تحتل المعارك الفاصلة والملاحم العسكرية مكانةً بارزة من تاريخ الأمم والشعوب، وفي دائرة صناعة الوعي والهوية وإعادة تعريف الذات، وقد حفل التاريخ الوسيط للمسلمين بالكثير من الصدامات الكبرى، والتي ارتبط بعضها باسم الحواضر الإسلامية التي كانت شاهدةً على تلك الأحداث المفصلية.
واليوم موعدنا مع مدينة حمص، في قلب الشام، والتي ارتبط اسمها بثلاث من أبرز جولات الصراع بين المماليك والمغول للسيطرة على الشام، في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي (السابع الهجري).
غلب التَّتار على البلاد فجاءهم … من مصرَ تركيٌّ يجودُ بنفسِه
بالشام أهلكَهم وبدّدَ شملَهم … ولكلّ شيءٍ آفة من جنسِهِ!
* أبياتٌ قالها شهاب الدين بن شامة ممتدحًا الملك المظفر سيف الدين قطز بعد انتصاره على المغول في عين جالوت
حمص الأولى.. العام التالي لعين جالوت
نظرًا إلى الشهرة الطاغية التي حظِيَت بها موقعة عين جالوت الفاصلة عام 1260م (658هـ) في فلسطين بين طليعة المغول الغازية للشام، وفرسان المماليك حكام مصر آنذاك، والتي انكسر المغول فيها بعد سجلٍّ من الانتصارات الساحقة ضد مختلف قوى العالم الإسلامي على مدار نصف قرن، واعتقد الكثيرون أن المعركة الشهيرة أنهت الخطر المغولي على مصر والشام للأبد. ولكن تخبرنا صفحات التاريخ أن العقود القليلة التالية لعين جالوت شهدت صداماتٍ مملوكية- مغولية تصبح أمامها عين جالوت مجرد مناوشات أو اشتباكات.
قتل المماليك في عين جالوت القائد المغولي كتبغانوين، والذي كان يقود طليعة قوامها 10 آلاف من فرسان المغول، قُتِل معظمهم في المعركة، ثم اتجه المماليك لتحرير كامل الشام سريعًا في الأسابيع القليلة التالية، وأبعدوا المغول إلى العراق مجدَّدًا، وأعادوا توحيد مصر والشام مذكرينَ بعهود قوة الدولة الأيوبية. ولكن ما تزال القوة الضاربة للجيش المغولي، وتقدر بأكثر من مائة ألف مقاتل، تحت إمرة القائد المخيف هولاكو الذي سحقت قواته بغداد، عاصمة العراق والحاضرة الإسلامية، وأفنوا مئات الآلاف من سكانها.
هنا لعبت الأقدار دورَها الفاصل في تثبيت آثار الانتصار المملوكي في عين جالوت ولو إلى حين، إذ اضطر هولاكو إلى تأجيل انتقامه من المماليك، وعادَ مع جزء كبير من جيشه إلى قلب آسيا؛ إذ وصلته الأنباء بوفاة أخيه الخان الأعظم للمغول منكوخان، ووجود مخاوف من اندلاع صراعٍ على خلافته ومات هولاكو بعدها بفترة وجيزة.
وفي مصر، ما كاد السلطان المظفر قطز يقترب من القاهرة بعد انتصاره في عين جالوت حتى وقع ضحية مؤامرة من بعض خصومه من المماليك، قتلوه غدرًا ونصَّبوا مكانه الظاهر ركن الدين بيبرس سلطانًا، والذي انشغل في الشهور الأولى من حكمه بتمرد الأمير علم الدين سنجر المملوكي نائب الشام عليه، ودعوته للشاميين بمبايعته ملكًا بدلًا من بيبرس.
في تلك الأثناء، وصلت الأنباء إلى المغول بمقتل المظفر قطز، وعودة الاضطرابات إلى الشام ومصر، فحشدوا الآلاف من فرسانهم وعبروا الفرات مجدَّدًا لغزو الشام، وتوجَّه الجيش المغولي صوب حلب شمالي الشام التي تحدثت الأنباء عن اضطراب الأحوال فيها نتيجة اختلاف الأمراء وقسم كبير من الحلبيين على حاكمها. ونجح المغول في هزيمة القوات التي أرسلها حاكم حلب لمواجهتهم، ثم استولوا على حلب التي تركها معظم مقاتليها بعد أن انقلبوا قادة المماليك على حاكم المدينة ونهبوا خزائنه، ثم فروا جنوبًا إلى حماة وحمص ودمشق، لعجزهم عن مواجهة المغول بمفردهم.
عجز المغول لأيامٍ عن اقتحام مدينة حماة، ثم بلغهم أن أمير حمص الملك الأشرف الأيوبي، ومعه الملك المنصور صاحب حماة، والمئات من فرسان المماليك الذين فروا من حلب وسواهم، قد حشدوا الآلاف من المقاتلين لحرب المغول، وخيَّموا قرب مدينة حمص.
توجَّه المغول في أكثر من 6 آلاف فارسٍ بقيادة أميرهم بيدرا إلى حمص لمواجهة هذا الجيش الشامي، ودارت معركة طاحنة تشبه عين جالوت، على مقربةٍ شديدة من قبر الصحابي والمقاتل الفريد خالد بن الوليد، وهناك تعرض المغول لهزيمة قاسية، أجبرت الناجين منهم على الفرار شمالًا إلى حلب، ليصبُّوا انتقامهم على سكانها العُزَّل، وسرعان ما استعاد المماليك السيطرة على حلب، بعد تصالح الظاهر بيبرس مع علم الدين سنجر، واستقرار سيطرة بيبرس على مصر والشام.
وكان الظاهر بيبرس قد نصَّب أحد أبناء بني العباس خليفةً للمسلمين، وتلقَّب بالمستنصر العباسي، وكانت تلك خطوة مهمة لتعزيز شرعية سلطان بيبرس على مصر والشام، فالخلافة العباسية مثَّلت للمسلمين آنذاك رمزًا للوحدة والشرعية السياسية، ولو أنَّ سلطة العباسيين أنفسهم والخليفة تراجعت.
جهَّز بيبرس المستنصر العباسي عام 1262م (659/ 660هـ) بجيشٍ يضم المئات من المماليك والمقاتلين العرب والتركمان ليغزو بهم العراق، واعتذر عن إمداده بجيش ضخم خوفًا من الاضطرابات في مصر والشام. توغَّل المستنصر بجيشه في غربي العراق متجهًا صوب بغداد، ونجح في استعادة بعض المدن في طريقه حتى اصطدم بالقوة الضاربة للمغول في الأنبار، وبعد كسره لمقدمة الجيش المغوليِّ تراجع بعض مقاتلي جيشه من العرب والتركمان وسقط شهيدًا في المعركة.
وفي السنوات القليلة التالية لسلطنة الظاهر بيبرس، هدأت الأمور ولم تقع مواجهات كبرى مع المغول بسبب تفكك الإمبراطورية المغولية الكبرى إلى أربع دول كبيرة متنازعة، دخلت إحداها في الإسلام وهي القبيلة الذهبية بزعامة بركة خان، والذي راسل الظاهر بيبرس وتحالف معه لقتال دولة مغول فارس، والتي كانت تعرف بالدولة المغولية الإيلخانية، والتي هيمنت على العراق وإيران وشرقي الأناضول وأجزاء عديدة من وسط آسيا، وهي التي ستتعدَّد صداماتها العسكرية لاحقًا مع المماليك.
استغل بيبرس تلك السنوات في تنفيذ إصلاحاتٍ سياسية وإدارية كثيرة، وتعزيز تحصينات الشام لمواجهة أية غزوات مغولية مستقبلية، وهجمَ على بقايا الإمارات الصليبية في الساحل الشامي كأنطاكية وطرابلس، وفي نهاية عصر الظاهر بيبرس وقعت مواجهة كبرى بين المماليك والمغول في البستان (الأبلستين) عام 1277م (675هـ) بشرقي الأناضول، وانتصر فيها المماليك انتصارًا ساحقًا.
حمص الكبرى.. انتزاع النصر من بين مخالب الهزيمة
بعد وفاة الظاهر بيبرس، تناوب على حكم الدولة المملوكية اثنان من أبناء بيبرس، هما الملك السعيد بركة خان، والعادل سلاميش، قبل أن يُخلَعا لضعفهما، وينتزع الحكم أحد كبار فرسان المماليك، وأكثرهم نفوذًا وقوة، وهو المنصور سيف الدين قلاوون عام 1279م (677هـ)، ويحمل اسم الحاكم الجديد العديد من العمائر الشهيرة القائمة إلى اليوم في القاهرة التاريخية في شارع المعز المعروف وغيره.
ولكن لم يأخذ قلاوون العرش بسهولة، فقد سجن العشرات من المماليك الموالين لولدي الظاهر بيبرس المخلوعيْن، كما تمرَّد ضد حكمه الأمير سنقر الأشقر نائب دمشق، ولقب نفسه بالسلطان الكامل، وجهز الجيوش لحرب قلاوون.
حشد المنصور قلاوون قوات المماليك الموالية له من القاهرة، وتوجه صوب فلسطين، حيث نجحت مقدمة جيشه في هزيمة قوات الأمير المتمرد في غزة، فأسرع بعدها بكامل جيشه صوب دمشق، لتدور معركة طاحنة مع قوات الأمير سنقر، لينهزم الأخير بعد أن تركه بعض حلفائه وانضموا إلى المنصور قلاوون، الذي نجح بعد تلك المعركة في استعادة دمشق حاضرة الشام، وفرَّ سنقر محتميًا ببعض حلفائه من العرب.
لم يكدْ المنصور قلاوون يهنأ بانتصاره الكبير على غريمه المملوكي حتى وافتْه أنباء مفزعة عن حشد المغول الإيلخانيين جيشًا كبيرًا لاحتلال الشام، بعدما وصلتهم أنباء الاضطراب السياسي والعسكري الكبير الذي يعصف بالدولة المملوكية، وجاءت الأنباء بأنهم سيغزون الشام من ثلاث جهات، وكان يقود أكبر جيوش المغول الأمير منكوتمر بن هولاكو.
ساد الذعر في أرجاء الشام وبدأ الكثير من أهل الحواضر الشامية في الفرار خشية الاجتياح المغولي، لا سيَّما مع انتشار أخبار اقتحام المغول لمدينة حلب وتخريبها وقتل وأسر الآلاف من سكانها. وتجهيزًا لهم حشد المنصور قلاوون القوة الكاملة لجيش المماليك، وتوجه إلى وسط الشام لملاقاة المغول الإيلخانيين، وإعادة الأمن والاستقرار إلى الشام.
أمام الخطر المغولي الكاسح، وقع الصلحُ بين المتمردين من المماليك الظاهرية وسنقر الأشقر وحلفائه من جهة، والسلطان المنصور قلاوون من جهة، وتكاملت حشود المماليك وحلفائهم من القبائل العربية الشامية والأكراد والتركمان، في مواجهة أكثر من 50 ألف مغولي، و30 ألفًا من حلفائهم من الجورجيين والأرمن.
تواجه الجيشان قرب مدينة حمص فيما سيُعرف لاحقًا بموقعة حمص الكبرى، في أحد أيام شهر رجب من عام 680هـ (1282م). وبدأت المعركة بهجومٍ شرسٍ شنَّته ميسرة جيش المغول ضد ميمنة المماليك التي كادت أن تتمزق تمزقًا تامًّا.
ونجحت ميمنة المغول في ضرب ميسرة جيش المماليك وطاردوا فلول المماليك حتى أسوار حمص وبداية دمشق، واعتقد أهل هذه المدن أن الهزيمة وقعت وأن النصر المغولي محسوم.
ولكن هذا فقط جزء من الجيش المملوكي، أما المنصور قلاوون فقد صمد وبرفقته مئات من خاصة الفرسان المماليك، ونجح في سحق الميسرة المغولية وضرب قلب الجيش المغولي حتى جرح قائد الجيش منكوتمر وفرَّ من المعركة.
أما ما تبقى من الجيش المغولي، ممن خرجوا لملاحقة المملوكيين الهاربين، وقعوا في طريق عودتهم في كمين أشرف عليه المنصور قلاوون بنفسه، فقتلوا وأسروا، وطارد المماليك فلول المغول إلى خارج الشام وقتلوا منهم الكثير أثناء المطاردة، وبعضهم قُتل حرقًا بعد أن حاولوا الاحتماء في بعض المزارع على ضفاف الفرات فأحرقهم المماليك، وبذلك انتهت المعركة بنصر ساحق للماليك.
مات الإيلخان أبغا بن هولاكو بعد أشهر قليلة من الهزيمة الساحقة التي تعرض لها الجيش الذي قاده أخوه منكوتمر، ودفعت تلك الهزيمة المغول بعيدًا عن الشام لأكثر من 12 عامًا، تفرَّغ خلالها قلاوون وابنه الأشرف خليل لإنهاء الوجود الصليبي في بلاد الشام.
حمص الثالثة.. الهزيمة الساحقة التي صنعت نصرًا ساحقًا
في العقد الأخير من القرن الثالث عشر الميلادي (السابع الهجري)، ورغم بدايته المتميزة بسحق بقايا الوجود الصليبي في الشام بتحرير عكا عام 1291م، فإنَّ الاضطرابات عصفت بدولةِ المماليك، لا سيما بعد مقتل السلطان الأشرف خليل بن قلاوون عام 1293م (693هـ)، وتولي أخيه الصبي الناصر محمد بن قلاوون الحكم، ومن خلفه مطامعُ الأمراء المماليك وتحزُّباتهم المتباينة.
خُلِعَ الناصر محمد بعد عامٍ من ولايته، ثم عاد إلى العرش بعد بضع سنواتٍ من صراع الأمراء، ولم يكد يمرُّ عامٌ على ولايته الثانية حتى طرقتْ آذان القاهرة بقوةٍ أنباءُ تجدد خطر الغزو المغولي للشام بعد فترةٍ من السكون النسبي الذي أعقب موقعة حمص الكبرى.
وفي الجبهة الأخرى، لم يكن لخلفاء أبغا خان بن هولاكو، الذي توفي عام 1282م، خبرته أو قدراته العسكرية، فلم يحاولوا لسنواتٍ القيام بغزوات جدية لاجتياح الشام ومصر، رغم ما عصف بالدولة المملوكية من ضعفٍ واضطراباتٍ سياسية وعسكرية في أعقاب مقتل الأشرف خليل. ولكن في المقابل، حاول الإيلخانات التقارب مع القوى المسيحية في أوروبا لإقامة تحالفٍ ضد العدو المملوكي الإسلامي المشترك، ولكن لم تُسفِر تلك المحاولات عن تحالف حقيقي.
وتغيَّر المشهد كثيرًا مع اعتلاء الخان محمود غازان العرش المغولي الإيلخاني عام 1295م (693هـ)، ورغم اعتناقه الإسلام، والذي تبعه فيه معظم جيشه وقادة دولته، فإنه تبنَّى سياسةً توسعيةً عدائية تجاه دولة المماليك، وأراد انتزاع الشام منهم، وراسل بابا روما لبناء تحالف عسكري ضد المماليك، ولكنه اضطر في النهاية إلى خوضِ حربه الضروس مع المماليك بمفرده.
وبعد خمس سنوات، في عام 1300م، لاحتْ في الأفق بوادر مواجهةً عسكرية عاصفة بين المغول الإيلخانيين والمماليك، وكانت البداية مع انشقاق أحد قادة المغول وهو سلاميش بن أباغو بن هولاكو على حكم غازان، وتحت قيادته جيش فيه أكثر من 10 آلاف فارس مغولي، بعد أن أرسل قائدًا للجيش لغزو شرقي الأناضول.
حشد محمود غازان جيشه وتوجه إلى العراق تحت ستار تأمين الطرق التجارية من غارات البدو، ثم أرسل أكثر من 35 ألف فارس إلى الأناضول لمواجهة القائد المُنشق سلاميش، والذي بلغه أنه يراسل المماليك للتحالف معهم ضده. ونجحت الحملة التي أرسلها غازان في قهر سلاميش وفرَّ مهزومًا إلى دمشق، حيث أحسن نائب الشام المملوكي استقباله، ثم بعث به إلى القاهرة حيث استقبله الناصر محمد بن قلاوون، وأرسل معه الآلاف من فرسان المماليك دعمًا له في حربه مع غازان، وعاد سلاميش إلى الشام بصحبة جيشه الجديد.
وبعد أسابيع قليلة، وصل الناصر محمد إلى دمشق في موكبٍ عظيم ومعه نخبة جيشه المملوكي، وأقام عدة أسابيع بالشام للاستعداد لمواجهة هجوم غازان المرتقب على الشام.
خرج السلطان المملوكي بحشوده الهائلة من دمشق صوبَ مدينة حمص عندما توالتْ الأنباء بزحف جيش محمود غازان الضخم واقترابه من حمص. أقام الجيش المملوكي ثلاثة أيامٍ معسكرًا بالسلاح الكامل في حمص منتظرًا هجوم المغول، ولكن محمود غازان أخَّر هجومه لينتشر التوتر في صفوف المماليك، وحتى تتناقص إمدادات جيش المماليك الخضم، وبدأ جواسيس غازان بنشر شائعات عن تردُّد المغول واضطراب جيشهم ورغبتهم بالانسحاب خوفًا من حجم الجيش المملوكي.
قرَّر المماليك التحرك فورًا نحو منطقة وادي الخازندار، شرقي حمص، عندما بلغتهم الأنباء بأن جيش غازان يعسكر فيها، وهناك تبيَّن أنه لا انسحاب ولا اضطراب في صفوف المغول، وأنهم على أتم استعدادٍ لمواجهة مفتوحة مع المماليك الذين أجهدتهم حالة الاستنفار المستمرة منذ أكثر من ثلاثة أيام.
ورغم أن المماليك تفوَّقوا في بداية المعركة وضربوا ميمنة المغول وضغطوا على وسط الجيش، فإن المغول تماسكوا وبدأت معنويات المماليك بالتراجع، حتى انهارت ميمنة جيشهم ومعها انكشف قلبه، وبدأ آلاف الجنود المماليك بالفرار، وانهار الجيش المملوكي.
بدأ المماليك المعركة بتفوقٍ ظاهر، حيث اندفع فرسان المماليك في الميسرة في هجومٍ كاسح تضعضعت على إثرِه ميمنة المغول، ثم شنوا هجومًا جارفًا من القلب، ضغطوا به بشكلٍ كبير على قلب الجيش المغولي الذي انكشف جانبه الأيمن.
وساق السلطان في طائفة يسيرة من أمرائِه ومدبِّري مملكته إلى بعلبك، وتركوا جميع الأثقال، ملقاة، فبقيت العدد والسلاح والغنائم والأثقال، وملأَت تلك الأراضي، حتى بقيَت الرماح في الطرق كأنها القصب لا ينظر إليها أحد، ورمى الجند خوذهم عن رءوسهم وجواشنهم وسلاحهم تخفيفًا عن الخيل لتُنجيهم بأنفسهم، وقصد الجميع دمشق.
* ابن تغري بردي، في كتاب النجوم الزاهرة، يصف فرار المماليك منهزمين بعد موقعة حمص الثالثة – وادي الخازندار
فرَّ الكثير من أبناء وأعيان دمشق مع وصول أنباء الهزيمة ومع اقتراب زحف المغول إلى حاضرة الشام، وخرجت حامية دمشق، المسؤولة عن حمايتها، وتحصَّن جنودها داخل قلعة المدينة. وهنا اجتمع من بقي من علماء دمشق وأعيانها لمناقشة الأمر، وكان من أبرزهم قاضي القضاة ابن جماعة، وشيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية، وغيرهما، للتشاور فيما ينبغي عمله لتجنيب المدينة الدمار، فاستقرَّ الرأي على خروج وفدٍ كبير منهم للاجتماع بغازان، وطلب الأمان للمدينة وأهلها، وحينها دارت المناظرة المشهورة بين ابن تيمية وغازان؛ إذ أنكر عليه الشيخ غزو بلاد المسلمين ومحاربة المماليك والاستقواء عليهم بغير المسلمين.
ورغم شدة أسلوب ابن تيمية فقد أُعجِبَ به غازان واستجاب لطلبه، وأرسل الرسل بالأمان لمن بقي من أهل دمشق على أن تدين المدينة له بالطاعة، ويُخطَب باسمه على منابرها، مُبديًا أنه لا يريد إلا العدل والإصلاح، ولكن استبدَّ المغول بأهل دمشق في الأسابيع التالية، وفرضوا عليهم إتاواتٍ باهظة، ثم عاد محمود غازان بغنائمه إلى عاصمة ملكه في تبريز، حاليًا في إيران، وترك خلفه واليًا على دمشق من جماعته، وبعد أسابيع قليلة من رحيله نجح نائب قلعة دمشق المملوكي أرجواش المنصوري في هزيمة الحامية المغولية بها واستعادة المدينة.
في العاميْن التاليين، كثَّف الناصر محمد بن قلاوون جهودَه لإعادة بناء قوة المماليك بعد الهزيمة القاسية في حمص، وأعانته الظروف الجوية السيئة في تعطيل غزوة كاسحة جديدة كان غازان ينوي القيام بها في العام التالي.
وفي عام 1303م (702هـ)، اقتحمت جيوش محمود غازان الشام، فأرسل الناصر بن قلاوون جيوشه على الفور إلى دمشق بعد أن اضطربت الأحوال داخل المدينة ظنًّا من أهلها أن الجيش على وشك الانسحاب كما حدث قبل ثلاثة أعوام.
ولم يدخل المغول إلى دمشق وتوجَّهوا لملاقاة الناصر محمد في منطقة شقحب خارج المدينة، لتبدأ معركة طاحنة في اليوم الثاني من رمضان ذلك العام، وهذه المرة بدا أن المغول تمكَّنوا من المماليك، وتسللوا من خلف جيشهم ونهبوا بعض الخزائن، ولكن استعاد المماليك المبادرة، وألحقوا هزيمةً ساحقة بالجيش المغولي الإيلخاني، منحت الشام حصانة من الغزوات المغولية الكاسحة لعقود طويلة، حتى جاء عصر القائد المغولي الشهير تيمور لنك في آخر القرن 14.
ساسة بوست
اقرأ أيضا: حكم بفصل أستاذة جامعية مصرية بسبب رقصها يثير ضجة في مصر