تسعى فرنسا وألمانيا، أكبر اقتصادين في الاتحاد الأوروبي، عادةً إلى إخفاء الخلافات وإظهار الوحدة وضبط المواقف المشتركة قبل الاجتماعات مع نظرائهما في الاتحاد الأوروبي، ولكن مع اجتماع القادة في قمة في بروكسل يوم الخميس 20 أكتوبر/تشرين الأول، فإن الانقسامات حول كيفية معالجة أزمة الطاقة أثبتت أنها عميقة للغاية، بحيث لا يمكن التغاضي عنها.
فعلى هامش القمة، انتقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سلوك ألمانيا في أزمة الطاقة التي تشهدها أوروبا حالياً، واتهمها بالعمل على عزل نفسها، بعد رفضها وضع سقف لأسعار الغاز.
على الرغم من أنه ليس الخلاف الأول، فإنه يعطي إشارات واضحة لفهم نمط الخلاف بينهما، الذي تعدَّى كونه تنافساً على مقعد زعامة الكتلة الأوروبية.
يُنظر لهذا الخلاف الأخير على أنه أدى لتأجيل برلين وباريس اجتماعاً دورياً على مستوى الحكومة، كان من المقرر انعقاده هذا الشهر، إلى كانون الثاني/يناير المقبل؛ ما يشير إلى تصدُّع متزايد بين مكوّنَي “المحرّك الأوروبي” الأساسييْن، وله أسباب عدّة.
وترى برلين أنها بحاجة إلى مزيد من الوقت؛ لتتمكن من إيجاد أرضية مشتركة مع باريس في عدة أمور، أبرزها مسألة مصادر الطاقة وإدارتها وأسعارها.
الخلاف الأول: أزمة الطاقة
هل الخلاف على كيفية إدارة أزمة الطاقة فقط، أم تعددت نقاط الخلاف؟
يصف مسؤولون ألمان وفرنسيون المفاوضات المستمرة بين الجانبين بأنها عديدة وصعبة للغاية، أهمها فيما يتعلق بالطاقة وبطريقة إدارة الأزمة، فهناك عدة نقاط للخلاف هي:
وضع سقف للأسعار
ترفض برلين تدخُّل السلطات بالأسواق؛ حيث ترى أن وضع سقف لأسعار الغاز سيدفع إلى مزيد من الاستهلاك، وربما يدفع المنتجين لبيع حصصهم من الغاز في أماكن أخرى؛ مما يجلب آثاراً سلبية على الإنتاج الأوروبي ككل. ويدعم الموقف الأماني بعض الدول الشمالية، من بينها هولندا والدنمارك، التي تتفق على أن تحديد أسعار الطاقة سيضر بالاقتصاد أكثر مما يفيده.
بينما ترى باريس في هذه الرؤية أن ألمانيا لا تضع فرنسا وباقي العائلة الأوروبية ضمن أولوياتها؛ بل تتبع نموذجاً أحادياً منعزلاً في قراراتها، وهو ما أزعج فرنسا.
ولا تبدو ادعاءات فرنسا بعيدةً عن الواقع، فقد أعدت الحكومة الألمانية خطة مساعدة بموارد مالية قدرها 200 مليار يورو، لدعم الأسر والشركات؛ للتخفيف من الأعباء الناجمة عن ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء.
مما لم يغضب فرنسا وحدها، فبعض دول الاتحاد انزعجت بشدة من القرار الذي تم دون استشارتها؛ حيث اعتبرت أن مثل هذه المدفوعات الضخمة قد تؤدي إلى فوضى في السوق الداخلية للاتحاد الأوروبي.
يأتي ذلك في الوقت الذي توصلت فيه فرنسا مع إسبانيا والبرتغال إلى اتفاق على بناء خط أنابيب “ميدكات” للطاقة، يربط شبه الجزيرة الإيبيرية ببقية أوروبا، في إحياءٍ لمشروع لطالما سعت إليه برلين بينما عارضته باريس.
رغم تراجع فرنسا عن معارضتها وموافقتها على بناء خط الأنابيب بعد تغيير اسمه لـ”ممر الطاقة الخضراء”، يرى محللون -بعكس ما تروِّج له أوروبا- أنه يحتاج الكثير من الوقت، ليس 9 أشهر فقط؛ بل سنوات، نظراً لطوله الذي يمتد إلى حوالي 900-1000 كيلومتر.
بالإضافة إلى أنه لا يمكن أن يعوض الكميات التي تستخدمها ألمانيا (أكبر مستورد للغاز الطبيعي في العالم) من الغاز الروسي، والتي تمثل 55.2% من إجمالي الغاز المستورد الذي يعتمد عليه القطاع الصناعي بشكل كبير.
ثانياً: الخلاف على مشروع المقاتلة الأوروبية
في مسائل أخرى غير الطاقة، قال مسؤولون فرنسيون وأوروبيون إن برلين رفضت أيضاً مقترحات فرنسية بخصوص تطوير ما يعرف دفاعياً باسم “نظام القتال الجوي المستقبلي”.
وهو مشروع دفاعي أوروبي أطلقته برلين وباريس في عام 2017، وكان يعد ركيزة أساسية لسياسة الدفاع والمشتريات العسكرية في المنطقة، يطمح الاتحاد الأوروبي من خلالها إلى تطوير مقاتلة تحلّ مكان طائرتَي “رافال” الفرنسية و”تايفون” الألمانية بحلول عام 2040، تكون بمثابة العمود الفقري لكل دول القارة بعد عام 2040.
وفاجأت برلين حليفتها عندما اتخذت قراراً بشراء مقاتلات من طراز “إف-35″، وهذا ما لم يعجب باريس إذا تعتبر أن اختيار سلاح أمريكي يوجّه رسالة خاطئة، في وقت ينبغي أن يكون التركيز فيه مُنصبّاً على تعزيز القدرات الأوروبية.
ويُعاني هذا البرنامج من عدة خلافات بشأن تشارك التكنولوجيا وقيادة أجزاء مهمة فيه؛ مما أدى لانسحاب الشركة الفرنسية “داسو” منه، وهو ما يوضح صعوبة التعاون الصناعي الأوروبي، وانعدام الثقة بين الجارَين الأوروبيين.
ثالثاً: اختلاف في الرؤى حول السلاح والسيادة الأوروبية
الحقيقة أن نقطة الخلاف الأكبر دائماً هي ما يخص مجال الدفاع، بخلاف عدم التوافق على المقاتلة الأوروبية، قررت ألمانيا و13 دولة أخرى من حلف الناتو شراء نظام دفاعي جوي موحد.
في المقابل، غضبت فرنسا؛ لأنها ترى أن القرار يقوّض فكرة السيادة الأوروبية التي تشدد عليها فرنسا؛ حيث ستدخل النظام الدفاعي صناعات أمريكية وإسرائيلية.
ورغم التضامن الذي أبدته ألمانيا وكبار قادة الاتحاد الأوروبي مع فرنسا حيال أزمة صفقة الغواصات الأسترالية، فإن ألمانيا ومعها دول داخل الاتحاد لا ترى غضب باريس إلا محاولة لجذب الدعم لشركات السلاح الفرنسية ونفوذها، علماً أن قطاع صناعة الأسلحة الألماني شهد تراجعاً وتواضعاً بعد الحرب العالمية الثانية.
عجَّل احتدام الحرب في أوكرانيا ببروز الخلافات بين باريس وبرلين داخل البيت الأوروبي الواحد التي لا تقف عند تباين نماذج وطريقة حل الأزمات لدى البلدين بشأن كيفية حماية اقتصادات دول الاتحاد؛ بل تعدى ذلك إلى الرؤية الشاملة للاتحاد وسيادته.
فبينما تدعو فرنسا لفكرة السيادة الأوروبية والابتعاد عن التبعية الأمريكية وحلف الناتو (الميّت سريرياً)، كما وصفه ماكرون، تنظر ألمانيا بشكل أكثر براغماتية في سياستها من خلال عقد التحالفات والاتفاقات.
عربي بوست
اقرأ أيضا: أكثر المليارديرات العرب خسارة للثروة في آخر 7 أشهر!