الجمعة , نوفمبر 22 2024

الغرب لم يترك لبوتين.. إلا أسوأ الخيارات!

الغرب لم يترك لبوتين.. إلا أسوأ الخيارات!

سميح صعب

بداية، لنطرح السؤال الكبير، لماذا يدفع النزاع الأوكراني العالم إلى حافة الحرب النووية، وألم يكن في الإمكان إيجاد تسوية سياسية له؟

في الأيام الأخيرة، كشف تقريران، واحد نشرته مجلة “فورين أفيرز” الأميركية والآخر وكالة “رويترز”، بأنه في الأسابيع الأولى التي تلت الهجوم الروسي في 24 شباط/فبراير، إنتهى تقريباً المفاوضون الروس والأوكرانيون من وضع مسودة تسوية موقتة تضمن عودة القوات الروسية إلى المواقع التي كانت تتمركز فيها في 23 شباط/فبراير، في مقابل موافقة أوكرانيا على عدم الإنضمام إلى حلف شمال الأطلسي وبعدم السعي إلى حيازة أسلحة نووية، وبالقبول بوضع الحياد مع ضمانات أمنية من دول أجنبية. لكن ماذا حصل حتى تعرقلت التسوية؟

وفق التقرير الوارد في “الفورين أفيرز”، فإن رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون، طار على عجل إلى كييف في 5 أيار/مايو، كي يبلغ الرئيس فولوديمير زيلينسكي، بأن عليه أن لا يقبل هذه التسوية. وتالياً إستمرت الحرب وشهدت بعد ذلك الإندحار الروسي من على أبواب العاصمة الأوكرانية، ومن ثم إعلان الكرملين عن المرحلة الثانية من الهجوم بالتركيز على لوغانسك ودونيتسك. وفي المقابل، إستمر تدفق الأسلحة الغربية، وبينها ما هو متطور جداً، على أوكرانيا لإقناع زيلينسكي بأن الغرب يقف معه ويسانده “طالما إستلزم الأمر”.

وقبل إطلاق أوكرانيا هجومها المضاد على نطاق واسع في أوائل الشهر الجاري، معززة بأسلحة غربية جديدة وبمعلومات إستخباراتية أميركية، كان زيلينسكي يكرر في خطاباته الليلية، أن لا وقت للتسوية الآن وأنه لن يبحث الجلوس على طاولة المفاوضات إلا بعد طرد القوات الروسية من كافة الأراضي الأوكرانية بما فيها شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا عام 2014.

تبدو إدارة بايدن مأخوذة بنشوة التراجع الروسي في الميدان، وتترقب بحماسة كبيرة كيف سينعكس قرار التعبئة، نقمة داخلية على بوتين لأن الحرب هذه المرة ستدخل إلى كل بيت روسي، وما إذا كانت النخب السياسية والإقتصادية في موسكو وبطرسبرج والمدن الروسية المزدهرة، ستخاطر بإرسال أبنائها إلى الآتون الأوكراني، أم تنقلب على بوتين وتعيد إيقاظ يلتسين

وفي الوقت نفسه، كان بايدن يعلن يوماً بعد يوم عن المزيد من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، حتى وصل الأمر بالبنتاغون إلى عدم إستبعاد تزويد كييف بمقاتلات “إف-16”. وكشف موقع “بوليتيكو” الأميركي، الأسبوع الماضي، أن مفاوضات “هادئة” تجري بين مسؤولين أميركيين وأوكرانيين، لصياغة صفقة نهائية تقضي بتزويد كييف بمقاتلات “إف-16” وصواريخ “باتريوت” ومُسيّرات متطورة من طراز “غراي إيغل”. والجدير بالملاحظة أن بعض أنواع هذه الأسلحة لا تمتلكه حتى دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي. وهذا دليل على المكانة التي تحتلها أوكرانيا اليوم في التفكير الجيوسياسي الأميركي.

إذن، إنتقلت المسألة من صواريخ “جافلين” و”ستينغر” ومدافع “الهاوتزر” وراجمات “هيمارس” إلى ما هو أبعد بكثير. وثمة تسريبات عن إحتمال تزويد أوكرانيا بصواريخ يصل مداها إلى 300 كيلومتر، برغم النفي الأميركي الرسمي.

ترافق ذلك، مع نجاح الهجوم الأوكراني المضاد على الجبهة الشرقية، ودفع الجيش الروسي إلى مواقع دفاعية في عمق الشرق الأوكراني. وبينما كانت الأنظار تتجه إلى الجبهة الجنوبية في خيرسون التي سينطلق منها أي هجوم محتمل نحو القرم، شجعت الولايات المتحدة زيلينسكي على المضي في الهجمات مع إبداء الإستعداد لزيادة المساعدات تسليحياً وإستخباراتياً وإقتصادياً. لا يتوقف الأمر هنا، فأميركا تعمل بدأب لتصعيد العقوبات على روسيا وزيادتها، إلى حد المضي في إجراءات تحديد سقف لموارد الطاقة الروسية.

ما هي العوامل التي جعلت أميركا تلاحظ أن الجيش الروسي يعاني خللاً كبيراً؟

لعل أبرزها التراجع الميداني السريع على الجبهات، وسعي موسكو إلى الحصول على مُسيّرات إيرانية من طراز “شاهد-129” لإحداث توازن مع مُسيّرات “بيرقدار” التركية فوق ساحة المعركة، والتوجه لشراء صواريخ للراجمات وقذائف مدفعية من كوريا الشمالية، وشبه غياب لسلاح الجو الروسي عن سماء أوكرانيا، وإسقاط أوكرانيا أكثر من 20 مقاتلة روسية من طراز “سوخوي-29” في الأشهر الستة من الحرب، وإضطرار روسيا لسحب منظومات “إس-300” التي كانت زوّدت سوريا بها قبل سنوات قليلة.

ومما شجع أميركا أكثر، هو نتائج المباحثات التي أجراها بوتين مع الرئيسين الصيني شي جين بينغ ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في سمرقند في 16 أيلول/سبتمبر الجاري على هامش قمة منظمة شنغهاي للتعاون. شي جين بيغ كانت لديه “مخاوف وهواجس” حيال إستمرار الحرب. أما مودي فخاطب بوتين على مرأى الصحافيين ومسمعهم بأن “هذا ليس وقت الحرب”.

إلتقطت الولايات المتحدة الإشارتين الصينية والهندية، على أنهما تعبّران عن إستياء بكين ونيودلهي من مواقف بوتين، الذي حاول المسؤولون الأميركيون تصويره بعد قمة سمرقند على أنه بات وحيداً في مواجهة الغرب، وأنه حتى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يعد الأقرب إلى بوتين هذه الأيام، كان يدعو إلى إنسحاب القوات الروسية من كامل الأراضي الأوكرانية. وفي الداخل الروسي، برزت أصوات في مجلس الدوما تنتقد الأداء الميداني للجيش وتطالب بتفسيرات، وهذه حالات نادرة في روسيا.

وبالقراءة الجيوسياسية الأميركية لهذه التطورات، فإن لحظة “إضعاف” روسيا باتت أقرب من حبل الوريد، وأن الفرصة باتت سانحة وفق وقائع الميدان الأوكراني وتطور الوضع الدولي والإنشغال الصيني بتايوان، لتوجيه الضربة الحاسمة لبوتين، لأن تراجعاً فوضوياً للجيش الروسي من كامل الأراضي الأوكرانية، سيفضي إلى تغيير النظام في روسيا وربما إلى ما هو أبعد من ذلك: تفتيت الإتحاد الروسي.

يدل على هذا، أن النبرة التي يخاطب بها المسؤولون الأميركيون بوتين، ليست أرقى من النبرة التي سبق أن خاطبوا بها سلوبودان ميلوسيفيتش ومعمر القذافي وعمر البشير. قال وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن في جلسة مجلس الأمن قبل يومين على مسمع من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف :”لا يمكن أن نترك بوتين يفلت من المحاسبة”. إذن، لم تعد المسألة أوكرانيا.. إنها روسيا.

كل هذه الوقائع وأبعادها الجيوسياسية، جعلت بوتين يذهب في إتجاه خيارات لا يحبها الغرب، فكان قرار تنظيم إستفتاءات الإنضمام إلى روسيا في لوغانسك ودونيستك وزابوريجيا وخيرسون، ومن ثم الذهاب إلى التعبئة الجزئية والتهديد بإستخدام السلاح النووي.

في معرض تعليله للأسباب التي حدّته إلى إتخاذ القرار بالتعبئة الجزئية مؤخراً، أعلن بوتين أن الغرب يخوض معركة “تدمير روسيا”، ولذلك وجب عليه إتخاذ هذا الإجراء والتهديد صراحة بأن روسيا تملك أسلحة للدمار الشامل أكثر تطوراً من تلك التي يملكها الغرب، وبأنه “لا يخادع” عندما يقول إنه سيلجأ إلى هذه الأسلحة.

في الولايات المتحدة التي تراقب عن كثب الخطوات الروسية العملانية على الأرض، قال الرئيس جو بايدن في مقابلته مع شبكة “سي بي إس” الأميركية للتلفزيون الأسبوع الماضي متوجهاً إلى بوتين “لا تفعلها” وكرر العبارة ثلاث مرات، رافضاً تحديد ما سيكون عليه رد الولايات المتحدة، مكتفياً بأن ذلك من شأنه أن يزيد من وضع روسيا كدولة منبوذة عالمياً.

يميل بايدن إلى الإستسلام لإغراء التفكير بأن روسيا على وشك أن تتحول إلى إتحاد سوفياتي آخر.. لكنه قد يستفيق متأخراً على أن الثمن ربما سيكون دماراً شاملاً متبادلاً

هل وضع العالم على الحافة النووية، يشبه اللحظة الكوبية في أوائل الستينيات الماضية، والتي إنتهت بتسوية بين نيكيتا خروتشيف وجون إف. كنيدي؟ عن ذلك يجيب أستاذ السياسة الخارجية في جامعة أولد دومينيون بنورفولك بولاية فرجينيا الأمريكية سيمون سرفاتي في مقال نشره في موقع “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية جازماً بأن بوتين ليس خروتشيف وبأن أوكرانيا ليست كوبا، محذراً الغرب من عدم التحدث إلى الرئيس الروسي قبل فوات الآوان.

حتى الآن، تبدو إدارة بايدن مأخوذة بنشوة التراجع الروسي في الميدان، وتترقب بحماسة كبيرة كيف سينعكس قرار التعبئة، نقمة داخلية على بوتين لأن الحرب هذه المرة ستدخل إلى كل بيت روسي، وما إذا كانت النخب السياسية والإقتصادية في موسكو وبطرسبرج والمدن الروسية المزدهرة، ستخاطر بإرسال أبنائها إلى الآتون الأوكراني، أم تنقلب على بوتين وتعيد إيقاظ بوريس يلتسين. ووسائل الإعلام الغربية بدأت تتحدث عن “نزوح روسي” كثيف في إتجاه الغرب، جواً وبراً، تفادياً للذهاب إلى الجبهات.

بهذه النشوة، يميل بايدن إلى الإستسلام لإغراء التفكير بأن روسيا على وشك أن تتحول إلى إتحاد سوفياتي آخر.. لكنه قد يستفيق متأخراً على أن الثمن ربما سيكون دماراً شاملاً متبادلاً.

يقول الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير في روايته التاريخية “سلامبو” إن من بين أسباب دمار قرطاجة إفتقارها للفراسة السياسية.

180 بوست