قصة قنبلة القيصر أقوى سلاح نووي يملكه بوتين
يحبس العالم أنفاسه منذ عدة أشهر خوفا من إقدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على إشعال حريق حرب نووية، فغير بعيد من خطوط النار في أوكرانيا تغفو بعض أهم وأخطر أسلحة الدمار الشامل، وتنام القنابل النووية القادرة على حرق خضراء الأرض وتحويلها إلى كرة نار متقدة.
لا يريد العالم أن يكتوي باللهب من جديد، فذاكرة قنبلتي هيروشيما وناغازاكي ما زالت مفعمة بالألم، وقنبلة القيصر الروسي التي أحرقت جزءا كبيرا من القطب الشمالي وحوّلت الثلج المتكدس طيلة قرون إلى عصارة من اللهب المتفحم، قادرة على إحداث دمار لا نظير له في التاريخ.
58 ميغا طن من النار
بعد سنتين من البناء والتطوير، وبعد جهد جهيد من العلماء السوفيات وفي مقدمتهم أندريه ساخاروف، حلقت طائرة عملاقة حاملة أهم وأكبر قنبلة في التاريخ، وهي قنبلة “إيفان الكبير” أو “قنبلة القيصر” أو كما يسميها الغرب “the Tsar bomb”، كانت هذه القنبلة ذات قوة تدميرية هائلة قدّرها علماء أميركيون بـ100 ميغا طن، أي أكثر بـ3300 مرة من قنبلتي هيروشيما وناغازاكي مجتمعتين، وأقوى بعشر مرات من جميع الذخائر التي تم استخدامها خلال الحرب العالمية الثانية. لكن السوفيات اختاروا تجريب نصف هذه القوة فقط، رغم أن قوتها التدميرية بقيت -رغم ذلك- أقوى بعشرات المرات من قوة تفجير قنبلتي “الطفل الصغير” (The Little Boy bomb) و”الرجل السمين” (Fat Man bomb)، اللتين ألقيتا على مديني هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين وراح ضحيتهما عشرات الآلاف.
أخذت القنبلة الروسية مسارها في سياق التنافس مع الولايات المتحدة في صناعة الرعب، ففي منتصف الأربعينيات وتحديدا في فجر 16 يوليو/تموز 1945، فجّرت واشنطن أول قنبلة نووية في تاريخ العالم، وذلك بعد سنتين من “صناعة وتركيب الموت” على يد عدد من العلماء الأميركيين، من بينهم العالم الشاب ثيودور هول (1925-1999).
كان هول يشاهد “الموت” كل صباح يتخلق بيديه وبين عينيه على شكل “قنابل نووية”، ثم تابع قوة التفجير وضراوة الموت حين كان يغرس أنيابه في عشرات آلاف المواطنين اليابانيين الأبرياء، ويمحو في لمحة خاطفة مدينتي ناغازاكي وهيروشيما.
أمام تلك الأهوال المفزعة التي تكشفت بعد انجلاء غبار الضربة النووية الأميركية لليابان، بادر الشاب هول إلى تسريب أسرار نووية إلى الاتحاد السوفياتي سعيا منه لإحداث نوع من توازن الردع، حتى لا ينجرف العالم نحو حرب لا تبقي ولا تذر.
أدت المعلومات التي سربها هول إلى السوفيات دورا فاعلا في تطوير برنامجهم النووي، حيث انطلقت إثر ذلك فورة التسابق، واستطاع السوفيات بعد ذلك بأربع سنوات تجريب أول سلاح نووي لهم يوم 29 أغسطس/آب 1949 بكازاخستان.
الانفجار الكبير
استكملت موسكو تطوير قنبلة القيصر، كانت جبلا من النار ومستودعا من شظايا الموت التي تجمعت في كتلة واحدة تزن 26.5 طنا. ولنقلها إلى موقع الاختبار، أجرى الخبراء السوفيات قرابة 50 تعديلا على الطائرة الضخمة “تو-95” (Tu-95)، شملت تلك التعديلات ترتيب هيكل الطائرة، واستبدال جميع الموصلات الكهربائية، وإعادة طلائها بطبقة بيضاء عاكسة حتى لا يلتهمها اللهب الحارق الذي سينبعث بعد قليل إذا ما فارقتها كرة النار العملاقة.
أُبلغ قبطان الطائرة الرائد الطيار أندريه دورنوفتسيف بالمهمة الخطرة، ولم يخف عنه قادته طبيعة المهمة وصعوبتها ولا حجم كرة اللهب التي ستصاحبه.
وفي 30 أكتوبر/تشرين الأول 1961، كان التاريخ السوفياتي على موعد مع أحد أكثر أيامه إثارة وخطورة حين تحركت الطائرة “تو-95 في” (Tu-95V) من مطار “أولينيا” في شبه جزيرة “كولا”، كانت أرضية المطار تهتز تحت عجلات الطائرة المحلقة، التي صاحبتها طائرة مراقبة أخرى، وسارت كأضخم ما يكون الطيران، وأقوى ما يكون التحدي، وأفظع ما تكون رحلات الموت.
بعد وقت من الطيران، وتحديدا في حدود 11:32 صباحا دوى صوت اللهب الحارق، فقد تم إسقاط القنبلة فوق إحدى جزر أرخبيل “نوفايا زيمليا” [الأرض الجديدة] (Novaya Zemlya) غير المأهولة في القطب الشمالي.
ومن على ارتفاع 10.5 كلم، تدحرجت كرة الموت بعد أن ألقتها قاذفة أُجريت عليها عشرات التعديلات من أجل هذه اللحظة الساخنة، لتلقي إلى أرض الأرخبيل قنبلة بوزن 26.5 طنا، وبطول 8 أمتار، متربعة على قطر مترين.
ولكن عملية إنزال “القيصر” من القاذفة لم تكن سهلة، فقد أشرف عليها عدد من الخبراء، وتمت بواسطة منطاد ضخم خصص لهذه المهمة ويزن حوالي طن، وكان الهدف منه هو إبطاء سرعة هبوط القنبلة الضخمة، حتى تتمكن الطائرة وطاقمها من النجاة والفرار من دائرة اللهب التي امتدت طولا وعرضا وعمقا، وخلدت بعد ذلك في تاريخ الأيام المشتعلة في رئة الزمان.
وبينما كانت “القيصر” تتهادى رويدا رويدا نحو الأرض، كانت الطائرة تبتعد مسرعة تسابق الزمن، وحين وقعت الواقعة وانفجرت “إيفان” كانت الطائرة ومرافقتها وفرقهما قد ابتعدوا مسافة 39 كلم عن موقع الانفجار الضخم.
ورغم ذلك فقد هوت الطائرة لمسافة ألف متر بسبب قوة الانفجار الذي عطل 3 من محركات الطائرة الأربعة، واحترقت قطع منها، وذابت أخرى، كما تفحمت أجزاء من الطلاء الأبيض العاكس الذي صبغت به قبل الانطلاقة.
ومع ذلك، فقد اعتُبر الفريق محظوظا لنجاته من الموت الذي انتشر في الأفق، كما نال قائده رتبة مقدم وحط عن منكبيه رتبة رائد التي حلق بها في طريقه لإحراق القطب الشمالي، أما مهندس القنبلة فقد كان له رأي آخر، حينما رأى ما جنته يداه وما يمكن أن يصل إليه اللهب لو تطور مسار إنتاج هذه القنابل.
3 دقائق و67 كلم من اللهب
تم تفجير القنبلة عبر أجهزة استشعار بارومتيرية مثبتة عليها بعد نحو 188 ثانية من انفصالها عن الطائرة، وبعد وصولها إلى الارتفاع المقرر وهو حوالي 4500 متر فوق سطح البحر؛ حيث انطلقت النار متأججة طولا بارتفاع يزيد على 67 كلم، وعرضا على مسافة 40 كلم، وشوهد بريق اللهب ووميض النار من مسافة تزيد على ألف كلم، أما قطر دائرة اللهب فقد تحوّل من مترين لا أكثر ليمتد إلى 4.6 كلم.
كان الأمر حدث الدنيا الأوحد بالنسبة للاتحاد السوفياتي، فقد أدت الاهتزازات الناشئة عن التفجير إلى اهتزازات متتالية في أرجاء الكرة الأرضية، وفقا للإعلام الروسي، وأشارت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية إلى أن انفجار القنبلة ولّد إشارات زلزالية كبيرة رغم وقوعه في الغلاف الجوي، وتحدثت مصادر أخرى عن أن الاضطراب الجوي الناتج عن الانفجار دار حول الأرض 3 مرات.
وذكر موقع “بي بي سي” (BBC) أن موجة الانفجار دارت حول الكوكب، وأن أجهزة الاستشعار رصدتها حول الأرض 3 مرات.
أما في محيط الكارثة، فقد سويت المنطقة بالأرض، وذابت جبال الجليد التي شمخت صلبة متراصة لقرون، وامتد الصدى القاتل ليسوي قرية “سيفيرني” بالأرض، رغم بعدها عن موقع الحادث بأكثر من 55 كلم، في وقت تهشمت فيه مبان وسويت أسطح بالأرض، رغم بعدها أكثر من 160 كلم عن أرخبيل اللهب اللافح.
ورغم كل ذلك، فإن العالم لم يتمكن من مشاهدة تلك الأهوال، ويطلع على تفاصيل كثير مما جرى، قبل الرابع من أغسطس/آب 2020، حينما أفرجت روسيا عن فيديو يوثق لحظة الانفجار في مقطع من 30 دقيقة، ليظهر للعالم كم كان الخبر دون العيان، وكم كان حجم الانفجار هائلا ومرعبا لأقصى درجة.
كان ذلك الرعب قد تسرب بقوة إلى قلب “صانع” القنبلة المهندس والعالم الروسي الكبير أندريه ساخاروف، الذي تحول لاحقا إلى ناشط محارب للسباق النووي، وداعية من أبرز دعاة نزع السلاح النووي، وأحد أهم قادة الرأي العالميين المطالبين بالحريات والحقوق، وهو ما جلب له نقمة النظام السوفياتي، وحوّله أيضا إلى أيقونة نضال في نظر الغرب حتى نال جائزة نوبل عام 1975، كما أطلقت باسمه جائزة دولية للحريات والنضال المدني.
في ذكراها الـ61، ما زال خطر الإشعاع النووي “نشطا للغاية”، وما زال الخوف يحرق قلوب العالم فزعا من حرب نووية لا تبقي ولا تذر.
وطوال عقود تحولت فوبيا السلاح النووي إلى سوط بيد الغرب يلهب به ظهور الدول “المارقة”، فمن أجل البحث عن تلك القنابل الفتاكة، أحرقت الولايات المتحدة العراق، وخاضت حروب حصار ومفاوضات مع كوريا الشمالية وإيران، لكنها اليوم تحوّلت -وفق مراقبين- إلى سوط آخر يجلد الغرب ويحيي مخاوفه من إقدام القيصر الجديد في روسيا على فتح حقيبة الموت، وإطلاق المارد النووي نحو القارة العجوز.. فهل تحتمل عجوز الثلج لهب الإشعاع النووي الحارق؟
الجزيرة
اقرأ ايضاً:خطاط سوري يضع بصمته على عملة قطرية خاصة بكأس العالم