عزّز زلزال شباط (فبراير) المدمّر اتّساع الفجوة بين تركيا والمناطق التي تحتلها في شمال غربي سوريا، على الصعيدين السياسي والشعبي. ممارسات السلطات التركية خلال عمليات الإغاثة والإنقاذ تركت جرحاً غائراً في نفوس المواطنين السوريين الذين لمسوا بحواسهم، وبما تبقّى لديهم من أنفاس وهم يصارعون الركام الذي يحاصرهم من كل جهة، التمييز الفاضح ضدهم وكأنهم بشر من درجة ثانية، فيما الأتراك من الدرجة الأولى.
ولم يشمل مثل هذا التمييز السوريين العاديين فحسب، بل انسحب أيضاً حتى على بعض قادة المعارضة والفصائل المسلحة المقيمين في مناطق تركية ضربها الزلزال، حيث لم يشكل البحث عنهم وإنقاذهم أولوية لدى السلطات التركية التي كان من الواضح أنها تضع على سلّم أولوياتها إنقاذ مواطنيها الأتراك بما لديها من إمكانات.
ذريعة للتسويف
وفي الساعات الأولى التي أعقبت الزلزال، كان جلياً أن المناطق التي تحتلها تركيا في شمال غربي سوريا كانت خارج خريطة الاستنفار الذي فرضه الزلزال على كل مؤسسات الدولة التركية، بما فيها إدارة الكوارث (آفاد)، وقد كانت الأضرار التي لحقت بالطريق المؤدي إلى معبر باب الهوى ذريعة مناسبة استخدمتها أنقرة لتسويف أي تحرك إنقاذي أو إغاثي على خط هذه المناطق. وحتى بعدما جرت إزالة الأضرار عن هذا الطريق من الجانبين السوري والتركي وأصبح جاهزاً للاستخدام، لم تبد السلطات التركية حماسة كبيرة لاستخدامه، متذرّعة بطريقة غير مباشرة بوجود حسابات سياسية، إقليمية ودولية، ينبغي أخذها بالاعتبار.
وما أثار الكثير من الشكوك هو بقاء القواعد العسكرية التركية المنتشرة بكثافة في مناطق أرياف حلب وإدلب بعيدة من أي تداول إعلامي بشأن الأضرار التي لحقت بها جراء الزلزال، رغم أن بعض هذه القواعد يقع على مقربة من بعض مناطق الشمال السوري الأكثر تضرراً.
وظلّ معبر باب الهوى على مدى الأيام الأولى لوقوع الكارثة مقتصراً فقط على عبور جثث السوريين الذين قضوا في المناطق التركية التي كانوا قد لجأوا إليها هرباً من الحرب الدائرة في بلادهم، لكنّ هذا العبور كان باتجاه واحد ولغاية واحدة، ما دفع الكثير من السوريين للتساؤل بحرقة: إذا كان معبر باب الهوى جاهزاً لإرسال الموتى، فلماذا لم يُستخدم لإرسال فرق الإنقاذ وقوافل الإغاثة، رغم نداءات الاستغاثة المدويّة التي كان يطلقها النشطاء السوريون ومؤسسات الدفاع المدني والمتطوعون؟
واستذكر السوريون كيف كانت الإمدادات العسكرية التركية تدخل عبر معبر كفرلوسين من أجل الانتشار ضمن الأراضي السورية، تنفيذاً لتفاهمات أستانا أو التفاهمات الثنائية بين روسيا وتركيا، ففي حينها لم تكن الاعتبارات السياسية أو الأمنية تقف عائقاً دون اتخاذ القرار، أما بعد الزلزال فإن دخول أي عربة تركية أصبح مسألة تحتاج إلى نقاش مطوّل وإجراء استشارات إقليمية ودولية حوله. وهو ما تجلى خاصة من خلال كشف مسؤول تركي عن معلومات حول مباحثات تجريها تركيا لافتتاح معبري كسب وباب الهوى لإدخال المساعدات ومواد الإغاثة، وذلك في مفارقة مؤلمة، إذ إن إدخال وسائل القتال وأدوات الموت يجري من دون رادع، أما إدخال فرص الحياة إلى السوريين العالقين تحت الركام فهو قرار صعب يحتاج إلى تفكير دقيق.
قضية مصطفى سيجري
وربما تلخّص قصة مصطفى سيجري، القيادي في “الجيش الوطني السوري”، ما عاناه السوريون من تمييز السلطات التركية ضدهم. فالرجل الذي يتولى منصب رئيس المكتب السياسي في “فرقة المعتصم”، وهو أصبح من بين أشد المدافعين عن السياسة التركية في سوريا، بقي عالقاً تحت الركام في مدينة أنطاكية لمدة يومين متتالين، ومع ذلك فإن نداء الاستغاثة بخصوصه صدر من داخل الأراضي السورية وليس من قبل السلطات التركية التي بدت وكأنها غير معنية بإنقاذه. وكان الفاروق أبو بكر، زميل سيجري في قيادة “الجيش الوطني السوري”، هو الذي نبّه إلى بقائه على قيد الحياة تحت أنقاض منزله طالباً من السوريين في تركيا التوجه إلى هناك لإنقاذه، وهو ما حدث فعلاً.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد راقب السوريون في مناطق الاحتلال التركي بريبة وقلق التصريحات التي كانت تصدر عن بعض المسؤولين الأتراك والمعارضة التركية، ومن بينها اقتراحات تتضمن استغلال حدوث الزلزال لإجراء تغييرات في مناطق الشمال السوري أو لتنفيذ مخططات لم تستطع أنقرة تنفيذها من قبل، ومن ذلك على سبيل المثال مقترح ببناء منازل بدائية في إدلب للاجئين السوريين في تركيا من أجل إعادتهم إليها بعدما تضررت منازلهم في تركيا، ويعتبر هذا المقترح بمثابة تجديد لخطة المنطقة الآمنة التي طالما بشّر بها أردوغان.
درجة ثانية
ومع تقدم الكارثة، بدأ السوريون في تركيا يكتشفون حقيقة أن السلطات التركية تنظر إليهم على أنهم بشر من درجة ثانية، ليس لهم الحق في النجاة والإيواء إلا بعد ضمان حقوق المواطنين الأتراك.
وكان ما جرى في مركز إيواء مرسين خير مثال على ذلك، حيث وثّق ناشطون سوريون في تركيا عبر مقاطع فيديو قيام الشرطة التركية بإخراج عائلات سوريّة متضررة من الزلزال من مراكز إيواء في مدينة مرسين، لوضع عائلات تركية مكانها بحجة “الأولوية للأتراك”.
وقال عبد الرزاق النبهان عبر “فايسبوك”: “الآن بعد منتصف الليل يتم إخراج العائلات السورية من السكن الجامعي في مدينة مرسين واستبدال عائلات تركية بها، بذريعة أن الأولوية للأتراك طبعاً، ومن ضمنهم أختي وزوجها وابنهما”.
يتم إخراج السوريين المقيمين في مهجع مرسين KYK من المهجع من قبل الدرك والشرطة ووضعهم في مدينة الخيام.
Mersin KYK Yurdu’na yerleştirilen Suriyeliler, jandarma ve polis tarafından yurttan çıkarılarak çadır kente yerleştiriliyor#ırıkçılıkzamanıdeğil pic.twitter.com/OOpXPLgY7s— Dayana Alfares (@dianaalfares0) February 10, 2023
ونشرت ديانا الفارس عبر “تويتر” مقطع فيديو يظهر عملية إخراج العائلات السورية من مهجع في مرسين، مضيفة أنه يجري نقل السوريين إلى مدينة الخيام، وفق ما رصد موقع “سوريا بوست” في تقرير موسع عن الموضوع.
وعلّق أحد المتضررين من عملية الإجلاء بقوله: “أمي عاملة 3 عمليات قلب، ومعها ابن أختي الصغير، طالعوهم بنص الليل وتركوهم بلا بيت، عم تدور على بيت للإيجار ما عم نلاقي”.
وأكد متابعون في تعليقات عملية طرد العائلات السورية من مراكز الإيواء في تركيا، وقال أحدهم إن الأمر تكرر في مدينة قيصري الواقعة جنوب البلاد خلال اليومين الماضيين.
في المقابل، تحدت متابع عن “هاشتاغ” منتشر على “تويتر” بين الأتراك، يدعو إلى طرد السوريين من مراكز الإيواء، على اعتبار أن “الأولوية الآن للأتراك لا للسوريين”.
وأشار آخرون إلى أن مدينة غازي عنتاب تشهد “تمييزاً وعنصرية” في عملية إجلاء المتضررين من الزلزال، حيث يتم تسريع إجراءات نقل العائلات التركية بالطائرات، فيما يتم تجاهل السوريين وتأخيرهم.
وجاء إجلاء السوريين من مركز إيواء في مرسين من قبل السلطات التركية، تلبية لطلبات غاضبين أتراك حاصروا المبنى مطالبين بطرد السوريين منه.
وعلّق “سوريا بوست” على هذه الحوادث قائلاً: “رغم أن كارثة الزلزال المدمر في تركيا لم تفرق بين سوري أو تركي، عربي أو أجنبي، وعانى منها كل من سكن فوق الأرض التركية، إلا أن وباء العنصرية في تركيا يتنفس الصعداء مجدداً بعد إجازة دامت أياماً فقط، لتعطي الأولوية للتركي على غيره حتى في مراكز الإجلاء”.
المصدر: النهار العربي