بثينة شعبان:صراع الارادات
بثينة شعبان
بعد الضجة التي أثاروها حول الغوطة الشرقية، والتي فشلت فشلاً ذريعاً، ستعود غوطة دمشق لتصدّر للعالم مربى المشمش، والقمر الدين، والموبيليا الجميلة، وسيبني أهل الغوطة بلداتهم، وستستمر الحياة في دمشق لعشرة آلاف عام قادمة لأنها مهد الإنسانية والحضارة والديانات، ولأنّ أهلها لا يعرفون بما يدين صديقهم حتى يقرؤوا النعوة ليعرفوا إن كانت التعازي في كنيسة أو جامع. هذا الإيمان بالله، والوطن، وحقّ الآخر هو سرّ استمرار سورية، وهو سرّ عصيانها على كل المؤامرات، والمخططات، والحروب مهما عظُمت، ومهما كلفت.
ولكنّ الآخرين لا يقرؤون التاريخ، ولا يتعلمون دروسه، فما إن بدأت الغوطة تعود إلى أهلها حتى بدأتَ تسمع أسئلة وماذا عن عفرين وإعزاز وجرابلس وشرق الفرات والتنف؟ والجواب هو كلها مصيرها واحد، وهو أن تتحرر من رجز الإرهاب، والمحتلين، وأن تعود إلى أهلها الحقيقيين، وأن يهنأ بالها تحت علم واحد يرفرف في كلّ مكان على الأرض السورية. ويبقى السؤال لماذا كلّ هذه الحرب الهمجية على هذا البلد الصغير الآمن المسالم؟ ولماذا تكاتف كلّ هذه القوى الإقليمية، والدولية، وتكريس كل هذه المليارات من الدولارات، وزهق مئات الآلاف من الأرواح البريئة؟ لا شك أن المخطط فشل، وأنهم سوف يغادرون هذه التربة المقدسة عاجلاً أو آجلاً.
ولكنّ السؤال يبقى لماذا؟ لماذا كلّ هذا الاستهداف الوحشي الذي لم يأبه بحياة الأطفال، والنساء، والرجال، ولم يقم وزناً لإنسانية الإنسان، ولا لقدسية المدن والقرى المطمئنة الآمنة، فحولّها إلى ساحة حرب من طرف واحد تتلقى قذائف وجرائم الإرهابيين ومن يقف وراءهم. علّ الجواب على هذا السؤال يكمن في استنباط ما تنضح به الساحة العالمية اليوم من استعباد واستصغار لبعض الدول، وشنّ الهجمات العسكرية والدبلوماسية ضد دول أخرى، وذلك في محاولة كي تكون الدول كلها جميعاً مؤتمرة بأمرة أبناء الكابوي، وكي تصبح مصادر الثروات في الشرق، والغرب لهم فقط يتحكمون بها كما يشاؤون، على حين يعاني أهلها وأصحابها من فقر وجوع وإهمال. وعلّ منظر الرئيس ترامب، وهو يملي على محمد بن سلمان كم عليه أن يدفع من دون ذرة احترام لموقعه كرئيس أو لضيفه أو للبلد الذي يمثله أو لشعبه، كان منظراً بائساً بكلّ المعايير مُنح بعده بن سلمان مكافأة بمقابلة على برنامج 60 دقيقة ترويجاً له لتنصيبه ملكاً على السعودية ربما في القريب العاجل كي يفي بالعهدة الترامبية، ويرسل كلّ ما يريدونه من مال دون جزاء أو شكور.
هذا هو النوع من الدول المطلوب بالنسبة للولايات المتحدة، والهيمنة الاستعمارية الغربية: يريدون دولاً ذليلة، وقادة أذلاء حيث ينهبون الثروات، ويعبّرون عن احتقارهم لمالكي الثروات، وحقهم المشروع في نهبها. ولذلك نراهم يناصبون العداء لكلّ صاحب قرار مستقل، ولكل قائد أو زعيم حريص على بلده وشعبه، وغير مهادن للخصوم على قراره المستقل، وسيادة بلاده، وكلّ ما يدعم ويؤكد هذه السيادة.
ومن هذا المنطلق بالذات فهم يناصبون العداء اليوم لروسيا والصين وإيران بأشكال مختلفة، ولا يوفرون فرصة إلا ويستخدمون من خلالها العقوبات، والتشهير في محاولات مستمرة للانقضاض على سيادة هذه الدول وقرارها المستقل. ولذلك، وعلى الرغم من عقد اتفاق نووي مع إيران فإن الولايات المتحدة لا تبرح تختلق الأزمة تلو الأزمة مع إيران في محاولة للتنصل من هذا الاتفاق ولإكراه إيران على القبول بمفاهيمهم وأساليبهم. ومن هذا المنطلق بالذات يمكن فهم الحملة التي شنتها المملكة المتحدة البريطانية ضد روسيا بذريعة تسميم العميل المزدوج، ودأبت بريطانيا بعد ذلك لاستخدام دول لا تملك قرارها المستقل كي تحذو حذوها في ممارسة إجراءات غير لائقة ضد روسيا، وكلّ هذا وذاك، لأن الرئيس بوتين أثبت أنه رئيس وطني يعمل على إعادة هيبة ومكانة بلده بعد كلّ التواطؤ الذي تعرّض له هذا البلد، ومحاولات الإذلال والإضعاف. ومن هذا المنطلق بالذات بدؤوا بإجراءاتهم الاقتصادية العقابية ضد الصين. ولكنّ القادة الغربيين غافلون عن مسيرة التاريخ اليوم، ففي الوقت الذي يحررّ الجيش العربي السوري وحلفاؤه غوطة دمشق، يدفعون بقواتٍ إضافية لهم لدعم قاعدة الاحتلال التي أنشؤوها في حقل العمر في شمال-شرق سورية، كما قام وفد من وزارة الخارجية الأميركية بزيارة الإدارة المدنية في منبج وريفها لمناقشة الوضع بشكل عام.
ما يحاول الأميركيون والأتراك فعله اليوم في سورية، هو استكمال للمخطط الفاشل الذي بدأه الإرهابيون في مناطق عدّة في البلاد، وإذا كانوا لم يتعلموا، ولم يوقنوا إلى حدّ اليوم أن السوريين سيدافعون عن كرامة بلدهم، وعن قرارهم المستقل ضد أي قوة طاغية تحاول مصادرته، إذا لم يتيقنوا من ذلك إلى حدّ الآن فسوف يدفعون ثمن غفلتهم مستقبلاً، وسوف يعلمون أي منقلب سينقلبون.
هدف الحرب على سورية منذ عام 2011، ومنذ عقود أيضاً بأشكال مختلفة، هو مصادرة قرارها المستقل، وكذلك هو هدف كل الإجراءات الغربية ضد روسيا والصين وإيران وحزب الله، ولكنّ الواقع يدحض أوهامهم ودعاياتهم، ويثبت أننا نحن الباقون، والمنتصرون، وأنهم هم المندحرون عن أرضنا وبلادنا. ما يشهده العالم اليوم انطلاقاً من أرض سورية ووصولاً إلى روسيا والصين وإيران، هو صراع إرادات بين مستعمر يحاول الإبقاء على هيمنته وسيطرته على ثروات غيره، وبين إرادات دول، وشعوب رفضت الهيمنة وقررّت الدفاع بكلّ ما تملك لصيانة قرارها المستقل، ووضع مستقبل شعوبها وفق إرادة هذه الشعوب. والسائرون بركب الغرب، والتابعون له سوف يكتشفون قريباً أن مركبهم آخذ في الغرق، وأن الفرق شاسع بين مسرحة الأحداث على الشاشات، وبين الواقع الصلب الذي يفرض ذاته ومجرياته، والذي هو وحده سوف يشكّل مستقبل البشرية.