متى تعود “جامعة الدول العربية” إلى سوريا؟!
أحمد عبد الرحمن
ربما يعتقد البعض، للوهلة الأولى، بأنني أخطأت في ترتيب كلمات عنوان هذا المقال، وربما يقول البعض الآخر إن الصيغة الصحيحة هي: متى تعود سوريا إلى جامعة الدول العربية؟!
في الحقيقة، أنا لم أخطئ في الصّياغة، ولم تختلط عليّ الأمور إلى درجة تجعلني أكتب عنواناً قد يبدو غريباً لكثير من المتابعين، وإنما كتبت ما أعتقد جازماً بأنه الأصلح والأنسب، قياساً على الدور الذي لعبته الجمهورية العربية السورية، وما زالت، لنصرة قضايا الأمة، وفي مقدمتها قضية شعبنا الفلسطيني العزيز، وعلى النقيض الآخر الدور السلبي والهدّام، الذي مارسته الجامعة التي فقدت جزءاً كبيراً من عروبتها بفعل سلسلة طويلة من المواقف والقرارات المخزية والمعيبة!
وبالرغم من أن سوريا العروبة مرّت، وما زالت، بأزمات تنوء تحت وطأتها دول عظمى، لم تتخلّ يوماً عن دورها الإنساني والأخلاقي الذي ميّزها خلال عقود مضت، وقاومت وصمدت وعضّت على الجرح، بالرغم من الطعنات الغادرة التي أصابت قلبها، وكل مفاصل جسدها من القريب والبعيد.
ما زلت أذكر جيداً ذلك اليوم من شهر أيار/مايو من العام 2012، حين حلّقت بنا طائرة الخطوط الجوية المصرية فوق مطار دمشق الدولي، حينها كانت الأحداث التي سمّاها البعض “ثورة” في بداياتها، وشاهدنا عبر نوافذ الطائرة التي كانت تستعد للهبوط سحب الدخان الأسود تغطّي جزءاً كبيراً من سماء دمشق الفيحاء، أو كما يحلو لبعض المحبّين أن يسمّيها “مدينة الياسمين”، وقد بدت الحياة من الوهلة الأولى لدخولنا ردهات المطار غير طبيعية، فالأعداد التي تأتي قليلة للغاية، أما المغادرون فكُثُر، فقد كانت حملات التخويف والترهيب التي تمارسها فضائيات “الناتو” من الناطقة بلغة الضاد على أشدّها، تنشر أكاذيبها في كل الساحات، وتمتلئ شاشاتها بكل أنواع التضليل والخداع، وقد شكّلت بروباغندا الخوف التي مارستها مظلّة من الخداع للناس البسطاء، ما دفع كثيرين منهم للبحث عن أي فرصة للرحيل، سواء عبر المعابر الرسمية، أو من خلال طرق الموت التي كانت تشرف عليها عصابات إجرامية، همّها الأساس جمع المال من العوائل المكلومة والمنكوبة.
غادرنا سوريا بعد شهرين تقريباً من دخولنا إليها، وقد بدت الأوضاع أكثر سوءاً، إذ أصبح مخيم اليرموك الذي استضافنا بكل حفاوة ساحة للاشتباكات، وتحوّل جزء كبير منه إلى خراب بعد أن كان ينبض بالحياة، وبدأ أهله الطيبون سواء من الفلسطينيين أو السوريين بالمغادرة إلى أماكن أكثر أمناً.
خلال هذه الأعوام الطويلة من المؤامرات في غرف العمليات المنتشرة في بلدان وأقطار كان لسوريا أفضال لا تُعد ولا تُحصى عليها، وبعد أن استنفد محور الشر كل أدواته ووسائله الشيطانية في محاولة إسقاط الدولة السورية، وبالرغم من حجم الدمار غير المسبوق الذي لحق بكل شبر من تلك الأرض الطيبة، نجحت سوريا وحلفاؤها في الصمود، وتمكنوا بكل جدارة من كسر تلك الموجة الهائلة من العمليات العسكرية والاستخبارية والإعلامية، والحصار الاقتصادي والإرهاب التكفيري الذي ارتكب كل الجرائم والموبقات.
تمكنت سوريا وشعبها الشجاع من الخروج من تلك الحرب الكونية منتصرة وعزيزة، بالرغم من الجراح الغائرة والتضحيات العظيمة، ولم تغيّر أو تبدّل في مواقفها، بالرغم من حجم الضغوطات والابتزازات.
هذا الانتصار دفع البعض من تلك الدول التي كانت تحرّض وتموّل وتدعم وتسهّل إلى القيام بمراجعات تحت ضغط الفشل الذي مُنيَ به مشروعها التخريبي الكبير، وقد أفضت بعض تلك المراجعات إلى قيام دول كالإمارات ومصر والبحرين والأردن وموريتانيا وعُمان بفتح خطوط اتصال مع الدولة السورية، تبعتها إعادة فتح بعض تلك الدول سفاراتها في دمشق من جديد، بعد إغلاق استمر لأكثر من سبع سنوات، في حين ما يزال البعض الآخر يدرس تلك الخطوة، ويجري عملية تقييم لها، ويُبقي التواصل في جانبه الأمني فقط!
ولم يقتصر هذا الأمر على الدول فقط، بل تعدّاه إلى جماعات وقوى مهمّة في المنطقة والإقليم كحركة حماس على سبيل المثال، والتي كانت قد غادرت سوريا عام 2012 بعد بداية الأحداث بفترة وجيزة، في عهد رئيس مكتبها السياسي السابق خالد مشعل، تلك المغادرة وما تبعها من فراق بين حماس والدولة السورية، وتوتر في علاقة الحركة ببعض حلفاء سوريا كإيران وحزب الله، كان كما يبدو تماشياً مع الموقف العام لجماعة “الإخوان المسلمين” المناهض للدولة السورية منذ أمدٍ طويل، ومتماهياً مع مواقف بعض الدول التي تجمع حماس بها علاقات قوية مثل قطر وتركيا على سبيل المثال، ولكن يبدو أن هذه القطيعة بين الجانبين السوري والحمساوي قد أصبحت وراء ظهورنا بعد زيارة وفد الحركة للأراضي السورية قبل عدة أيام، واجتماعه ضمن وفد من فصائل المقاومة الفلسطينية مع الرئيس السوري بشار الأسد، وما تبع ذلك من مواقف وتصريحات أكدت عودة المياه إلى مجاريها بين الطرفين.
بالعودة إلى موضوعنا الأصلي المتعلّق بعودة الجامعة العربية لتفتح أبوابها من جديد للجمهورية العربية السورية، التي تُعد إحدى الدول السبع المؤسسة لها عام 1945، يمكن لنا أن نلحظ أن هناك تباينات واضحة في مواقف أعضاء الجامعة من العودة السورية، إذ تنقسم الدول الواحدة والعشرون الممثلة فيها بعد إبعاد سوريا إلى ثلاثة أصناف، الأول داعم ومرحّب، والثاني متردد ومرتبك، أما الثالث فرافض بشدة. ويبدو أن هذه التباينات مردّها، كما يبدو، قرب مواقف تلك الدول من الموقف الأميركي أو بُعدها، في هذا الخصوص، وبالرغم من أن أميركا ليست عضواً في الجامعة العربية ولا تتحدث لغتها، ويفصلها أكثر من 7100 ميل عن منطقة الشرق الأوسط، يبقى قرارها حاسماً ومُلزماً لكثير من الدول، خصوصاً تلك التي تحظى بعلاقة يصفها البعض بأنها استراتيجية مع أقوى دولة في العالم، ولا نُبالغ إذا قلنا إن كثيراً من القرارات المهمة والمفصليّة التي تصدرها الجامعة، خصوصاً في السنوات الأخيرة، تُكتب بنودها في وزارة الخارجية الأميركية وليس في القاهرة أو غيرها من العواصم العربية.
لذلك، يمكن لنا أن نلحظ أن السعودية وقطر هما الأكثر رفضاً للعودة السورية، وهما اللتان لعبتا إلى جانب تركيا الدور الأهم والأكثر تأثيراً في تأجيج الأحداث، وإشعال الساحات، والتحريض على تدخل عسكري دولي لإسقاط النظام في سوريا.
ويمكن لنا أن نعود إلى تصريحات وزير الخارجية القطري السابق، حمد بن جاسم آل ثاني، والتي تؤكد هذا الأمر، عندما صرّح في مقابلة تلفزيونية مع التلفزيون القطري في تشرين الأول/أكتوبر 2017م أن كل الدعم الذي كانت تقدمه قطر والسعودية للفصائل المسلحة كان بإشراف أميركي وبتنسيق مع تركيا، وأن بعض ذلك الدعم كان يذهب إلى “جبهة النصرة” المصنّفة إرهابية، ولم ينفِ كذلك احتمال وصول جزء منه إلى “داعش”، وإن بشكل غير مباشر، حسب وصفه.
الموقفان القطري والسعودي يبدوان منفصلين عن كثير من مواقف باقي دول الجامعة، فالجزائر والعراق ولبنان ومصر، على سبيل المثال، من أشد المؤيدين لقرار عودة سوريا، وهناك موقف مصري متقدم في هذا الخصوص، كشف عن جزء منه الوزير أحمد أبو الغيط، الأمين العام للجامعة ” مصري الجنسية ” عندما صرّح في المؤتمر الصحافي في ختام أعمال قمة بيروت الاقتصادية في كانون الثاني/يناير 2019م بأنه لم يكن راضياً عن قرار تجميد مقعد سوريا في الجامعة التي لم يكن رئيساً لها في ذلك الوقت. هذا الموقف المصري عززه اللقاء الذي جرى بين وزير الخارجية المصري، سامح شكري، ونظيره السوري، فيصل المقداد، في أيلول/سبتمبر من العام الماضي في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي عدّه البعض انعطافة مهمة من جانب مصر لمصلحة عودة علنية للعلاقات بسوريا بعد أن كانت مقتصرة على مستوى أجهزة المخابرات.
صحيح أن الموقف المصري شهد تراجعاً نسبياً من جراء الضغط السعودي الكبير، كما تقول مصادر مطلعة، ما أدى إلى تعطيل مشاركة سوريا في القمة العربية القادمة في الجزائر والمقرر انعقادها في الأول والثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، إلا أن هذا الأمر قابل للتغيير حسب تطورات الوضع في الإقليم.
ختاماً، نقول إن عودة سوريا لشغل مقعدها في جامعة الدول العربية هو حق أصيل لها كدولة محورية في المنطقة، وأن تلك العودة، في حال حدوثها، تعدّ مكسباً للجامعة ولدول المنطقة أكثر منه للدولة السورية، ولا نبالغ إذا قلنا إن خروج سوريا من تلك الجامعة المرهونة قراراتها للمحتل الأميركي قد عاد عليها بفوائد كثيرة، بدأت بحرية اتخاذ القرار وعدم الارتهان للغير، ولم تنتهِ بتطوير علاقاتها وتحالفاتها الاستراتيجية مع شركاء جُدد أكثر صدقاً وأكثر وفاءً.
نحن على يقين بأن هذه الأرض الطيبة التي دفع أبناؤها الغالي والنفيس من أجل الدفاع عنها في وجه الغرباء، ستعود كاملة في يوم من الأيام، من العراق شرقاً حتى تركيا شمالاً، ومن الأردن جنوباً حتى فلسطين ولبنان والبحر المتوسط غرباً، ستعود بكل سنتيمتر من مساحتها لا ينقص منها شيء، وسيخرج الغزاة عاجلاً أو آجلاً من شرقها وشمالها صاغرين يجرون أذيال الخيبة والهزيمة، وستستعيد أقدم مدينة في التاريخ جمالها ونضارتها بعد أن تنفض عن كاهلها غبار الحرب وتعب السنين.
الميادين