هارب من التجنيد ووصل للرئاسة.. كيف أصبح زيلينسكي زعيماً لأوكرانيا؟
لم يكن فولوديمير زيلينسكي معروفاَ للغالبية العظمى من الناس خارج أوكرانيا قبل بدء الهجوم الروسي، لكن الممثل الكوميدي عديم الخبرة السياسية والهارب من التجنيد أصبح فجأة يقارن بونستون تشرشل، فكيف فعلها الرئيس الأوكراني؟
منذ أن توغلت المدرعات الروسية في الأراضي الأوكرانية، فجر يوم 24 فبراير/شباط الماضي، أصبح اسم زيلينسكي حاضراً بقوة في التغطية الإخبارية والإنسانية للحرب الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وبات ضيفاً مستديماَ على جلسات البرلمانات من الاتحاد الأوروبي لكندا والولايات المتحدة إلى اليابان وحتى إسرائيل، وهو حضور افتراضي بطبيعة الحال.
تحول فولوديمير زيلينسكي إلى رمز التحدي في مواجهة الهجوم الروسي، وأصبح الرجل، الذي يبلغ من العمر 44 عاماً، حاملاً للواء الدفاع عن الديمقراطية الغربية في مواجهة “الاستبداد وأحلام التوسع القيصرية التي يجسدها نظيره الروسي فلاديمير بوتين”، أو أن هذه هي الصورة التي تصدرها وسائل الإعلام والزعماء الغربيون بطبيعة الحال.
كيف أصبح الممثل الكوميدي رئيساً لأوكرانيا؟
ولد زيلينسكي في بلدة كريفي ريه، وسط أوكرانيا، لأبوين يهوديّين، وتخرج في جامعة كييف الوطنية للعلوم الاقتصادية، التي حصل منها على شهادة في القانون، لكن خريج القانون لم يعمل في مجال القانون، بل وجد ضالته في التمثيل، وبصفة خاصة الأدوار الكوميدية، حيث كان مشاركاً دائماً في الفرق المسرحية الطلابية.
وكان يشارك بشكل منتظم في برنامج فكاهي تنافسي، يبث من خلال التلفزيون الروسي، وفي عام 2003، شارك في تأسيس فريق إنتاج تلفزيوني ناجح، أُطلق عليه اسم كفارتال 95، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
ومن خلال عمله كممثل فكاهي، شارك في أفلام سينمائية أيضاً مثل “الحب في المدينة الكبيرة” (2009)، و”ريفسكي مقابل نابوليون” (2012)، إضافة إلى تقديمه برامج هزلية وفكاهية من خلال التليفزيون.
لم يبد على زيلينسكي أي اهتمام بالسياسة أو النشاط السياسي بشكل عام، وكان ذلك منعكساً في الأعمال التي يشارك فيها أو ينتجها من خلال فرقته كفارتال 95.
لكن بعد أن أصبح الرجل رئيساً لأوكرانيا في مايو/أيار 2019، في مفاجأة صارخة لم يتوقعها أي من السياسيين في البلاد، كان من الطبيعي أن تصبح حياته كتاباً مفتوحاً للجميع، خصوصاً أنه قدم وعداً قاطعاً للأوكرانيين ليلة فوزه بالرئاسة، قال فيه: “طوال حياتي حاولت أن أفعل كل شيء حتى يبتسم الأوكرانيون، في السنوات الخمس المقبلة سأفعل كل شيء حتى لا تبكوا أيها الأوكرانيون”، حسبما نقلت مجلة Politico الأمريكية.
أما كيف أصبح الممثل الكوميدي، الذي لم يبد عليه أي اهتمام بالسياسة قبل عام 2015 تحديداً، رئيساً لأوكرانيا عام 2019، فتلك قصة لا تزال تفاصيلها غامضة رغم أن أحداثها وفصولها جرت عبر شاشات التليفزيون، أي ليست خلف الأبواب المغلقة.
في أكتوبر/تشرين الأول عام 2015، عرضت الحلقة الأولى من مسلسل “خادم الشعب” للمرة الأولى عبر شبكة 1+1 الأوكرانية، التي يمتلكها ملياردير أوليغاركي أوكراني اسمه إيغور كولومويسكي، وفي المسلسل الكوميدي لعب زيلينسكي دور فاسيلي غولوبورودكو، مدرس تاريخ بسيط يصبح بمحض الصدفة رئيساً للجمهورية، وذلك عقب انتشار شريط مصور يظهره وهو يستخدم ألفاظاً نابية ضد الفساد.
تلك القصة الخيالية استولت على مخيلة الأوكرانيين الذين كانوا قد ضاقوا ذرعاً بالسياسة والسياسيين في بلادهم، حيث يبلغ الفساد مستوى ربما لا يكون له نظير في العالم، إذ تعتبر أوكرانيا واحدة من أكثر دول العالم فساداً.
وفي هذا السياق، كان لهذا الدور الذي لعبه زيلينسكي بشكل فكاهي في “خادم الشعب” تأثير هائل، عندما قرر الممثل الكوميدي أن يلعب الدور بشكل واقعي، واقتحم مجال السياسة، وأنشأ حزباً سياسياً سمّاه “خادم الشعب”، ولعب الملياردير كولومويسكي دور البطولة في حملة زيلينسكي الانتخابية، التي انتهت بفوز الممثل الكوميدي بالرئاسة على حساب الرئيس آنذاك بيترو بوروشينكو.
أقام زيلينسكي أساس حملته الانتخابية على ركنين أساسيين، الأول هو محاربة الفساد والثاني إنهاء الحرب في شرق أوكرانيا. كانت روسيا قد قامت بضم شبه جزيرة القرم عام 2014، وبدأت بتقديم الدعم والإسناد للانفصاليين في منطقتي دونيتسك ولوغانسك في إقليم دونباس، شرق أوكرانيا، في حرب استمرت بشكل متقطع، رغم اتفاقيات مينسك لوقف إطلاق النار.
زيلينسكي.. سيرة ذاتية جديدة
أصبح زيلينسكي رئيساً لأوكرانيا، بمناسبة مرور عامين على توليه المسؤولية، نشر الصحفي الأوكراني، سيرهي رودينكو، سيرة ذاتية للرئيس وذلك باللغة الأوكرانية، توقع الكثيرون أن تميط اللثام عن الغموض المحيط بكيفية وصول الممثل عديم الخبرة السياسية إلى رأس السلطة في البلاد خلال وقت قصير للغاية منذ أسس الحزب السياسي “خادم الشعب” وحتى فاز بالانتخابات.
لكن تلك السيرة الذاتية المختصرة، والتي أعاد رودينكو نشرها باللغة الإنجليزية مؤخراً، بعد أن أضاف إليها مشاهد قليلة من حياة الرئيس زيلينسكي في وقت الحرب، لم تقدم جديداً ولم تزل غموضاً، بل إنها لم تتوقف عند اتهام طارد الرئيس خلال الحملة الانتخابية ويتعلق بتهربه من التجنيد، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
كان الرئيس السابق يورشينكو، خلال مناظرة انتخابية في الاستاد الأولمبي بكييف قبيل جولة الحسم في انتخابات الرئاسة عام 2019، قد تحدى زيلينسكي أن يقدم مبرراته للتهرب من التجنيد الإجباري في بلاده عندما جاء دوره، لكنه نجح في التهرب من الإجابة، بتحويل دفة الحديث إلى الفساد و”الحرب العبثية” في الشرق.
وحتى تكون الصورة هنا أكثر وضوحاً، كان التهرب من التجنيد الإلزامي في أوكرانيا ظاهرة ملموسة خلال الفترة من 2013 وحتى اندلاع الحرب الأخيرة، بحسب تقرير لمجلة فورين بوليسي الأمريكية عام 2015. ففي ظل النقص الكبير في صفوف الأوكراني خلال المواجهة مع الانفصاليين في إقليم دونباس، أعيد فرض التجنيد الإلزامي على الشباب من 20 وحتى 27 عاماً.
وخلال تلك الفترة، بلغت أعداد الهاربين من التجنيد عشرات الآلاف، وتنوعت الأسباب بين مَن يرفض أن يحارب ضد الانفصاليين في شرق أوكرانيا باعتبارهم أوكرانيين أيضاً، ومن يرفض فكرة الحرب من الأساس أو من يرفض التجنيد لأنه ببساطة يرى أن السياسيين في بلاده فاسدون ويستفيدون من مناصبهم ومن الصراع ولا يريد أن يكون جزءاً من لعبتهم، وهناك من يرفض التجنيد؛ لأنه ببساطة يخاف الموت.
وفي هذا السياق، كان عدد القوات النظامية في الجيش الأوكراني قد تراجع بشكل مخيف خلال صراع عام 2014، لدرجة أن تقرير فورين بوليسي ذكر نقلاً عن قادة في وزارة الدفاع الأوكرانية أن قوام الجيش لم يكن يزيد على بضعة آلاف فعلياً، قبل أن يقرر الرئيس السابق يوشينكو التعبئة العامة في يوليو/تموز 2014، ليرتفع العدد إلى 200 ألف عسكري.
وعندما بدأت الحرب الحالية، أصدر زيلينسكي التعبئة العامة ومنع مغادرة الرجال الأوكرانيين من سن 18 حتى 60 عاماً البلاد، مجبراً الجميع على الانضمام للجيش وحمل السلاح. لكن كثيراً من الرجال الأوكرانيين يتحايلون على الأمر ويغادرون البلاد، بحسب كثير من التقارير الغربية.
ورغم ما يحيط بقصة التهرب من الجندية في أوكرانيا، لم يقدم الرئيس زيلينسكي ولا السيرة الجديدة عنه تفسيراً لعدم انخراطه في صفوف الجيش لتأدية الخدمة العسكرية الإلزامية في بلاده، سواء كان ذلك بسبب رفض الحرب أو الخوف أو أي سبب آخر، ومن غير المرجح أن تتكشف أبعاد ذلك الفصل المثير من حياة الرئيس الأوكراني قريباً، في ظل تحوله إلى زعيم شبهه كاتب سيرته الذاتية برئيس وزراء بريطانيا التاريخي ونستون تشرشل.
المشاركة في ثورات أوكرانيا ومحاربة الفساد
شهدت أوكرانيا، بعد الاستقلال عن الاتحاد السوفييتي عام 1991، ثورتين، كانت الأولى عام 2004/ 2005 وسميت بالثورة البرتقالية وكانت تهدف إلى التقارب أكثر مع الاتحاد الأوروبي وتخليص البلاد من الفساد، واندلعت على إثر تزوير نتائج الانتخابات الرئاسية لصالح مرشح مدعوم من روسيا. والثانية كانت أواخر عام 2013 وبدايات 2014، وسميت بثورة الميدان الأوروبي في كييف، حيث ثار الأوكرانيون ضد الرئيس يانونوكوفيتش الموالي لروسيا بعد إلغائه اتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي. سقط فيها عشرات القتلى والجرحى وتمت الإطاحة بيانوكوفيتش واندلعت الاضطرابات والحركات الانفصالية في الشرق، وانتهت الأمور وقتها بضم روسيا شبه جزيرة القرم وقيام جمهوريتي لوغانسيك ودونيتسك الانفصاليتين في إقليم دونباس.
لم يكن هناك أي دور لزيلينسكي الشاب لا في الثورة البرتقالية ولا في ثورة الميدان الأوروبي، في إشارة إلى أنه لم يكن مهتماً بالسياسة من الأصل، وهي علامة استفهام أخرى لم تقدم لها السيرة الذاتية الخاصة به إجابات من أي نوع.
أما ما يتعلق بوعدَي الرئيس الأوكراني لمواطني بلاده، أي مكافحة الفساد وإنهاء الحرب في الأقاليم الشرقية، فيمكن القول إنه أياً منهما لم يتحقق، ولو بصورة جزئية. ففيما يخص الفساد، وصل زيلينسكي إلى كرسي الرئاسة بدعم ملياردير متهم بالفساد وكان هارباً من البلاد منذ عام 2016، حيث يعيش في إسرائيل، والحديث هنا عن إيغور كولومويسكي، الذي أنتج لزيلينسكي مسلسل “خادم الشعب” ثم دعم لاحقاً حملته الانتخابية حتى صار رئيساً.
وبعد أن تولى زيلينسكي الرئاسة، عين أصدقاءه ومعارفه من الوسط الفني في مناصب كبرى في البلاد، وكثير منهم ضبط متلبساً بتلقي الرشوة وتم فصله من عمله أو حتى محاكمته. وأصدر زيلينسكي نفسه، خلال يوليو/تموز الماضي، قراراً بفصل صديقه إيفان باكانوف، رئيس جهاز المخابرات، والمدعية العامة، إيرينا فينيديكتوفا.
أما عن الفساد داخل الجيش الأوكراني فيبدو أنه تباطأ قليلاً عندما بدأ الهجوم الروسي، لكنه سرعان ما عاد إلى مستواه المعهود مع تدفق المساعدات الغربية على البلاد، بحسب تقرير لصحيفة The Times البريطانية عنوانه “الفساد يترك قوات الاحتياط الأوكرانية بلا أسلحة أو إمدادات”، رصد رحلة الفساد المستمرة في صفوف الجيش الأوكراني.
الخلاصة هنا هي أن الرئيس الأوكراني، الذي تحول إلى أيقونة غربية للدفاع عن الديمقراطية، تهرب من الجندية في بلاده دون أن يقدم تبريراً، ووعد بمكافحة الفساد رغم أنه وصل للرئاسة بأموال ونفوذ أوليغاركي متهم بالفساد ويعيش في المنفى، ورغم صدور سيرة ذاتية تشبه الرئيس بتشرشل، فإن الأسئلة الخاصة بحياته تظل عالقة بلا أجوبة.
عربي بوست