من الحفاضات والمسكنات إلى السيارات.. كيف تهدد أزمة الغاز الروسي أكبر شركة ألمانية بالإغلاق؟
شركة الكيماويات الألمانية BASF هي أكبر مصنع في العالم، وعمرها أكثر من قرن ونصف القرن، ومنتجاتها أساسية لعدد ضخم من السلع، من الحفاضات ومعجون الأسنان والمسكنات إلى السيارات، فلماذا تمثل أزمة الغاز الروسي تهديداً وجودياً لتلك الشركة العملاقة؟
منذ بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه “عملية عسكرية خاصة”، بينما يصفه الغرب بأنه “حرب عدوانية وغزو غير مبرر”، تحوّل الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي لأحد أكبر الأسلحة الاستراتيجية في تلك الحرب، بين روسيا من جهة والغرب من جهة أخرى.
ونشرت صحيفة The Guardian البريطانية تقريراً عنوانه “كيف يمكن لترشيد الغاز في مصنع BASF للكيماويات إغراق أوروبا في أزمة؟”، رصد مدى أهمية الشركة الألمانية العملاقة للاقتصاد الألماني خاصة والأوروبي بشكل عام، وما يمثله الغاز الروسي من أهمية وجودية لتلك الشركة.
أكبر شركة صناعية في ألمانيا
كل شيء متصل ببعضه في موقع لدفيغ شايفين التابع لشركة الكيماويات الألمانية BASF، وهو مجمع صناعي مساحته 10 كيلومترات مربعة مترامي الأطراف، لدرجة أنَّ الشركة تدير شبكة حافلاتها لتوجيه الموظفين من بواباتها إلى أماكن عملهم، كما تُضَخ المنتجات الثانوية من صناعة الأمونيا في الشركة عبر شبكة خطوط أنابيب يبلغ طولها 2850 كيلومتراً من أحد طرفي الموقع إلى الآخر، حيث يعاد تدويرها لإنتاج الأسمدة أو المطهرات أو سائل عادم الديزل أو ثاني أكسيد الكربون للمشروبات الغازية.
كان ما يُسمَى بمبدأ الإنتاج المُركّب عاملاً رئيسياً في صعود شركة BASF لمدة 157 عاماً من مصنع Baden Aniline and Soda إلى أكبر مصنع للمواد الكيميائية في العالم، لكن الآن، بعد أن فرض فلاديمير بوتين قيوداً شديدة على صادرات الطاقة إلى أوروبا، قد يكون هذا الترابط العبقري بين عمليات الإنتاج هو السبب في تراجعها.
إذ يمثل الغاز الروسي حجر الزاوية بالنسبة لسوق الغاز الأوروبية، وفك هذا الارتباط يمثل تغيُّراً هائلاً بالنسبة لقارة زاد اعتمادها بصورة كبيرة على غاز التربة المتجمدة في سيبيريا، لدرجة أنَّها لم تنشئ بنية تحتية تُذكَر للإمدادات البديلة.
الاتحاد الأوروبي يحصل على قرابة 40% من الغاز من روسيا، وزاد هذا الاعتماد في السنوات الأخيرة. ووفقاً لمركز أبحاث بروغل (Bruegel)، كان الاتحاد الأوروبي حتى مارس/آذار الماضي يدفع ما يصل إلى 600 مليون يورو (نحو 722 مليون دولار) يومياً لروسيا، في الوقت الذي كان الغرب يسعى لشل موسكو بالعقوبات.
ويعتمد الموقع في جنوب غرب ألمانيا على الغاز بصفته مادة خاماً ومصدراً للطاقة، ويستهلك سنوياً مقدار ما تستهلكه سويسرا بأكملها تقريباً، وقد أسهمت شركة BASF بدور نشط في ضمان استيراد نسبة كبيرة من هذا الغاز بثمن بخس من روسيا.
وفي هذا السياق، إذا اضطرت الدولة الألمانية إلى تقنين الاستخدام الصناعي للغاز هذا الشتاء، تقول BASF إنها يمكن أن تقلل استهلاكها إلى حد ما، عن طريق تقويض المصانع الفردية أو تبديل الغاز بزيت الوقود في بعض مراحل الإنتاج. وقد خفضت بالفعل إنتاجها في الموقع من الأمونيا، وبدلاً من ذلك تشحن المادة الكيميائية من الخارج.
الغاز الروسي حجر الزاوية!
ومع ذلك، نظراً لأنَّ مصانع الإنتاج في لدفيغ شافين البالغ عددها 125 هي سلسلة قيمة مترابطة، فهناك نقطة يؤدي فيها انخفاض إمدادات الغاز إلى إغلاق على مستوى الموقع.
دانييلا ريشنبرغر، المتحدثة باسم الشركة، قالت لصحيفة الغارديان البريطانية: “بمجرد أن نتلقى أقل من 50% من الحد الأقصى لمتطلباتنا، بصفة دائمة، سنحتاج إلى إنهاء الموقع بالكامل. هذا شيء لم يحدث قط في تاريخ BASF، وشيء لا يرغب أحد هنا في رؤيته يحدث، لكن لن يكون لدينا سوى القليل من الخيارات”.
ومع امتلاء 87% من مخزون الغاز الألماني، هناك تفاؤل متزايد بإمكانية تجنب التقنين هذا الشتاء. لكن حتى في ذلك الحين قد تجبر أسعار الغاز المرتفعة شركات مثل BASF على وقف الإنتاج.
إذ إنه بمرور ما يقرب من 7 أشهر من الحرب في أوكرانيا وفرض الغرب أقصى عقوبات ممكنة ضد موسكو، أصبح البحث عن بدائل للغاز الطبيعي الروسي أمراً حتمياً بالنسبة للقارة العجوز، التي يبدو أنها تتجه نحو أكثر شتاء بارد وعاصف في تاريخها الحديث، ما لم تؤمن الحد الأدنى من احتياجاتها من الغاز قبل أن يلملم الصيف أوراقه ويرحل.
لكن العثور على مصدرين للغاز إلى أوروبا قد لا يكون المشكلة الوحيدة، على الرغم من محدودية إنتاج الغاز عالمياً بشكل عام، ووجود كبار منتجيه كقطر والولايات المتحدة بعيدين عن القارة العجوز، إذ تسببت أزمة الطاقة الأوروبية في اندلاع معركة عالمية من أجل خدمات ناقلات الغاز الطبيعي، ما أدى إلى نقصٍ في السفن، وزاد الارتفاع القياسي لأسعار الوقود، بحسب تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
ومع وجود أجزاء كبيرة من موقعها للإنتاج المُركّب تعمل على مدار الساعة منذ الستينيات، تقول BASF إنه من غير الواضح ما إذا كان يمكن إعادة تشغيل الإنتاج بعد ذلك أو ما إذا كان انخفاض الضغط سيؤدي إلى تعطل بعض الآلات.
ستكون عواقب الإغلاق في موقع لدفيغ شافين بعيدة المدى، ليس فقط على أكبر اقتصاد في أوروبا لكن بالنسبة للقارة بأكملها، وربما تكون مبيعاتها بالأساس بين الشركات، ومنتجاتها غير مرئية، لكن لا غنى عنها أكثر.
الحفاضات والمسكنات.. وحتى السيارات
تُستخدَم المواد الكيميائية التي تنتجها BASF لصنع أي شيء من معجون الأسنان إلى الفيتامينات، ومن عزل المباني إلى الحفاضات. وهي واحدة من أكبر الشركات المصنعة في العالم لمسكنات الألم (الإيبوبروفين) وتشكل صناعة السيارات 80% من مبيعاتها؛ ما يعني أنَّ خطوط الأنابيب المتعثرة في لدفيغ شافين ستؤثر تأثيراً مباشراً في مناطق صناعة السيارات مثل إقليم كتالونيا الإسباني وإميليا-رومانيا الإيطالي.
أحد المنتجات القليلة التي لا تزال الشركة الألمانية تصنعها بالكامل في لدفيغ شافين هو AdBlue، وهو سائل يُستخدَم لتقليل تلوث الهواء من محركات الديزل. وهو مطلب قانوني لتشغيل مركبات البضائع الثقيلة؛ لذا فإنَّ نقصه قد يؤدي إلى توقف الشاحنات في جميع أنحاء أوروبا.
بموجب القانون الألماني، سيقع العبء الأكبر في تخفيضات استهلاك الطاقة على الصناعة، المسؤولة عن حوالي ثلث طلب البلاد. والسؤال هنا هو: ما مدى إنصاف الحكومة في مساعدة BASF للخروج من معضلة أسهمت الشركة نفسها في إحداثها وما زالت تستفيد منها؟
تعود روابط شركة الكيماويات بشركة الطاقة الروسية المملوكة للدولة Gazprom إلى ما بعد إعادة توحيد ألمانيا في عام 1990، عندما حاولت استخدام طرق الغاز المفتوحة حديثاً من الشرق لكسر احتكار الشركة الألمانية Ruhrgas. من خلال فرعها Wintershall، شاركت في تمويل بناء خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 1” الذي يحاول الكرملين من خلاله الضغط على الاتحاد الأوروبي هذا العام، وخط “نورد ستريم 2” الذي توقف قبل الحرب مع أوكرانيا مباشرةً، في شهر فبراير/شباط.
وازدهر التعاون بين الشركتين رغم الأزمات السياسية بين روسيا والغرب؛ ففي عام 2015، بعد عام من ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، سلمت Wintershall أكبر خزان للغاز في أوروبا الغربية في بلدية ريدين الألمانية إلى شركة غازبروم مقابل حصص في حقول الغاز في غرب سيبيريا.
وكانت المقايضة “مرغوبة ومدعومة سياسياً” في ذلك الوقت، كما تقول BASF، ولم تكن احتياطيات الغاز الاستراتيجية من أولويات المستشارة آنذاك، أنجيلا ميركل.
لكن الدور الذي أسهمت به شركة BASF في إحداث أزمة الطاقة الحالية قد لا يمكن التغاضي عنه بهذه السهولة على المدى الطويل. ووصفت صحيفة Die Tageszeitung الألمانية مؤخراً المدير التنفيذي للشركة الألمانية، مارتن برودرمولر، الذي عارض جهاراً في أبريل/نيسان فرض حظر على الغاز الروسي، بأنه “مذنب يشعل النار في المنزل أولاً ثم يدعي أنه وحده هو القادر على إخماده”.
يستمر الارتباط المربح لشركة الكيماويات مع Gazprom حتى يومنا هذا على الرغم من الحرب الروسية في أوكرانيا، التي دفعت الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات على العديد من الأفراد البارزين المرتبطين بشركة Gazprom، لكن ليس على الشركة نفسها. وأنهت BASF أنشطتها التجارية في روسيا وبيلاروسيا في يوليو/تموز، لكنها حددت استثناءات لدعم إنتاج الغذاء واحتفظت بحصتها في Wintershall، المعروفة الآن باسم Wintershall Dea.
تمتلك BASF ثلثي Wintershall Dea والباقي يملكه الأوليغارش الروسي الإسرائيلي ميخائيل فريدمان، الذي يخضع لعقوبات الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. بلغ صافي الدخل المعدل لشركة الطاقة في النصف الأول من هذا العام 1.3 مليار يورو (1.29 مليار دولار أمريكي)، مع ارتفاع أرباحها قبل الضرائب في روسيا بخمسة أضعاف مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021.
وحاولت الشركة تعويض الوقت الضائع في الأشهر الأخيرة؛ إذ بدأت في بناء محطة شمسية في براندنبورغ ومزرعة رياح كبيرة قبالة الساحل الهولندي لضمان تلبية مصادر الطاقة المتجددة المزيد من احتياجاتها من الطاقة. لكن الحفاظ على أنشطة سلسلة القيمة لموقع لدفيغ شايفين سليمة بدون غاز قد يمثل تحدياً لا يمكن تجاوزه.
وأُزيِح الستار عن اختبار لاستخدام الكهرباء بدلاً من الغاز لتكسير الهيدروكربونات في مقر شركة BASF على نهر الراين، في بداية سبتمبر/أيلول، لكن هذا الحل لم يكن جاهزاً لفصل الشتاء المقبل. وكشفت شركة Nonnast لاستشارات الأعمال: “هذا ليس شيئاً يمكنك فعله في شهرين، قد يكون ذلك ممكناً في غضون 5 سنوات، لكن فقط لأننا بدأنا النظر فيه قبل 5 سنوات”.
اقرأ ايضاً:سوريا.. قتلت أباها بمساعدة والدتها.. والسبب؟