لا يبدو أنّ الولايات المتّحدة الأميركية راضية حتى الآن عن نتائج عقوباتها على الدولة السورية، وعن طرق حصارها للشعب السوريّ ونهب ثروات البلاد الطبيعية الإستراتيجية من نفط وغاز وقمح وقطن، التي يُعدّ الشرق السوري الذي تحتلّ القوات العسكرية الأميركية أجزاء منه خزّاناً لها. وفي هذه المنطقة، تدعم واشنطن مجموعات انفصالية كردية تفعل كل ما في وسعها في سبيل عدم وصول أيّ مادة من تلك الثروات إلى الداخل السوريّ.
وإذ يختبر الشعب السوري أسوأ وأصعب كارثة معيشية عرفتها البلاد في التاريخ الحديث بفعل سياسات الولايات المتحدة الأميركية وقرصنتها، ويُحرَم من أبسط حقوقه في الغذاء والدفء والدواء والتنقّل، يخرج الرئيس “الديمقراطي” جو بايدن بوسيلة جديدة لقتل السوريين، في سيناريو يُذكّر العالم المتفرّج والصامت والمتواطئ بجريمة العصر في العراق في تسعينيات القرن الماضي، إذ أودى الحصار الأميركي الخانق بحيوات ملايين العراقيين، وحوّل الغالبية العظمى منهم إلى فقراء بعد حرمانهم من التصرف بثرواتهم ومكتسباتهم الوطنية.
والجديد هنا على الجبهة الأميركية – السورية هو تضمين إدارة جو بايدن ميزانية “الدفاع الأميركية” الجديدة للعام 2023، والتي وقّع عليها الرئيس الأميركيّ قبل أيام، قانوناً مبتكراً تحت عنوان “مكافحة الكبتاغون”، موجّهاً ضد سوريا بشكل خاص، وتزعم أهدافه محاربة الإتجار بالمخدرات في سوريا والإقليم والخارج، فيما يستهدف في الحقيقة الأراضي الواقعة تحت سيطرة الدولة السورية تحديداً.
وقد ضمّن بايدن ورقة قانونه هذا رسالة موجهة إلى وزارة الدفاع الأميركية، ووزارة الخارجية، ووزارة الخزانة، وإدارة مكافحة المخدرات، والاستخبارات الوطنية، ومؤسسات الإدارة الأميركية، ورؤساء الوكالات الفيدرالية ذات الصلة، طالباً تقديم إستراتيجية مكتوبة للجان الكونغرس ذات الصلة “لتعطيل وتفكيك إنتاج المخدرات والإتجار بها والشبكات التابعة للدولة السورية”، على حدّ زعمه، مع شرط وضع القانون قيد التنفيذ خلال 180 يوماً من تاريخ توقيع الرئيس عليه.
وبما أنّه لا توجد شبكات من هذا النوع تابعة للدولة السورية هناك بكل تأكيد، وفي وقت تحمل تلك الدولة أوزار محاربة شبكات تهريب المخدرات وغيرها وحدها ومن دون مساعدة من الدول الإقليمية والأوروبية، فإنّ المقصود من القانون الأميركيّ بشكل واضح هو فرض عقوبات خانقة على الصناعات الدوائية السورية، وحرمان شركات الأدوية في الداخل من استيراد المواد التي تدخل في صناعة الدواء، وخصوصاً علاجات أمراض السرطان والأمراض المستعصية التي يجد المرضى السوريون حاليّاً صعوبة بالغة في تأمين الأدوية الخاصة بها، فهي شبه مفقودة من سوق الدواء بفعل الحصار، بخلاف العجز عن تأمين الأجهزة الطبية وقطع التبديل للمستشفيات التي يزداد وضعها سوءاً للسبب ذاته.
وبالتالي، فإنّ الولايات المتحدة الأميركية قرّرت بشكل واضح وصريح إطباق الخناق على كل مواطن سوريّ حتى الموت أو حتى يرفع جميع السوريين الراية البيضاء أمام اليانكي المتعطّش للدماء ولـ”الديمقراطية” التي لا تتأتّى إلّا بتهشيم عظام الفقراء على امتداد هذا الكوكب.
وبالتزامن مع إعلانها “المرحلة الخامسة” من العقوبات الأميركية على الشعب السوريّ، قررت إدارة الرئيس الأميركيّ جو بايدن، التي لم تضع حتى اللحظة أيّ خطة أو أهداف مكتوبة واضحة لمشروعها العسكريّ في سوريا ومستقبل احتلالها لأراضيها، أن تبعث الحياة من جديد في حركة قواتها المحتلة بعد فترة تخبّطٍ حيّرت الباحثين الأميركيين أنفسهم.
واستغلَّت واشنطن فترة الهدوء التي منحتها أنقرة قبل أن تشرع في تنفيذ عملية عسكرية مفترضة ضد الكرد في الشمال والشرق السوريين، وذلك بعد مباحثات أميركية – تركية من جهة، وروسية – تركية من جهة أخرى، أفضت إلى إعطاء أنقرة “مهلة” لتنفيذ شروطها على الكرد من دون عملية عسكرية شاملة.
وبناءً عليه، عملت القوات الأميركية على إعادة تسيير دورياتها المشتركة مع “قسد”، بعد احتجاج الأخيرة وامتناعها عن تسيير الدوريات بذريعة الاستعداد لصدّ الهجوم التركيّ، وعدم القدرة على “محاربة تنظيم داعش” في الوقت ذاته، وهي الذريعة التي صدّرتها واشنطن لأنقرة ولحكومات الدول الغربية، مدعية تأثير أيّ عمليات عسكرية تركية في جهود مكافحة “داعش” في الشرق السوريّ.
وقد كثّف قادة القوات الأميركية اجتماعاتهم مع قادة “قسد” في الأيام الأخيرة، محاولين حثّهم على الصمود والاطمئنان إلى الدعم الأميركيّ والدولي، إذ التقى قائد “قوات التحالف الدولي في العراق وسوريا” الجنرال ماثية ماكفرلين وقائد غرفة العمليات المشتركة في التحالف الجنرال كلود تيودور القائد العام لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) مظلوم عبدي يوم الثلاثاء الماضي في 20 كانون الأول/ديسمبر الجاري، وعزّزت واشنطن تلك الوعود بتحركات عسكرية جديدة لإثبات تصميمها على الدعم والبقاء في المنطقة.
وعلى هذا الصعيد، قررت واشنطن إعادة نشر قواتها في محافظة الرقة القريبة من الحدود التركية، واستدعاء المدعو أحمد علّوش (أبو عيسى)، قائد ما يُسمّى “لواء ثوّار الرقة” الذي كان يتبع لـ”الجيش الحرّ”، والذي حيّدته وعطّلته “قسد” بشكل تام قبل سنوات.
وقد تلقّى علّوش وعوداً أميركية بالدعم المالي والعسكريّ السريع بعد إعادة جميع عناصره إلى الخدمة، والسعي لزيادة أولئك العناصر إلى عديد 5 آلاف، لوضعهم في مواجهة المجموعات المسلّحة العاملة تحت إمرة أنقرة، التي من المفترض أن تدفع بها أنقرة في مقدمة أيّ عملية عسكرية محتملة. وقد وعدت القوات الأميركية علّوش ورجاله بتلقي رواتب شهرية مجزية يدفعها “التحالف” نفسه.
وتهدف واشنطن من خلال هذا الخطوة أوّلاً إلى قطع الطريق أمام تقدّم القوات السورية وحلفائها الروس والإيرانيين باتّجاه الشرق، وكذلك قطع الطريق على أيّ جهود روسية لتسويات بين دمشق وأنقرة يتمّ فرضها على الكرد بالقوة، ودفع هؤلاء إلى تسليم مواقعهم للجيش السوريّ.
وتسعى واشنطن أيضاً لوضع هؤلاء المقاتلين العرب السوريين أمام زملائهم السابقين في المجموعات التي تشظّت عن “الجيش الحر” وباقي المسمّيات العسكرية التي كانت قائمة خلال السنوات الأولى من عمر الحرب، الأمر الذي ترى واشنطن أنّه قد يُرضي أنقرة بعد إبعاد الكرد إلى الصفوف الخلفية عسكريّاً، فيما في الواقع، سيبقى الوضع على ما هو عليه، إذ ستبقى “قسد” هي التي تقطر قافلة الاحتلال والنهب الأميركيّ في الشرق السوريّ، ولن يكون علّوش ورجاله سوى واجهة “عربية سورية” لإعادة النفوذ الأميركيّ إلى الرقة وإلى مناطق التماس مع الجيش السوريّ وحلفائه، وورقة شكليّة توضع في وجه أنقرة للعدول عن مشروعها ضد الكرد، ولو إلى حين.
وعلى هذا الصعيد أيضاً، تفيد المعلومات الواردة من الشرق السوريّ بأنّ قوات الاحتلال الأميركي تنوي إعادة إقامة قاعدة لها في المقر السابق لقوات “الفرقة 17” السورية، واستقدام تعزيزات عسكرية أميركية إلى محافظة الرقة.
وتشير كلّ تلك التحرّكات والترتيبات الأميركية الجديدة إلى وجود نيّة لدى إدارة بايدن في إبقاء قواتها في الأرض السورية، بل الاستعداد لاحتلال طويل الأمد، فهي تقوم بالفعل بتوسيع قواعدها العسكرية في عموم الشرق في الآونة الأخيرة، واستقدام الآليات والمعدات اللوجستية والجنود إلى النقاط القريبة من نقاط الجيش السوري والحلفاء الروس والإيرانيين، فهي تريد الانخراط العملي في الميدان الذي قد يشتعل في أي لحظة، وفرض نفسها كلاعب رئيسيّ في أيّ ترتيبات أمنية أو عسكرية تفرضها عمليات عسكرية تركية أو سورية وروسية وإيرانية، وموازنة وجودها العسكري والأمنيّ بالوجود والدور الروسيّ تحديداً.
وتعتقد إدارة بايدن أنّ بإمكانها فعل ذلك في ظلّ انشغال موسكو بعملياتها العسكرية في أوكرانيا، كذلك تعتقد أنّ تقوية نفوذها ودورها العسكري والأمني في الشرق والرقّة تحديداً، سيدفع أنقرة إلى القيام بحسابات جديدة تتضمّن احتمال مواجهة الأميركيين عند القيام بعملية عسكرية، وهو الأمر الذي تعتقد واشنطن أن أنقرة لن تقدم عليه في ظروف ميدانية وأمنية وسياسية كهذه.
وعلى الرغم من هذا النشاط الأميركي المستجد الذي يبدو واثقاً، فإنّ قدرات واشنطن العسكرية والأمنية في الشرق السوريّ لا تخوّلها الذهاب بعيداً في خططها، فهي، بعدّتها وعديدها وظروفها العسكرية والسياسية في المنطقة، لن تستطيع موازنة الوجود العسكريّ للجيش السوري والحلفاء الروس والإيرانيين والحشد الشعبي العراقي معاً، وهي ليست في موقع القادر على كبح جماح إردوغان أو إرضائه وجعله يتراجع عن إلقاء “الورقة الكردية” في الاتجاه الذي تهبّ فيه رياح مصلحته.
وبالتالي، ليس من المتوقع أن تصل تلك الترتيبات والتحركات الأميركية الجديدة إلى أماكن أبعد من ترتيباتها السابقة. وفي حال نشوب النيران في ميدان الشمال والشرق، فإنّ واشنطن ستكون أضعف المتقاتلين عسكريّاً، بل أضعف حتى من “قسد” نفسها.
جو غانم .. كاتب سوري
الميادين نت
اقرأ أيضا: الأتراك يتداولون مجددا رسالة نصح فيها زعيم المعارضة الرئيس أردوغان قبل 10 سنوات بعدم معاداة سوريا