين آخرين هما: شهاب الدين عمر السهروردي مؤلف كتاب “عوارف المعارف” في التصوف، وصاحب الطريقة السهروردية، وتمييزاً عن أبو النجيب السهروردي صاحب كتاب “غريب المصابيح”.
وُلد الشاعر الصوفي السهروردي المقتول في العام 1155، لكن عندما بلغ العاشرة من عمره أرسله والده نحو “مراغة”، وهي مدينة قريبة من بلدته من أجل طلب العلم، ليدرس على يد الشيخ مجد الدين الجيلي الذي خرج من بين يديه العديد من العلماء، لعل أبرزهم هو العالم فخر الدين الرازي.
درس السهروردي على يد شيخه كل ما يتعلق بالدين والفلسفة، فحفظ القرآن الكريم وتفسيراته، كما تفوّق في الفقه والأصول والمنطق والفلسفة وقواعد النحو والصرف، حتى إنه كان أحد أصدقاء فخر الدين الرازي الذي كان يكبره ببضع سنوات فقط.
التقى بتلامذة ابن سينا بأصفهان وتغلب على فقهاء في حلب
وعندما اشتدّ عوده، قرر السهروردي الانتقال من مدينة مراغة الصغيرة باتجاه مدينة أصفهان، التي كانت حينها مركزاً رئيسياً للدين والعلوم، ليدرس على يد شيخ يدعى ظهير الدين القاري.
ووفقاً لما ذكره موقع العرب، فقد تعرف في أصفهان على تلامذة العالم ابن سينا الذي كان يحظى باهتمام بالغ من العلماء في ذلك الوقت، إضافة إلى قراءته لكتبه.
وكان لفترة مكوثه في أصفهان تأثير كبير عليه فبدأ بكتابة أولى مطولاته “بستان القلوب”، كما ترجم “رسالة الطير” لابن سينا من العربية إلى الفارسية؛ من شدة إعجابه بها.
بعد ذلك اتجه السهروردي باتجاه مدينة حلب التي كانت خلال العصر العباسي مركزاً حضارياً نشطت فيه ترجمة كتب الفلسفة والتاريخ، فأقام فيها لكنه اصطدم بفقهائها الذين أثار غيظهم نتيجة تفوقه عليهم في المناظرات.
ووفق ما ذكرته موسوعة نداء الإيمان، فقد كان السهروردي يلقب بـ”المؤيد الملكوت”، ويتهم بأنه يخل بالعقيدة ويعطلها؛ وهو ما دفع علماء حلب لإباحة دمه وطلب قتله بسبب معتقداته.
حتى إنهم قرروا شكواه إلى صلاح الدين الأيوبي، بحجة أنه يفتن بابنه الظاهر الغازي للكفر والخروج عن الدين، فأمر الأيوبي ابنه أن يسجن السهروردي حتى يهلك في سجنه صبراً وجوعاً وعطشاً، لكنّ الظاهر امتنع عن ذلك، فأرسل له والده إليه يخيره بين أمرين: إما قتل السهروردي، وإما العزل، فأذعن والي حلب الملك الظاهر لأمر أبيه، وأودعه السجن داخل قلعة حلب حتى يموت خنقاً وهو في الـ38 من عمره، وكان ذلك في العام 1191.
اختلاف واضح بتصنيفه
ورغم موته لا يزال الناس مختلفين في شأنه، فمنهم من ينسبه إلى زمرة الملحدين، ومنهم من يشهد له بحسن الاعتقاد.
فقال القاضي بهاء الدين، المعروف بلقب ابن شداد، قاضي حلب: إن السهروردي كان كثير التعظيم لشعائر الدين، وأطال الكلام في ذلك، وذكر نفسه في آخر وصاياه قائلاً: “اتق شر من أحسنت إليه من اللئام ولقد أصابني منهم شدائد”.
أما سيف الدين الآمدي فقال: “اجتمعت به في حلب فقال لي: لا بد أن أملك الأرض فقلت له: من أين لك هذا؟ قال: رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر، فقلت: لعل هذا يكون اشتهار العلم وما يناسب هذا، فرأيته لا يرجع عما وقع في نفسه، ورأيته كثير العلم قليل العقل”.
وأضاف أنه عندما تحقق أمر الحكم عليه بالقتل كان كثيراً ما يردد البيت التالي: أرى قدمي أراق دمي وهان دمي فها ندمي.
ما الذي قدّمه السهروردي خلال حياته؟
يقال إنّ السهروردي كان إماماً في فنونه، جامعاً للعلوم الفلسفية، وبارعاً في الأصول الفقهية، إضافة إلى معرفته الواسعة بـ”علم السيمياء”.
والسيمياء هي مجال دراسة الطقوس والتقاليد التي تمارَس من أجل التواصل مع الماورائيات أو مع وجوديات لا يمكن استيعابها في العالم المادي، وهو ما يعتبره الإسلام نوعاً من أنواع السحر المحرم ومجرد وهْم يسيطر على الناس.
إضافة إلى أنه ترك وراءه كثيراً من المؤلفات والكتب، أبرزها كتاب “حكمة الإشراق”، الذي أضحى مدرسة فلسفية صوفية متكاملة، لا تزال موجودة حتى يومنا هذا في دول مثل إيران والهند وباكستان، وبفضل ذلك الكتاب أيضاً أطلق عليه اسم “شيخ الإشراق”.
عربي بوست
اقرأ أيضا: تتسبّب في الوفاة! قصة “الصفعة العثمانية” التي استخدمها الجنود في المعارك ضد أوروبا