«تخييم» أميركيّ بمواجهة روسيا: واشنطن لموسكو: لم ننسَ الرقّة
علاء حلبي
منذ سيطرة «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، بدعم من «التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة، على الرقة، «عاصمة» تنظيم «داعش» سابقاً، في تشرين الأوّل 2017، وبعدما جرى استثمار هذا «الانتصار» سياسياً ودعائياً إلى أبعد الحدود، غابت المدينة التي تعرّض معظمها للدمار خلال معارك طرْد التنظيم، عن خريطة اهتمامات واشنطن، التي اختارت المواقع النفطية في الشمال الشرقي من البلاد موقعاً لتمركزها، إلى جانب «قاعدة التنف» في المثلّث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن. إلّا أن الولايات المتحدة لا تجدّ بدّاً اليوم من تجديد اهتمامها بالمحافظة الواقعة شمال سوريا، وذلك في إطار خطّة عمل أميركية واسعة النطاق، عنوانها الرئيس معاكسة المسار الروسي، خصوصاً في ظلّ حَراك موسكو النشط على خطّ التطبيع بين أنقرة ودمشق، واستمرار الحرب المستعرة معها في أوكرانيا
تعيش الرقة، هذه الأيام، في ظلّ حملات أمنية متتابعة تنفّذها «قوّات سوريا الديموقراطية»، بمشاركة وإشراف من «التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة. حملاتٌ تتّخذ ستاراً لها «تفكيك خلايا تنظيم داعش»، الذي عاد إلى الظهور مرّة أخرى في الرقة، في تزامُن مريب مع إعلان واشنطن توسيع حضورها الميداني في سوريا، يكاد يكون مطابِقاً تماماً لِما حدث العام الماضي، عندما ظهر التنظيم مرّة أخرى في الشرق السوري، بالتزامن مع إعادة القوّات الأميركية انتشارها في مناطق واقعة على خطوط التماس مع مواقع سيطرة تركيا، ومواقع حضور القوّات الروسية والسورية. وبعيداً عن عباءة «محاربة داعش» التي اعتادت الولايات المتحدة أن تستظلّ بها لتغطية نشاطها في سوريا، يثير الاهتمام الكبير والمفاجئ بالرقة، أسئلة عديدة حول أسبابه وتوقيته، خصوصاً أن المحافظة، التي تفيد إحصاءات غير رسمية بأن نحو 900 ألف شخص يقطنونها، لا تُعتبر من المناطق المهمّة استراتيجياً للمشروع الأميركي في سوريا، ولا حتى لمشروع «الإدارة الذاتية» الكردية، بسبب خلوّها من منابع نفطية مهمّة، وعدم وجود مراكز كردية تاريخية كبيرة فيها، باستثناء بعض المناطق الكائنة قرب الحدود التركية، بالإضافة إلى ابتعادها عن طريق طهران – بيروت، الذي تَعتبره واشنطن استراتيجياً وتسعى بجدّ إلى منْع تفعيله.
ويترافق الاهتمام الأميركي المتزايد بالرقة، والذي ظهر بشكل واضح خلال الشهرَين الماضيَين، متجلّياً في العودة إلى قاعدتَين كانت القوّات الأميركية قد انسحبت منهما قبل نحو ثلاث سنوات، مع اهتمام سياسي وديموغرافي، ضمن مشروع يبدو متكاملاً، تعمل واشنطن على تحقيقه. مشروعٌ يبدأ من إعادة إحياء المكوّن العربي عبر محاولة إرجاع فصيل «لواء ثوار الرقة» إلى الحياة بعد أن قامت «قسد» بفرطه خلال السنوات الماضية، ويمتدّ إلى العمل على تنشيط عدد من المشاريع الاقتصادية، ولا ينتهي ببعْث الحراك السياسي في المدينة، من خلال دعْم أحزاب عدّة فيها، من بينها حزب «المستقبل»، بالإضافة إلى تقوية قنوات الاتّصال بالمكوّن العشائري في المحافظة. وتَكشف مصادر مطّلعة على النشاط الأميركي في الرقة، في حديث إلى «الأخبار»، أن مسؤولين أميركيين زاروا المدينة خلال الفترة الماضية، آخرهم المبعوث الأعلى للولايات المتحدة إلى شمال سوريا، نيكولاس غرينغر، يوم السبت الماضي، حيث ناقشوا باستفاضة أوضاع المدينة المدمَّرة، وسُبل تعزيز المشاريع الخدمية فيها، بعد نحو خمس سنوات على تدميرها من قِبَل الطائرات الأميركية نفسها، التي استعملت مختلف أنواع القنابل والقذائف (التي يُعتبر بعضها محرَّماً دولياً) خلال عمليات طرْد مُقاتلي «داعش» منها.
مسؤولون أميركيون زاروا المدينة خلال الفترة الماضية، آخرهم المبعوث الأعلى للولايات المتحدة نيكولاس غرينغر
وبالإضافة إلى ما تَقدّم، تَلفت المصادر إلى أن المسؤولين الأميركيين ذكروا، أكثر من مرّة، أن اهتمامهم بالمدينة يهدف، في نهاية المطاف، إلى إنعاشها، وتحصينها لمنع أيّ انزلاق ميداني أو سياسي يسلخها عن مشروع «الإدارة الذاتية». ويأتي ذلك في وقت تعمل فيه الولايات المتحدة على إعادة هندسة المشروع المذكور مرّة أخرى، سواء عبر استبعاد شخصيات كردية مرتبطة بشكل واضح بحزب «العمال الكردستاني» المصنَّف على لوائح الإرهاب التركية منه، أو محاولة استقطاب «المجلس الوطني الكردي» من خلال تنشيط الحوار الكردي – الكردي، في مسعًى يرمي إلى توليد حالة مشابهة لكردستان العراق، تكون مُرضية لأنقرة من جهة، وبمثابة الأمر الواقع بالنسبة إلى دمشق وموسكو من جهة أخرى. وعلى الرغم من عدم امتلاك الرقة موقعاً استراتيجياً بالنسبة إلى المشروع الأميركي في سوريا، غير أنها تقع على عقدة طُرقية مهمّة، حيث يمرّ عبرها طريق «M4» الذي يمتدّ من أقصى شرق سوريا إلى غربها، ويَجري الحديث بشكل جدّي أخيراً خلال المحادثات السورية – التركية – الروسية، والتي انضمّت إليها إيران، عن إمكانية فتْح جزئه الغربي الواصل بين حلب واللاذقية كخطوة أولى، قبل العمل على تفعيله بشكل كامل. والجدير ذكره، هنا، أن الوصول إلى هذه المرحلة يتطلّب عملاً ميدانياً يضمن سلامة الطريق، في ظلّ وجود قوى عدّة تشرف عليه، سواء الفصائل التابعة لتركيا التي تُشرف على أجزاء منه في الشمال الشرقي من البلاد، أو «قسد» وواشنطن اللتَين تشرفان على أجزاء منه أيضاً، ما يعني ضرورة إشراك الولايات المتحدة في النقاشات مستقبلاً، في حال رفْضها الخروج من سوريا.
بدورها، تربط مصادر كردية، في حديث إلى «الأخبار»، بين النشاط الأميركي المتزايد في الرقة والتنف والمناطق الشرقية من سوريا، وبين الحرب الروسية في أوكرانيا، إذ ترى المصادر أن الولايات المتحدة تهدف، عبر إعادة انتشارها الجاري حالياً، إلى خلْق توازن ميداني جديد مع روسيا، بعد سنوات خسرت خلالها واشنطن النفوذ لصالح موسكو، التي باتت تملك حضوراً وازناً في الشمال الشرقي، يُضاف إليه حضور تركيا، حليفة روسيا، ضمن «مسار أستانة». ويضع ذلك الولايات المتحدة، في ظلّ الظروف الحالية، أمام حالة تصفها المصادر بأنها «ضعيفة ميدانياً»، وهو ما يدفعها إلى تعزيز انتشارها على الأرض، وربّما التمدّد في مناطق جديدة كما هو متوقّع، بهدف تحسين قدرتها الميدانية. ويأتي هذا في وقت تستمرّ فيه في عمليات الاستحواذ المتتابعة على المعارضة السورية، عبر خلْق تشكيلات جديدة تنشط من نيويورك، يَجري تحضيرها بعناية لتكون بديلة لـ«الائتلاف السوري»، الذي يبدو أن واشنطن قد اقتنعت بأن زمنه انتهى.
الأخبار