كان حلف الناتو على أهبة الاستعداد الدائم لمحاربة الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، لكن حرب أوكرانيا كشفت عن نقاط ضعف متعددة للحلف في مواجهة روسيا، منها الدفاعات الجوية الهشة، لكن هناك نقاط أخرى أكثر خطورة.
فخلال الحرب الباردة، لم يكن استعداد حلف الناتو الدائم قاصراً على قدرات استخدام السلاح، وإنما كان يشمل تجهيزات الإمداد والتسليم للقوات في جميع أنحاء القارة، إذ دأبت دول التحالف على إجراء تدريبات قتالية وعمليات إمداد ونقل تجريبية، باستخدام الشاحنات وعربات القطارات والطائرات والسفن المتاحة لديهم.
لكن رغم أن حلف الناتو، بقيادة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، يقدمون دعماً عسكرياً ضخماً إلى أوكرانيا لتصمد أمام روسيا، فإن توصيل ذلك الدعم العسكري يتسبب في مشاكل لا حصر لها.
ونشرت صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية تقريراً عنوانه “حرب أوكرانيا تستنفر الناتو، لتعزيز قدراته في نقل المعدات العسكرية”، رصد كيف أن نقاط الضعف لدى الحلف العسكري الغربي لا تزال تتكشف رغم اقتراب الحرب من دخول عامها الثاني.
دبابات فرنسا وطائرات بولندا
فعندما أرادت فرنسا إرسال دباباتها “لوكلير” Leclerc لتعزيز الدفاعات العسكرية لحليفتها بالناتو رومانيا، في سبتمبر/أيلول الماضي، عارضت حليفتهما ألمانيا نقل الدبابات عبر طرقها السريعة.
لم يكن سبب الرفض لدى ألمانيا هو الاحتجاجات المطالبة بالسلام، ولا المعارضة السياسية لدعم أوكرانيا بالأسلحة، وإنما كانت المشكلة هي الأوزان الثقيلة لناقلات الدبابات الفرنسية.
قالت السلطات الألمانية إن الوزن الإجمالي لتلك الناقلات يتجاوز الحدود القانونية للأوزان المسموح بها على معظم الطرق في البلاد، وعرضت استخدام طريق آخر، لكن باريس رفضته. ومن ثم، أرسلت فرنسا الدبابات عبر السكك الحديدية، فتسبب ذلك في تأخَّر وصول الدبابات إلى أوكرانيا.
وإذا كانت مسألة الدبابات الفرنسية ونقلها إلى أوكرانيا قد ظهرت بعد مرور أكثر من 7 أشهر على اندلاع الحرب، فإن مشكلة مشابهة تتعلق بالطائرات اندلعت في الأسابيع الأولى للحرب.
كانت روسيا، في بداية الحرب، قد دمرت أغلب المطارات والطائرات الأوكرانية والدفاعات الجوية، فعرضت بولندا أن توفر أسطولها من طائرات الميغ إلى كييف، مقابل أن تعوضها واشنطن بطائرات أحدث.
فبعد أن اشتكى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من أن بلاده تقف وحيدة في مواجهة الهجوم الروسي، وكان ذلك في اليوم التالي لبدء الهجوم، تسارعت وتيرة المساعدات الغربية لكييف بصورة لافتة، وتدفقت شحنات الأسلحة الفتاكة، خصوصاً الصواريخ المضادة للدروع والطائرات، ومنها ستينغر وغافلين وغيرهما.
ومع مرور الأيام، بدأت مطالب زيلينسكي للغرب تكون أكثر تحديداً، كفرض حظر طيران فوق أوكرانيا، وإرسال طائرات عسكرية إلى بلاده، لكن المطلبين أثارا اختلافات بين الحلفاء، وأظهرا شروخاً في المواقف بين الولايات المتحدة والغرب من جهة، وداخل الولايات المتحدة نفسها من جهة أخرى.
وبدأ التفكير في إرسال طائرات مقاتلة إلى أوكرانيا في الأيام الأولى من بدء الهجوم الروسي، خصوصاً بعد أن استهدفت القوات الروسية الدفاعات الجوية لأوكرانيا في اليوم الأول من الهجوم، وبدا أن سلاح الطيران الروسي يسيطر بشكل كامل على الأجواء الأوكرانية.
لكن مع مرور الأيام الأولى، وظهور مؤشرات على نجاح المقاومة الأوكرانية في وقف تقدم القوات الروسية، بدأ زيلينسكي رسائله المصورة، التي يطالب فيها الدول الغربية، حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وجميع دول العالم بتقديم مساعدات عاجلة لكييف، واصفاً بلاده بأنها تمثل الديمقراطية وتدافع عن أوروبا بأكملها.
وبعد أن أعلنت أمريكا عن اتفاق مع بولندا لإرسال طائرات ميغ إلى أوكرانيا للمساعدة في التصدي للهجوم الروسي، تراجعت واشنطن عن الفكرة، وقيل إن السبب هو خشية واشنطن من رد فعل موسكو، لكن اتضح لاحقاً أن الخلاف الحقيقي كان بشأن كيفية إيصال المقاتلات البولندية إلى كييف، سواء من قواعد أمريكية أو من قواعد تابعة لحلف الناتو.
نقل المعدات العسكرية بين دول الناتو معضلة كبرى
ومن بين نقاط الضعف الأخرى التي كشفها الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه “عملية عسكرية خاصة”، بينما يصفه الغرب بأنه “غزو عدواني غير مبرر”، تعرض الدفاعات الجوية للاختراق، ونقص الإمدادات العسكرية لدى أغلب الجيوش الأوروبية.
كما زاد على ذلك أن الحرب ذكَّرت المخططين العسكريين في الناتو بمشكلة لطالما أثارها بعضهم في السنوات الأخيرة، وهي صعوبة نقل المعدات العسكرية على أراضي القارة الأوروبية.
فالبنية التحتية للإمداد في حلف الناتو تداعت بانهيار الاتحاد السوفييتي، وتوقف التشاور وانقطع التواصل بين خبراء الإمداد العسكري وسلطات النقل المدنية. وباعت أوروبا الغربية حصة كبيرة من مخزونات خطوط السكك الحديدية المخصصة للحرب، وسنَّت الحكومات لوائح قانونية لتقييد حركة نقل الأسلحة والمتفجرات وغيرها من المواد الخطرة عبر الحدود.
وجاء توسع الناتو في دول حلف وارسو السابقة (التي كانت داخل الاتحاد السوفييتي أو خارجه) بعد عام 1999، فزاد من تعقيد الأمور، لأن المسؤولين الجدد لم يكن لديهم خبرة بالطرق وخطوط السكك الحديدية المناسبة للاستخدام أثناء الأزمات.
وعلى مدى سنوات طويلة، لم تُفحص مناطق الإمداد الحرجة مثل الجسور والأنفاق والمعابر في دول الناتو الجديدة، إذ لم ير أحد أن ثمة حاجة إلى ذلك. وغاب عن معظم المراقبين المخاطر الأمنية المتعلقة بندرة الطرق السريعة عالية السعة في دول التحالف الأوروبية.
ثم استولت روسيا على شبه جزيرة القرم في عام 2014، واندلعت الحركات الانفصالية في شرق أوكرانيا، فتصاعد احتمال وقوع الحرب مرة أخرى بالقرب من أراضي الناتو. واستدعى ذلك إعادة اكتشاف طرق النقل والإمداد المتوقفة منذ سنوات طويلة في أوروبا.
عكف الجنرال بن هودجز، قائد القوات الأمريكية في أوروبا آنذاك، طيلة أربع سنوات، على محاولة تحسين التنقل العسكري في القارة، وكانت رؤيته تقوم على أن المعدات العسكرية يجب أن تتحرك بسهولة كما يفعل الناس داخل منطقة اتفاقيات شنغن التي جمعت معظم الدول الأوروبية.
وبعد أن تقاعد الجنرال هودجز في عام 2018، أنشأ الناتو هيكلين جديدين للإشراف على خدمات النقل والإمداد في التحالف: أحدهما للخدمات اللوجستية الأوروبية، والآخر للشحن عبر المحيط الأطلسي.
يتجنب الاتحاد الأوروبي المشاركة المباشرة في المعركة الدائرة بأوكرانيا، لكنه بدأ يسعى جاهداً لمساعدة قواته المسلحة في العمل بكفاءة أكبر، وزاد من تركيزه على دعم قدرات التنقل العسكري. وهكذا شرعت وكالة الدفاع الأوروبية التابعة للاتحاد الأوروبي في مشروع لتعزيز قدرات النقل العسكري تقوده هولندا، ويضم بعض الدول غير المنتمية للاتحاد الأوروبي، مثل النرويج وكندا والولايات المتحدة.
وفي إشارة إلى مدة جدية جميع الأطراف في التعامل مع مسألة النقل العسكري، سمح الاتحاد الأوروبي لبريطانيا بالانضمام إلى المشروع، على الرغم من فتور العلاقات معها بعد خروجها من الاتحاد.
كيف يواجه الناتو مشكلاته في أوكرانيا وغيرها؟
قال بول جونسون، وزير دفاع السويد التي تولت الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي مطلع العام الجديد، إن تعزيز قدرات النقل والإمداد العسكري “أمر بالغ الأهمية” لالتزام الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو بالمادة 5 من ميثاق التحالف، وهو مجال متاح للتعاون.
ومع ذلك، فإن الخطوات العاجلة التي اتخذتها دول الناتو منذ الهجوم الروسي على أوكرانيا، كانت إنذاراً قاسياً عن كثرة النواقص والحجم الكبير للإصلاحات التي ينبغي عملها للوفاء بالاحتياجات. وقال مسؤولون إن تسليح قوات كييف ومساندة الدفاعات العسكرية لدول الناتو القريبة من روسيا، مثل بولندا وبلغاريا ورومانيا، تطلَّب الكثير من التدابير الخاصة لتجاوز العقبات البيروقراطية واللوجستية.
وفي هذا السياق، أشار تقرير حمل عنوان “خطة العمل الثانية بشأن التعبئة والإمداد العسكري”، وأصدره الاتحاد الأوروبي في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، إلى أن “الوقت قد حان للانتقال من الحلول المخصصة لكل حالة على حدة إلى الحلول الهيكلية”.
بعد أيام من نشر التقرير، التقى ينس ستولتنبرغ، الأمين العام لحلف الناتو، وزراء دفاع الاتحاد الأوروبي لمناقشة العمل على تعزيز قدرات التعبئة والإمداد العسكري واللوجستيات، ووصف الأمر بأنه “جزء مهم من التعاون القائم بين الناتو والاتحاد الأوروبي”. واجتمع ستولتنبرغ الشهر الماضي مع تييري بريتون، مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون السوق الداخلية، للمضي قدماً في إجراءات التوافق بين الحلف والاتحاد.
تسعى هذه الاجتماعات إلى التغلب على الحذر طويل الأمد بين منظمتي الاتحاد الأوروبي والناتو، التي تضم كل منها دولاً متعددة. وكانت كل منظمة منها ترى أن الأخرى قد تعتدي على حقوقها في أوقات السلم، لكن الأزمة تجمعهما الآن على التعاون في التخطيط الأمني وتوجيه سبل الإنفاق إلى أكثر المسارات كفاءة.
فالاتحاد الأوروبي يستثمر المليارات من اليورو سنوياً في تحسين البنية التحتية للنقل بين دول القارة، لكنه نادراً ما ينشغل بتعزيز قدرات النقل والإمداد العسكري. ولذلك بدأت المنظمتان في تنسيق الخطط بينهما ليتماشى التمويل المخصص من الاتحاد الأوروبي مع الاحتياجات التي حددها الناتو.
ومع ذلك، قال الجنرال الأمريكي المتقاعد هودجز، إن تجاوز اللوائح القانونية لدول الاتحاد ما زال أمراً شاقاً، لا سيما أن الحكومات لا تركِّز بالقدر الكافي على حل المشكلات القائمة، لذلك يتعين أن ننتظر “تخصيص الأموال وتوجيهها لإجراء تغييرات حقيقية”، وإلا فإننا لن نتمكن من إصلاح هذه العيوب.
وقال جان جيريش، نائب وزير الدفاع في جمهورية التشيك، إن بلاده وجيرانها (من الدول السابقة بحلف وارسو) تعاني صعوبات جمة، بسبب ضعف البنية التحتية المادية، فقد كانت أغلب دبابات حلف وارسو ومركباته العسكرية أصغر حجماً وأقل وزناً من نظيرتها الغربية، ومن ثم فإن الجسور والممرات المتاحة ذات تصميم مناسب لنقل المعدات الروسية والسوفييتية، لكنها ستنهار تحت ثقل المعدات والمركبات البرية التابعة لحلف الناتو. ولذلك فإن مخططي الناتو والاتحاد الأوروبي عاكفون الآن على البحث عن سبل معالجة أوجه القصور الهيكلية.
لكن المشكلة لا تقتصر على الدول السابقة لحلف وارسو، فالدول الغربية التابعة لحلف الناتو منذ أمد طويل تعاني مشكلات في البنية التحتية أيضاً. وفي هذا السياق، قال المسؤولون الفرنسيون إن ناقلات الدبابات “لوكلير” تتجاوز الحد الأقصى لحمولة الناقلات في الطرق الألمانية، والتي تبلغ 12 طناً.
يسعى الاتحاد الأوروبي إلى مساعدة نفسه بإزالة هذه العقبات، لا سيما أن الانضمام المزمع لفنلندا والسويد إلى الناتو يعني أن التحالف العسكري سيشمل أكثر من 96% من سكان الاتحاد الأوروبي. ومن بين جميع دول الاتحاد، ستكون النمسا وأيرلندا وقبرص ومالطا فقط خارج الناتو.
يعمل الاتحاد الأوروبي والناتو على تعزيز التوافق بشأن متطلبات الإمداد والنقل، بحيث تكون تصميمات الطرق المدنية والبنية التحتية البحرية والسكك الحديدية قادرةً على الوفاء بالاحتياجات العسكرية في الوقت نفسه. وتعمل المنظمتان على تطوير نماذج جمركية رقمية، يمكن للسلطات المدنية والعسكرية الوصول إليها، لنقل الشحنات بسلاسة بين الدول.
وتسعى المنظمتان إلى تنسيق وتسهيل ما سماه تقرير الاتحاد الأوروبي، في نوفمبر/تشرين الثاني، “القواعد والإجراءات الوطنية المعقدة والطويلة والمتباينة”، وقد شمل ذلك اللوائح المالية، فقد جرى التوافق على إعفاء دول الاتحاد الأوروبي من ضرائب القيمة المضافة، ورسوم الإنتاج للسلع والخدمات المرتبطة بالدفاع الجماعي.
عربي بوست
اقرأ أيضا: كيف أهدرت أغنى دولة في العالم ثروتها وانتهى بها الأمر بالإفلاس؟