الجمعة , نوفمبر 22 2024

كيف أهدرت أغنى دولة في العالم ثروتها وانتهى بها الأمر بالإفلاس؟

كيف أهدرت أغنى دولة في العالم ثروتها وانتهى بها الأمر بالإفلاس؟

خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كانت دولة ناورو الموجودة على جزيرة صغيرة، وسط المحيط الهادئ، تحقق أرباحاً سنوية تصل إلى ما يقرب من 100 مليون دولار، ومع تعداد سكانها الذي لا يتجاوز 10 الآف نسمة، أصبحت ناورو في ذلك الوقت أغنى دولة في العالم بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي للفرد.

لكن ذلك العيش الرغيد لأهل الجزيرة لم يدم طويلاً، بسبب سوء إدارة تلك الثروة وتبديدها على أيدي مسؤوليها، وسرقة ثرواتها الطبيعية من دول مثل ألمانيا واستراليا وبريطانيا، لدرجة إفلاس دولة ناورو، وخسارة ثروتها، وتحول أكثر من 80% من أراضيها إلى أرض قاحلة لا تصلح للزراعة ولا البناء ولا أي شيء آخر.
وأصبح سكان ناورو من أكثر الشعوب المصابة بالسمنة وأمراض السكري، والقلب بسبب حرمانهم من الزراعة، وتعوّدهم على نمط حياة كسول. تعيش ناورو اليوم على المساعدات التي تستلمها من استراليا، مقابل تحويلها إلى مركز احتجاز للمهاجرين وطالبي اللجوء.

ثروة ناورو التي أصبحت نقمة على أهلها

عام 1798، كانت سفينة بريطانية في طريقها إلى بحار الصين، صادفت تلك السفينة جزيرة ناورو الصغيرة قرب أستراليا، كانت مساحتها 21 كم مربع فقط، وكان سكان ناورو بضع مئات، يعيشون على صيد الأسماك بشكل أساسي، وزراعة بعض الخضراوات على جزيرتهم.

خلال المئة سنة اللاحقة لم تكن ناورو ذات قيمة استراتيجية للقوى الاستعمارية التي كانت تتسابق في المحيط الهادئ، لكنها أصبحت تحت سيطرة القوات الألمانية في عام 1888 بعد احتلالها، وبقيت جزيرة هامشية بالنسبة لألمانيا أيضاً، لكن كل شيء كان على وشك أن يتغير.
عام 1899 وفي شركة تجارية بأستراليا، قام الجيولوجي البريطاني “ألبرت إليس” بفحص صخرة صغيرة غريبة المظهر، كانت توضع على الأرض لتبقي باب المكتب مفتوحاً، قيل له إنها قطعة خشب متحجرة من جزيرة ناورو. وسرعان ما اكتشف أنها في الواقع خام عالي الجودة من الفوسفات، وهو سماد فائق الفعالية في الزراعة، يمكن تحويله إلى ثروة إذا تمكن من تحديد مصدره.

حسم “أليس” أمره وأبحر إلى جزيرة ناورو، ليكتشف أن 80% من الجزيرة كانت غنية بمادة الفوسفات. سرعان ما انتبهت ألمانيا للثروة التي تحت يديها، وبدأوا باستخراج أطنان الفوسفات من الجزيرة وشحنها إلى أوروبا.

كانت عمليات التنقيب بتعرية التربة وحفر خنادق وحُفر ضخمة، وبالتالي القضاء على النباتات والأرض والحياة الطبيعية.
كتب المصور “روزاموند دوبسون رون” عام 1921 لمجلة ناشيونال جيوغرافيك، عن الآثار اللاحقة على جزيرة ناورو: “حقل الفوسفات المروع عبارة عن قطعة أرض كئيبة مروعة، بآلاف من الحفر بعمق من متر إلى 3 أمتار، وسلال الفوسفات المهملة، وعلب الكيروسين الصدئة”.

خلال الحرب العالمية الأولى، طردت أستراليا القوات الألمانية، وخلال الـ20 عاماً اللاحقة، قامت أستراليا بنهب مئات الأطنان من الفوسفات من الجزيرة، وبيعها بسعر أقل بكثير من السعر ​​العالمي لدعم المزارعين في أستراليا ونيوزيلندا وبريطانيا العظمى.
عام 1942 احتلت القوات اليابانية الجزيرة، ولم تستطع اليابان نهب كثير من الفوسفات، بسبب القصف المستمر الذي تعرضت له الجزيرة، لكن قوات الجيش الياباني ارتكبت مجزرة بحق سكان الجزيرة، وأغرقت العشرات من المصابين بالجذام وهم أحياء في البحر.

وعانى العديد من سكان الجزيرة أيضاً من المعاملة السيئة من قبل اليابانيين، وتوفي عدد منهم نتيجة العنف الذي تعرضوا له، ليس فقط من قبل الجنود اليابانيين ولكن أيضاً من قبل الموظفين اليابانيين، ومن سوء التغذية بسبب محاصرة الجزيرة.

عند نهاية الحرب في عام 1945، بقي أقل من 600 نسمة من سكان ناورو على الجزيرة ومات ربع سكان ناورو. وضعت الأمم المتحدة ناورو تحت “وصاية” أستراليا وبريطانيا ونيوزيلندا، ليبدأ فصل جديد من نهب ثرواتها.
على مدى العقدين التاليين، ارتفعت صادرات الفوسفات بشكل مضاعف دون أن يستفيد منها أهل الجزيرة، مع استمرار المزارعين الأستراليين والنيوزيلنديين في دفع أسعار أقل بكثير من أسعار السوق، بحلول الوقت الذي حصلت فيه ناورو على استقلالها في عام 1968، كان أكثر من 35 مليون طن متري من الفوسفات قد غادر شواطئها.

وكانت أستراليا ونيوزيلندا وبريطانيا قد استنفدت تقريباً رواسب الفوسفات في الجزيرة، وعندما غادرت تلك الدول ناورو، تركت وراءها واحدة من أسوأ الكوارث البيئية في العالم

استقلال ناورو يجعلها أغنى دولة في العالم

أصبحت ناورو ثالث أصغر جمهورية مستقلة في العالم بعد إمارة موناكو ودولة الفاتيكان، وكانت تسيطر على مواردها لأول مرة منذ عقود، كانت تجارة الفوسفات مربحة للغاية، فأصبحت ناورو أغنى دولة في العالم بالنسبة للناتج المحلي للفرد.
في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، عندما بلغ اقتصاد البلاد ذروته، كان الناتج المحلي الإجمالي للفرد في ناورو يُقدر بـ50 ألف دولار، وتراكمت ثروة الدولة في صندوق استثماري بلغت قيمته أكثر من مليار دولار، وأصبح السكان المحليون يتلقون آلاف الدولارات في شكل معونات حكومية كل عام، فأهملوا الزراعة وأي عمل آخر.

لكن خيارات القيادات السياسية الخاطئة وانتشار الفساد كانت على وشك تضييع هذه الثروة، فكان أول شيء فعلته ناورو بثروتها، هو استخدامها في إنشاء شركة الطيران الوطنية. كان عدد سكان ناورو حينها لا يتجاوز 7 آلاف نسمة. وبالتالي كانت رحلات الطيران​​، تحتوي على 80% من مقاعدها فارغة.

وما زاد الطين بلة أنه في عام 1988 قررت حكومة ناورو جعل جميع الرحلات الجوية مجانية،  حيث يمكن لأي شخصٍ السفر إلى أي مكان مجاناً، چفأعلنت الشركة إفلاسها.

الاستثمار الثاني الذي قاموا به، كان شراء الفنادق والعقارات في جميع أنحاء العالم بمئات الملايين من الدولات، لكن العديد من هذه الاستثمارات فشلت وخسرت ناورو الأموال بسرعة أكبر.

قررت حكومة ناورو لاحقاً إنتاج مسرحية موسيقية عن حياة “ليوناردو دافينشي”، واستثمرت 5 ملايين دولار في المسرحية، وتم عرضها في لندن. لكن حتى سكان لندن لم يحبوا المسرحية كثيراً، وأغلقت بعد 5 أسابيع فقط. خسرت ناورو معظم الأموال التي استثمرتها.

أَضف إلى ذلك، الفساد المالي للمسؤولين والاختلاس، وعمل الصندوق مع مستشارين ماليين غربيين قاموا بتبديد جزء من الأموال بأنفسهم، واختلسوا بعضها، وأساءوا إدارة معظمها.

إفلاس دولة ناورو وتدمير صحة سكانها

بحلول عام 2002، كانت ناورو مدينة بمبلغ 239 مليون دولار أمريكي، فتم الحجز على جميع عقاراتها بالخارج، وتعرض بنكها المركزي للإفلاس، وصودرت طائراتها من مدارج المطار.

بحلول التسعينيات، وبعد عقود من الزمن من بيع الفوسفات، ونهب معظمه من قبل دول أخرى، لم يعد هناك ما يمكن استخراجه من ناورو، وانتهى الأمر بتدمير 80% من مساحتها الصغيرة بالفعل. ولا توجد وظائف للسكان، ولا توجد أرض كافية لزراعة ما يكفي من الغذاء للجزيرة.
وحين كانت الدولة ثرية، عاش سكان ناورو أسلوب حياة خاملاً، مع اتباع نظام غذائي غير صحي، بسبب الثروة المفاجئة. وبعد تدمير الأراضي الزراعية، اعتمدوا على استيراد الأغذية المصنعة، التي تحتوي على نسبة عالية من السكر والدهون.

قدرت منظمة الصحة العالمية أن 94% من سكان ناورو كانوا يعانون من زيادة الوزن والسمنة، ويبلغ متوسط ​​وزن سكان ناورو نحو 100 كيلوغرام.

ومع اجتياح الأزمة المالية للجزيرة، تحولت إلى ملاذ لغسل الأموال، تبيع التراخيص المصرفية للبنوك الوهمية، وتبيع وجوازات السفر، ومن ضمنها جوازات السفر الدبلوماسية التي تمنح الحصانة. وكان من بين العملاء الأشهر المافيا الروسية.

في عام 2002، صنفت وزارة الخزانة الأمريكية ناورو كدولة لغسل الأموال، وقالت: “ناورو مشهورة بالسماح بإنشاء بنوك خارجية ليس لها وجود مادي في ناورو أو في أي دولة أخرى”، وفرضت عليها عقوبات اقتصادية.

في عام 2001، اندلعت أزمة اللاجئين في أستراليا، وقدمت الحكومة الأسترالية حينها حلاً باستغلال جزيرة ناورو، لنقل طالبي اللجوء إلى مراكز احتجاز في الجزيرة، بدلاً من البر الرئيسي الأسترالي، مقابل دفعات مالية ومساعدات للجزيرة.

وأصبحت الجزيرة التي كانت أغنى دولة في العالم في يوم من الأيام، تعيش على المساعدات من نظام الاحتجاز الأسترالي، وتعلق آمالها الاقتصادية على أمل إعادة استخراج الفوسفات، وتأمل أن يبدأ التعدين في عام 2025، لكن هذه المرة من تحت مياهها الإقليمية. ومن يدري ربما يتكرر سيناريو الثروة وإفلاس أغنى دولة في العالم مرة أخرى.

 

اقرأ أيضاً: اختطاف مواطن أردني في سوريا لطلب فدية