السبت , أبريل 20 2024

بانتظار سليماني ,روسيا إزاء الأزمة السورية ,الدوافع والإكراهات

بانتظار سليماني ,روسيا إزاء الأزمة السورية ,الدوافع والإكراهات
د . عقيل سعيد محفوض
مثَّلَ التدخلُ العسكريُّ الروسيُّ نقطةً فاصلةً، في تطورات ومسارات الأزمة السورية، تغير معها المشهد السوري والإقليمي والدولي. لكن لماذا “تأخرت” روسيا عن الانخراط العسكري النشط في الأزمة السورية، وقد كانت سورية تحت تهديدات بالغة الخطورة؛ وهل كانت “تنتظر” قدوم الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني لإقناع الرئيس فلاديمير بوتين بإرسال قواته إلى سورية، وهل إن مصالح روسيا في دعم النظام السياسي في سورية أكبر من مصالحها مع تركيا ودول الخليج، فضلاً عن الغرب، وما هي استراتيجيات روسيا تجاه رهانات وأولويات الولايات المتحدة وإيران وتركيا والسعودية وإسرائيل وحزب الله في الأزمة السورية؟
ملخص
قدمت الأزمةُ السورية مثالاً نموذجياً لـ “إخفاق” التقديرات الاستراتيجية حول دور ومكانة وسياسة روسيا في المنطقة والعالم، إذ كان من الصعب توقُّع أن تُقدِمَ روسيا على ما أقدمت عليه في سورية، بدءاً من استخدام حق النقض (الفيتو) إحدى عشرة مرة حتى الآن، وصولاً إلى الانخراط العسكري المباشر في الأزمة، بكل التحديات المُلازمة له والناتجة عنه. وقاومت روسيا جميع الإغراءات والمساومات (الممزوجة بتهديدات) من قبل الغرب وتركيا وعدد من دول الخليج، من أجل التخلي عن سورية.
يثير التدخل العسكري الروسي في الأزمة السورية أسئلة عديدة من قبيل: ما الذي دفع روسيا للانخراط في الأزمة السورية؟وما الذي جعلها بذلك الاندفاع والثبات في الموقف من الأزمة، رغم الضغوط والمغريات؟ولماذا تدخلت في حرب تعلم أنها يمكن أن توصلها إلى مواجهة غير محسوبة النتائج والعواقب مع الولايات المتحدة وحلفائها؟
لماذا “تأخرت” روسيا عن الانخراط العسكري النشط في الأزمة، وقد كانت سورية تحت تهديدات بالغة الخطورة؟ وهل كانت “تنتظر” قدوم الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني لإقناع الرئيس فلاديمير بوتين بإرسال قواته إلى سورية؟ وهل إن مصالح روسيا في دعم النظام السياسي في سورية والرئيس بشار الأسد أكبر من مصالحها مع تركيا والخليج، فضلاً عن الغرب؟ وماهي استراتيجيات روسيا تجاه رهانات وأولويات الولايات المتحدة وإيران وتركيا والسعودية وإسرائيل وحزب الله في الأزمة السورية؟
لا تملك روسيا الموارد المادية، ولا الاستعداد المعنوي أو النفسي، ولا الوضع السياسي الذي يؤهلها لمواصلة مواجهة يمكن أن تقترب من حرب مفتوحة مع الغرب، وتعرضت لتهديدات كثيرة، منها أن تتحول سورية بالنسبة لروسيا إلى “أفغانستان أخرى”، وإغراءات بصفقات واستثمارات كبيرة.
لا تتطابق أجندة روسيا مع أجندات حلفاء سورية الآخرين، إيران وحزب الله، وهذا يدفعها لرسم ملامح استراتيجية مختلفة عن استراتيجيتهما. وكان من المتوقع أن تظهر الفروق على هذا الصعيد مع تراجع مستوى المواجهات، وانتقال المشهد السوري من الحرب إلى السياسة.
تؤكد روسيا وإسرائيل أنهما تقومان بتنسيق عالي المستوى في الأزمة السورية، صحيح أن ثمة رهانات ومصالح مختلفة، وأن روسيا لا توافق بالكلية على ما تريده إسرائيل في سورية، إلا أن إسرائيل حاضرة بقوة في قراءات وتقديرات روسيا بخصوص الأزمة السورية.
لا تتطابق أجندة روسيا مع أجندات حلفاء سورية الآخرين، إيران وحزب الله، وهذا يدفعها لرسم ملامح استراتيجية مختلفة عن استراتيجيتهما.
تُمثِّل سورية حيز منافسة أو صراع متعدد الأشكال والأنماط، صراع على المجال الجغرافي السياسي، وصراع على الموارد وطرق الاتصال والنقل وخرائط السيطرة والنفوذ في المنطقة والعالم، غير أن مصالح روسيا في سورية قد تقتضي تدبّر سُبُلِ الخلافِ مع تلك الأطراف بـ “غير المواجهة”.
تتألف الورقة من مقدمة، وخمسة محاور، أولاً: لماذا الانخراط في الأزمة؟، وثانياً: ما يلزم، لا بد مما لا بد منه، وثالثاً: “انتظار” الجنرال سليماني؟، ورابعاً: حدود وإكراهات، وخامساً: الإشارات والتنبيهات.
مقدمة
قدمت الأزمةُ السورية مثالاً نموذجياً لـ “إخفاق” التقديرات الاستراتيجية حول دور ومكانة وسياسة روسيا في المنطقة والعالم، إذ كان من الصعب توقُّع أن تُقدِمَ روسيا على ما أقدمت عليه في سورية، بدءاً من استخدام حق النقض (الفيتو) إحدى عشرة مرة حتى الآن، وصولاً إلى الانخراط العسكري المباشر في الأزمة، بكل التحديات المُلازمة له والناتجة عنه. وقاومت روسيا جميع الإغراءات والمساومات (الممزوجة بتهديدات) من قبل الغرب وتركيا وعدد من دول الخليج، من أجل التخلي عن دعم سورية/نظام الرئيس بشار الأسد. وكانت روسيا تستجيب في السابق لضغوط أو إغراءات أقل[1].
قيل وكُتب الكثير حول سياسة روسيا في سورية، وليس من المتوقع من ورقة أو تقدير أو نص تحليلي أن يقول كل شيء بهذا الخصوص، إنما أن يقدم ما يفترض الكاتب أنه نقاط من المناسب التركيز عليها أو التذكير بها، مع الإشارة إلى الديناميات والدوافع العميقة لما يجري، والحدود والهواجس الكامنة والمحركة للسياسات الخاصة بالأزمة السورية. وإكراهات الدور الروسي في سورية، والتحديات أمام سوريّةَ وحلفائها.
تتألف الورقة من مقدمة، وخمسة محاور، أولاً: لماذا الانخراط في الأزمة؟، وثانياً: ما يلزم، لا بد مما لا بد منه، وثالثاً: “انتظار” الجنرال سليماني؟، ورابعاً: حدود وإكراهات، وخامساً: الإشارات والتنبيهات. وقد تمت عنونة الورقة بأحد عناوينها الفرعية، أي بـ”انتظار” الجنرال سليماني؟” ليس لأنه يختزل أو يكثف المعنى بكليته في موضوع التدخل الروسي، وإنما لدوره المرجح أو المعزز في تقرير أو تعزيز مسارات الأمور، بحسبان أن الجزء يمكن أن يخلع معناه على الكل، وخاصة في قضايا من النوع المركب والمعقد مثل الأزمة السورية.
أولاً-لماذا الانخراط في الأزمة؟
لم يتغير النظام العالمي كثيراً في الفترة القصيرة بين ضرب الغربِ وحلفائه لـليبيا وبين الأزمة السورية، كما لم تشهد روسيا نفسها تغيرات غير متوقعة في نظامها السياسي أو نخبة صنع القرار، ومع ذلك فقد اتخذت مواقف “غير مسبوقة” بخصوص الأزمة السورية. ولذا يبدو من الطبيعي طرح الأسئلة التالية:
ما الذي دفع روسيا للانخراط في الأزمة السورية؟وما الذي جعلها بذلك الاندفاع والثبات في الموقف من الأزمة، رغم الضغوط والمغريات؟ولماذا تدخلت في حرب تعلم أنها يمكن أن توصلها إلى مواجهة غير محسوبة النتائج والعواقب مع الولايات المتحدة وحلفائها؟
يمكن تركيز الموقف في النقاط الرئيسة التالية:
تأثير تراكمي: اختار بوريس يلتسين استراتيجية “الارتماء في حضن الخصم”، ثم اختار الرئيس السابق مدفيديف استراتيجية “الطمأنة” للغرب، فيما رأى بوتين أن الأمور تزداد سوءاً فقرر اتباع استراتيجية هجينة تتمثل بـ “المشاركة” و”التطمين” و”الإقدام-الإحجام”، مع ميل متزايد للتعبير عن نزعات القوة، واستعادة المكانة في النظام العالمي.
انطلقت روسيا في سياستها تجاه الأزمة السورية مما سمته لاحقاً وثيقة الأمن القومي الروسية بـ”التهديدات المترابطة الجديدة على الأمن القومي”[2]، وكان درس ليبيا مُفاجئاً، إذ تم “خِداع” روسيا، ولكن الدرس الصادم كان في أوكرانيا، إذ إن الغرب لم يراعِ مصالح روسيا في أوكرانيا، بل “استخف” بموقفها وبردّة فعلها تجاه أزمة على حدودها وفي نطاق أولوياتها الأمنية والاستراتيجية الكبرى.
توسع “الناتو” إلى دول كانت ضمن نطاق الحيطة والمجال الحيويّ الروسيّ، وإعادة تعريف روسيا بوصفها مصدر تهديد للغرب.
التدخل في سورية كان له تأثير كبير في تعزيز “الجبهة الداخلية” والحشد والتأييد للنظام السياسي والسياسات الرئيسة في روسيا، وزيادة شعبية الرئيس بوتين، ودعم شرائح مختلفة لسياساته الداخلية والخارجية، وعودة الروح لاتجاهات ونزعات القوة والمعنى لدى الروس، وتعزيز نفوذ وتأثير ومكانة روسيا في النظام العالمي.
ثانياً- مايلزم/ لابد مما لابدمنه
لم يعد بالإمكان وقف التمدد الغربي على حساب روسيا، قُلْ لم يعدْ مُتاحاً الحدّ من تزايد مصادر التهديد لروسيا، ولا حمايتها من استهدافات تقترب منها؛ بل تتجه للتدخل النشط ضمن الاتحاد الروسي نفسه، إلا بالعمل على احتواء موجة التهديدالمتعاظمة، وتحويلها ما أمكن إلى فرص، والتي مَثَّلَت الأزمة السورية تعبيراً كثيفاً عنها، ولا بد من القيام بفعل ما بهذا الخصوص. ويقدر الروس أن الدفاع عن مصالحهم في سورية هو على قاعدة أنه “لا بد مما لا بد منه”، وأن سورية خط دفاع عن أمن روسيا ذاتها.
إذا أرادت روسيا العودة إلى الساحة الدولية، فيحب أن تباشر سياسات استباقية مؤثرة –ما أمكن–ومواجهة التحديات ومصادر التهديد قبل اقترابها، والمشاركة في رسم ملامح النظام العالمي لمرحلة “ما بعد الغرب” وفق تعبير وزير الخارجيّة الروسيّ سيرغي لافروف.
يتعلق الأمر بواحدة من أهم وأخطر الأزمات في عالم اليوم، إذ تُمثِّلُ الأزمة السورية “خط الصدع” في السياسات الدولية في عالم اليوم. وقد عبّر وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري عن الأزمة السورية بأنها مجموعة من الحروب في آن.
على روسيا أن تباشر سياسات استباقية مؤثرة، ومواجهة التحديات ومصادر التهديد قبل اقترابها، والمشاركة في رسم ملامح النظام العالمي لمرحلة “ما بعد الغرب”.
“يوازن” الروس بين المكاسب من الإقدام في الأزمة وبين الخسائر المحتملة من عدمه (الإحجام). وهذه الموازنة تجعلهم يؤكدون على موقفين متعاكسين أو متناقضين في آن، وهما:
(1) الاستعداد لخوض أي مواجهة تتطلبها أولوياتهم في سورية،
(2) عدم الاستعداد للدخول في مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة والغرب في سورية.
يرى الروس أن الأمريكيين يعدون لمواجهة روسيا في الفضاء الأوراسي، بل فضاء الاتحاد الروسي نفسه[3]، ويسعون لمحاصرة روسيا بخط سيطرة وتحكم على شكل قوس جغرافي يمتد من تخوم روسيا مع أوروبا إلى أوكرانيا وصولاً إلى آسيا الصغرى وسورية[4]. وتعمل الولايات المتحدة على تغطية ذلك القوس بسلسلة من القواعد العسكرية في شمال العراق/كردستان، وغرب الأنبار بالعراق، وشمال شرق سورية، بالإضافة قواعدها في تركيا والأردن وفلسطين المحتلة.
إنَّ المؤشرات على ذلك قوية ولا يمكن التخفيف من دلالاتها، لا بالسياسة ولا بالأمن ولا الاستراتيجيا، ولا العسكرة، وهذا يقتضي أن تقوم روسيا “بما يلزم” في سورية، من أجل احتواء استراتيجيات التطويق تلك، وروسيا تعلم أن “إسقاط” النظام السياسي في سورية سوف تعقبه خطوات لاحقة باتجاه إيران، وصولاً إلى المجال الروسي نفسه.
هذا يفسر إصرار روسيا على المضي في استراتيجيتها السورية، وقد رفضت عرض قمة السبعة (G7) التي عُقدت في روما (12 نيسان/أبريل 2017) بإعادة روسيا إلى المجموعة، ورفع العقوبات عنها تدريجياً، إذا قبلت تسوية [غربية] في سورية.
ثالثاً- “انتظار” الجنرالسليماني؟
لماذا “تأخرت” روسيا عن الانخراط النشط في الأزمة، وقد كانت سورية تحت تهديدات بالغة الخطورة، وهل كانت “تنتظر” قدوم الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني لإقناع الرئيس بوتين بإرسال قواته إلى سورية؟
قام الجنرال سليماني بزيارة إلى روسيا في 24 تموز/يوليو 2015، حيث التقى الرئيس بوتين، وفتح أمامه خرائط سورية والمنطقة، شارحاً مصادر التهديد الماثلة والثقيلة على سورية والمنطقة، وعلى مصالح إيران وروسيا في النظام العالمي الراهن، وعارضاً البدائل الممكنة، وأنماط الشراكة أو التعاون الأمني والاستراتيجي في الأزمة السورية وضرورة احتواء مصادر التهديد فيها.
ثمة ما يجب التدقيق فيه، وهو أثر إيران وحزب الله وحلفاء سورية الآخرين، وقبل ذلك –ومعه– تماسك الجيش السوري وبنى الدولة في سورية، وكيف عزز ذلك الثقة لدى الروس وشكل دافعية نشطة لـ”ترجيح” كفة التقديرات الروسية القائلة بضرورة التدخل وإلحاحه وأولويته لمصالح روسيا، والتراجع النسبي للتقديرات القائلة بعدم الدخول في مواجهة “خطرة” مع الغرب في سورية. ولو لم يجد الروس أن سورية وحلفاءها (إيران، حزب الله) لديهم العزم والثبات الكافيين لما كانت الاستجابة الروسية تلك، على الأقل في النمط الذي تمت به.
كان من الصعب تصور الكيفية أو الدرجة الممكنة للتدخل العسكري الروسي في الأزمة السورية بمعزل عن دور إيران وحزب الله، إذ بدت القوات الإيرانية وقوات الحزب كما لو أنها “قوات برية” لروسيا، ولسورية بطبيعة الحال، فيما بدت القوات الروسية كما لو أنها “قوات جوية” لإيران وحزب الله وسورية! هذا استنتاج قريب من الواقع لكنه لا يصلح كثيراً للإطلاق أو التأويل، ويصعب الذهاب به أو معه إلى نهايات منطقية بالضرورة! ذلك أن الرهانات غير متطابقة، وإذا سلمنا بوجود منطق خاص للسياسة فسوف يكون ذلك مفهوماً.
رابعاً-حدود وإكراهات
لا تملك روسيا الموارد المادية، ولا الاستعداد المعنوي أو النفسي، ولا الوضع السياسي الذي يؤهلها لمواصلة مواجهة يمكن أن تقترب من حرب مفتوحة مع الغرب، وهذا يضع سقوفاً أو حدوداً قصوى لتدخلها في سورية.
لا يقتصر التحدي على الولايات المتحدة والغرب، فقد اشتغلت روسيا طويلاً على مواقف تركيا –وكانت خصماً شديد العدائية لروسيا–والسعودية ودول أخرى، وتعرضت لتهديدات كثيرة، منها أن تتحول سورية بالنسبة لروسيا إلى “أفغانستان أخرى”، وإغراء روسيا بصفقات واستثمارات كبيرة، كما فعلت السعودية على سبيل المثال. وهنا يبرز السؤال لدى المترددين داخل نخبة صنع القرار ولدى الرأي العام في روسيا: هل إن مصالح روسيا في دعم سورية/نظام الرئيس بشار الأسد أكبر من مصالحها مع تركيا والخليج، فضلاً عن الغرب؟ هنا لا يمكن إغفال أن روسيا تراعي مصالحها مع فواعل الإقليم، وأنَّ في ذلك تأثيراً لا يخفى على نمط تدخلها في سورية.
تُمثِّل الأزمة السورية “خط الصدع” في السياسات الدولية في عالم اليوم، ولا بد أن مآل الأزمة سوف يرسم ملامح النظام العالمي المقبل.
لا تتطابق أجندة روسيا مع أجندات حلفاء سورية الآخرين، إيران وحزب الله، ومن ثم فهذا يدفعها لرسم ملامح استراتيجية مختلفة عن استراتيجيتهما. وكان من المتوقع أن تظهر الفروق على هذا الصعيد مع تراجع مستوى المواجهات وانتقال المشهد السوري من الحرب إلى السياسة.
ينسحب الأمر على تقدير سورية نفسها لمواقف ورهانات حلفائها والأوزان النسبية لتأثير كل منهم، وثمة قراءات متفاوتة عن طبيعة التقارب-التنافر القائم أو المحتمل بين روسيا وإيران في الأزمة السورية، ومِثل ذلك بالنسبة لطبيعة التوافقات أو التفاهمات الروسية مع كل من إسرائيل وتركيا والسعودية وحتى الولايات المتحدة، وإلى أي حد يمكن أن تُمثّل تلك التوافقات أو التفاهمات مصدر تهديد لـ إيران نفسها أو لدورها في سورية.
تُمثِّل الأزمة السورية “خط الصدع” في السياسات الدولية في عالم اليوم، ولا بد أن مآل الأزمة سوف يرسم ملامح النظام العالمي المقبل. غير أن هذا التقدير يحيل إلى معضلات عديدة، منها أن الاحتدام في الأزمة السورية يمثل جزءاً فقط من المنافسات-التوافقات على مستوى العالم، ولا بد من أن تكون التقديرات حول الأزمة أكثر تعقلاً.
تُمثِّل سورية حيز منافسةٍ أو صراعٍ متعدد الأشكال والأنماط، صراع على المجال الجغرافي والجيوبولتيكي، وصراع على الموارد وطرق الاتصال والنقل وخرائط السيطرة والنفوذ في المنطقة والعالم، غير أن مصالح روسيا في سورية قد لا تكون مُلحّة إلى درجة الانخراط في مواجهة مع الغرب (وتركيا والخليج) قد تكلفها كثيراً، وقد يكون من المناسب تدبر سبل الخلاف مع تلك الأطراف بـ “غير المواجهة”.
خامساً-الإشاراتوالتنبيهات
تُمثِّل الولايات المتحدة الغائب الحاضر في كل ما تفعله روسيا في سورية، وتؤكد روسيا في كل موقف على “الشراكة” مع الولايات المتحدة، فيما تبدو الأخيرة أقل رغبة أو أقل استعداداً للتعاون، أو أنها تُظهِرُ استعداها للانقلاب على أي تفاهمات معها بشأن سورية.
ثمة مخاوف، فعلية أو افتراضية وتقديرية، من أن روسيا أحياناً ما تخذل أصدقاءَها! أو تتراجع عن مواقفها في لحظات حرجة، أو تدخل في تقديرات ومساومات ملتبسة، حدث ذلك في مواقف كثيرة، منها أوكرانيا، وقبل ذلك يوغسلافيا، وليبيا نفسها. وثمة في نخبة صنع القرار في روسيا أصوات قد لا تكون متحمسة كثيراً للانخراط في الأزمة السورية، وقد تكون مستعدة للمساومة أو للعمل على تغيير موقف روسيا لقاء مكاسب معينة.
قررت “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة أن روسيا هي العدو أو مصدر التهديد الرئيس للولايات المتحدة[5]،ثم إن إدارة ترامب أقرت استراتيجية أمن قومي تعزز ذلك التقدير أو الهدف؛ فيما تبدو روسيا “مترددة” في إظهار الاعتبار أو التقدير أو الموقف نفسه، وهذا من الأمور التي تلقي بظلالها على أي تقديرات مستقبلية بشأن مدى ثبات روسيا في مواجهة أي توترات شديدة مع الولايات المتحدة في الأزمة السورية.
حافظت روسيا على مستوى عالٍ من التنسيق مع إيران، إلا أنها تتبع “أجندة مختلفة” عنها في الأزمة السورية، قد تصل إلى التنافس أو ربما الصدام. وثمة تقديرات بأن روسيا لم تُظهر موقفاً واضحاً بالقدر الكافي تجاه المطالب الغربية والخليجية والإسرائيلية ضد إيران ودورها الراهن في الأزمة، أو دورها المستقبلي في سورية، الأمر الذي يعزز تقديرات مُتشكِّكَة بأن العلاقات الروسية-الإيرانية يمكن أن تشهد تجاذبات ومنافسات في المشهد السوري (والإقليمي)، وقد تبتعد روسيا عن إيران وتتركها تحت تأثير الضغوط والرهانات إياها. ولو أن ذلك احتمال لا يزال ضعيفاً، كما أنه ينطوي على مخاطر كبيرة تجاه روسيا نفسها.
حافظت روسيا على مستوى عالٍ من التنسيق مع إيران، إلا أنها تتبع “أجندة مختلفة” عنها في الأزمة السورية، قد تصل إلى التنافس أو ربما الصدام.
تؤكد روسيا وإسرائيل أنهما تقومان بتنسيق عالي المستوى في الأزمة السورية، صحيح أن ثمة رهانات ومصالح مختلفة، وأن روسيا لا توافق بالكلية على ما تريده إسرائيل في سورية، إلا أن إسرائيل حاضرة بقوة في قراءات وتقديرات روسيا بخصوص الأزمة السورية، والحلول والتسويات المحتملة لها. وهنا يجب التنبُّه إلى تأثير إسرائيل المحتمل في تقديرات روسيا بشأن طبيعة الدولة والبناء الاجتماعي وطبيعة النظام السياسي والبناء الأمني والعسكري والتفاعلات التموضعات لسورية المستقبل.
ثمة أنماط من التعاون بين روسيا وحزب الله في سورية، في إطار غرفة عمليات حلفاء سورية، إلا أن ثمة تقديرات تحيل إلى تفاهمات موضوعية وربما قصدية مباشرة بين روسيا وإسرائيل بشأن استهدافات واعتداءات الأخيرة ضد حزب الله في سورية، بالإضافة إلى تأثير إسرائيل المحتمل في موقف روسيا بشأن دور وتأثير حزب الله في سورية (والمنطقة) في مرحلة التسوية المحتملة ومستقبل سورية. وهذا من الأمور التي تتطلب المزيد من التدقيق والتقصي.
تنسحب التقديرات المذكورة أعلاه على تأثير علاقات روسيا مع كل من تركيا والسعودية، في طبيعة الدور الروسي في مستقبل الأزمة السورية، وموقفها من إيران وحزب الله مستقبلاً.
تقع سورية (وإيران وحزب الله) تحت ضغوط وإكراهات الأزمة، وتبدو روسيا “حليفاً” لا غنى عنه، هذا يحيل إلى تحديات من نوع آخر، تتمثل بضرورة خلق وعي تفاعلي وتبادلي بين أطراف “المحور” أو “الخط” الداعم لسورية، يراعي فيه كل طرف هواجس وأولويات الأطراف الأخرى، بما يضمن تحالفاً متماسكاً وقوياً يمكنه مواجهة تحديات المرحلة.
[1]يعبر كثير من السوريين عن تقدير كبير لما قامت به روسيا –مع حلفاء دمشق الآخرين–في دعم النظام السياسي والدولة خلال الحرب الدائرة في بلادهم منذ آذار/مارس 2011.
[2] وقع الرئيس بوتين الوثيقة المعنونة “استراتيجية الأمن القومي لروسياالاتحادية” نهاية كانون الأول/ديسمبر 2015، بديلة عن وثيقة 2009 والوثيقة الاخيرة هي الرابعة منذ العام 1997.
[3]كان الرئيس بوتين قد أعلن في خطاب أمام مجلس الأمن القومي أن السياسات العدوانية وسلاح العقوبات الذي تستخدمه الدول الغربية يهدفان إلى تفتيت الوحدة الوطنية الروسية واللعب على نقاط الضعف في حلقات المجتمع الروسي.
[4]رأت روسيا أن استراتيجية الأمن القومي الأمريكية ذات طبيعة “استعمارية”، وفقاً لما ذكره المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، بالأخص بالجزء الخاص بروسيا. وقال بيسكوف: إن الوثيقة تظهر إصرار الولايات المتحدة على رفض “عالم متعدد الأقطاب”.
“الصين وروسيا تستنكران “الطبيعة الاستعمارية” لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي”، سي إن إن عربية،19 كانون الأول/ديسمبر2017.
https://arabic.cnn.com/world/2017/12/19/chinese-embassy-kremlin-imperial
[5]قال وزير الدفاع الأميركي الأسبق أشتونكارتر قوله «إن الفترة التي أمضاها على رأس البنتاغون جعلته يقتنع بأن روسيا وضعت نفسها مجدداً في موقع الخصم لأميركا»، وأضاف أنه وضع خطة لمواجهة روسيا، لكن البنتاغون والخارجية عارضا خطته.
“كارتريكشف عن وضعه خطة عسكرية لمواجهة روسيا…ورفض إدارة أوباما لها”، الميادين، 20 شباط/فبراير 2018.
https://goo.gl/5aUJbr
عقيل سعيد محفوض

شام تايمز
شام تايمز
شام تايمز

اترك تعليقاً