صراع مافيات المخدرات ينتقل إلى شوارع اسطنبول
صعّدت المعارضة التركية من تحذيراتها المتعلّقة بتحوّل البلاد إلى مركز عالمي لتجارة المخدّرات ومقر محبب لزعماء شبكات الترويج العالمية، وسط اتّهامات جدّية باعتماد الائتلاف الحاكم على أموال هذه التجارة المحظورة عالمياً لسد العجز في الموازنة، وإيقاف التدهور الاقتصادي وجذب القطع الأجنبي.
وفي خضم النقاشات والاتّهامات المتبادلة بين زعيم المعارضة التركية والمسؤولين الحكوميين، ساهمت أنباء عن اعتقال أحد أكبر زعماء مافيا المخدرات في البلقان في منزله في أحد أحياء اسطنبول الفاخرة، في دعم مزاعم المعارضة وصدقية اتّهاماتها.
“السّلطة تغذّي وباء المخدّرات”
في فيديو نشره على حسابه على “تويتر” قبل أسبوع، اتّهم زعيم “حزب الشعب الجمهوري” كمال كيليتشدار أوغلو الحكومة التركية ووزير الداخلية سليمان صويلو بـ”تبييض أموال المخدّرات وتشجيع تجارتها”: قائلاً: “ينتشر وباء الميثامفيتامين في تركيا. منظومة القصر (الرئاسي) تغذي هذا الوباء. اليوم، سأخبركم كيف ينشر القصر هذا السم في شوارعنا لتبييض الأموال. إنه نتيجة للمال القذر”.
فيديو كيليتشدار أوغلو فجّر جدلاً واسعاً في البلاد، وفتح نقاشات أخذ وردّ بين المعارضة والسلطة التي استنفرت، بمسؤوليها الحكوميين والأمنيين، للرد على الاتّهامات الثقيلة، بدءاً بفيديو نشره وزير الداخلية صويلو على حسابه في “تويتر” اتّهم فيه كيليتشدار أوغلو العائد من زيارة الولايات المتحدة بـ”تنفيذ ما طلب منه أميركياً”، مشدداً على أنه “ليس من اللائق لمواطن في الجمهورية التركية أن يشوّه سمعة الدولة والشرطة والدرك والجيش في تركيا باتّهامات سد عجز الحساب الجاري بأموال المخدرات، ناهيك بكونه زعيم حزب سياسي”.
وشرح الصحافي التركي المتابع لملف المخدّرات في تركيا، جينكيز أردينج، في حديث إلى “النهار العربي”، أن “تصريحات كيليتشدار أوغلو وادعاءاته التي تستهدف سليمان صويلو لها أبعاد عديدة. أولاً هناك مشكلة مخدرات خطيرة في تركيا على مستويي التهريب والإدمان، لذا من المهم أن يطرح كيليتشدار أوغلو هذه القضية على جدول الأعمال كسياسي، وهذا يعتبر البعد الأول”.
ورأى أردينج أن كيليتشدار أوغلو من خلال إثارته قضية المخدّرات “التي يتجاهلها السياسيون دائماً، نجح في إحداث استجابة في المجتمع (التركي)” مضيفاً: “أستطيع القول إن الكثير من الفئات الشعبية التي لم تكن على دراية بحجم مشكلة المخدرات كانت مذهولة”.
لكن صويلو توعّد خصمه بمحاسبته، كاشفاً عن إجراءات سيتّخذها على المستوى الشخصي و”المؤسسات الحكومة والحزبية” ضده “من رفع دعوى جنائية، وأخرى للمطالبة بتعويض مالي”، مخاطباً كيليتشدار أوغلو بالقول: “إذا لم تثبت حرفاً واحداً من هذا الافتراء، فأنت حقير”.
واعتبر أردينج أن “حقيقة تحويل صويلو هذه المزاعم الخطيرة إلى جدل بدلاً من توضيحها كوزير مسؤول، قلل من أهمية هذه المسألة، وكان لكيليتشدار أوغلو دور (سلبي) في ذلك”.
أحرجت مزاعم المعارضة الحكومة التركية التي تتبنى خطاباً سياسياً يستند إلى القيم والمبادئ الدينية منذ فترة طويلة، وتسبب بانفجار الجدل بين الأوساط المتديّنة المؤيدة لحزب “العدالة والتنمية” الحاكم، في ظل عجز وزير الداخلية عن إعطاء ردود واضحة على تصريحات زعيم حزب المعارضة الرئيسي.
ورغم أن اتّهامات كيليتشدار أوغلو استهدفت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير الداخلية صويلو، إلا أن المديرية العامة للأمن التركي والقيادة العامة لقوات الدرك دخلتا طرفاً في هذا الجدل السياسي من خلال نشرهما تغريدتين منفصلتين على “تويتر” في الليلة نفسها، متوعّدين كيليتشدار أوغلو بملاحقته قانونياً.
واعتبر أردينج أن “رد الفعل القاسي للحكومة على تصريحات كيليتشدار أوغلو سببه التداخل بين المخدرات والسياسات الحكومية، مثل إعفاءات الاستجواب عن مصدر الأموال، التي تهدف إلى جذب الأموال السوداء، بالإضافة إلى انزعاج الحكومة من (فضائح) الكشف عن حصانة المهربين في القضاء والبيروقراطية”.
وأضاف: “ردود أفعال الدرك والمديرية العامة للأمن محاولة لاسترضاء السياسيين، ولها علاقة بالنفوذ السياسي، وكذلك بتسييس المؤسسات”.
ورش تصنيع المخدّرات تنتشر في الولايات التركيّة
اللافت في كل ما سبق أن كيليتشدار أوغلو استند في اتّهاماته إلى تقرير الميثامفيتامين الذي أعدّته إدارة مكافحة المخدّرات في المديرية العامة للأمن التركي، الذي يوضّح “تزايد عمليات تهريب الميثامفيتامين السائل من إيران، باتجاه العديد من الولايات التركية واسطنبول بالدرجة الأولى، حيث تم إنشاء ورش في هذه الولايات لتحويل المادة السائلة إلى شكلها الصلب”.
وبحسب التقرير، فإن “المواطنين الإيرانيين يتصدّرون شبكات تهريب الشحنات وورش التصنيع في تركيا”.
وكشفت الإدارة عن تنفيذها 198094 عملية لمكافحة المخدرات منذ بداية العام الحالي، ما يعني تنفيذ 660 عملية يومياً وسطياً في تركيا.
القبض على زعيم مافيا المخدّرات في البلقان في اسطنبول
وقبل أيام، ألقت السلطات التركية القبض على الصربي زيليكو بويانيتش، المطلوب للأنتربول بالنشرة الحمراء، والمعروف بكونه متزعم مافيا المخدّرات في البلقان.
ونتيجة عمليات الحفر في حديقة منزله في منطقة “سارير”، أحد أحياء اسطنبول الفاخرة، وجدت العناصر الأمنية التركية 3 جثث مدفونة منذ مدة طويلة في الحديقة.
وعقب الحادثة، نشر كيليتشدار أوغلو تغريدة بـ3 لغات، التركية والإنكليزية والصربية، قال فيها: “قلت إن جذب المال غير الشرعي يجذب صاحبه أيضاً. كل حثالة المافيا في العالم استقروا في مدننا بهدف جذب أموالهم. الآن يتم البحث عن جثث في الحدائق. ما ترونه هو مجرد حبة رمل من رمال البحر”، في تأكيد لاتهاماته السابقة لناحية اجتذاب المال غير الشرعي، وبخاصة ثروات تجّار المخدّرات، لسد العجز في موازنة البلاد.
وفي تغريدته باللغة الصربية، وجّه كيليتشدار أوغلو تهديداته إلى المافيا الصربية مستهدفاً إياها بالاسم، كما سبق أن هدد في كلمة خلال زيارته الأخيرة للندن بـ”اجتثاث رؤوس مافيا المخدّرات” في تركيا في حال وصول حزبه إلى السلطة.
واعتبر أردينج أن “تغريدة كيليتشدار أوغلو باللغة الصربية لها دلالاتها، لأن شبكات البلقان التي يسيطر عليها الصرب تمثّل الجانب المظلم للسياسة التركية. هناك جانب مظلم لوجودهم في تركيا، وعلاقاتهم مع شركائهم وعلاقة شركائهم بالسياسيين”.
وقال: “نحن نتحدث عن مجموعات متورّطة في مجازر في البوسنة، وقتل رئيس الوزراء الصربي عام 2003، وتوريد أسلحة للتدخل في انتخابات مونتينيغرو عام 2020. الأمر مرتبط أكثر بالسياسة الداخلية والمخاطر التي يشكّلها الارتباط السياسي بجماعات الجريمة المنظمة، وليس السياسة الخارجية”.
في 8 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أصيب مواطنان تركيان بجروح أثناء تناولهما الطعام في مطعم في مركز تسوق في “سارير” أيضاً، إثر اشتباك مسلّح بين المافيا الإيرانية ومنافستها الأذرية، سبقه اعتقال مواطنين روس وأذربيين وجورجيين في اشتباك اندلع بين عصابات مخدارات في “سارير” أيضاً في 13 من أيلول (سبتمبر) الماضي.
وقبل ذلك بثلاثة أيام، أي في 10 من أيلول (سبتمبر)، قتل زعيم المافيا الصربي جوفيتا فوكوتيج، في منطقة شيشلي، المجاورة لسارير، وهو أحد المشتبه بهم في قتل رئيس الوزراء الصربي عام 2003.
وتكتسب منطقة “سارير” أهمية خاصة، كونها تحتضن قصر الضيافة الرئاسي في اسطنبول، وقيادة قوات الدرك، وقيادة خفر السواحل وأمن المضائق التركي، وقيادة الاستخبارات الوطنية فرع اسطنبول، ما يعزز من فرضيات تداخل المافيا والسياسية والأمن في تركيا.
كما قتل زعيم المافيا الأذرية، نادر ساليفوف، في مطعم في أنطاليا في 19 آب (أغسطس) 2020، نتيجة الصراع بين المافيا الأذربيجانية وتلك الروسية.
وبحسب أردينج، فإن “تركيا تعاني مشكلة المخدّرات منذ منتصف التسعينات. في بعض الأحيان يتجلى ذلك في موجات تصاعدية من الإدمان والوفيات، لكن الإعلام والسياسيين يمررونها بأفكار مبتذلة، ويتهرّبون من مواجهتها”.
ويرى أردينج أن “مشكلة المخدّرات في (تركيا) متعددة الطبقات، وتجارتها تعتبر المغذّي الرئيسي للجريمة المنظمة، وهي تؤثر في السياسة. هناك العديد من الأمثلة على فاعلين مهمين في الجريمة المنظمة تستخدمهم الحكومة لترهيب المعارضة. ويكمن الخطر وراء ذلك في تشابك الجريمة المنظمة مع السياسة. لأن المافيا التي نمت مع تجارة المخدرات، تتسلل أيضاً إلى عالم الأعمال والمال في المناقصات العامة، وتعهّدات البناء، والمضاربة في سوق الأوراق المالية. لهذا السبب سيتم الحديث عن الجريمة المنظمة كثيراً (في تركيا) وعواقبها الوخيمة. وهذه ليست نبوءة”.
يعتقد الكثير من الصحافيين المتابعين لملف المخدّرات في تركيا أن الحوادث الأخيرة ستؤدي إلى عودة التطورات المتعلّقة بالموانئ التركية، وبخاصة ميناء بودروم، المفضل لدى المليارديرات الروس، والتي لفت المافيوزي التركي سيدات بيكر الأنظار إليها، من خلال تسريباته، إلى الواجهة مجدداً.
وحسب الأرقام التي حصل عليها “النهار العربي” من مصادر مفتوحة، فإن معدل الوفيات نتيجة الجرعة الزائدة من مادة الميتامفيتامين المخدّرة بلغ في عام 2017 7.8% بين 941 حالة وفاة بسبب تعاطي المخدرات، فيما ارتفعت هذه النسبة إلى 46.3% في عام 2021 من بين 270 حالة وفاة بسبب جرعات المخدّرات الزائدة. كما قفز معدّل القبول في المشافي للعلاج من تعاطي الميتامفيتامين في تركيا، من 3.5% في عام 2016، إلى 15.5% في عام 2021.
المصدر: النهار العربي – سركيس قصارجيان