بدايات الحرب الاقتصادية الاميركية ضد تركيا
جورج حداد
مع اندلاع طاعون “الربيع العربي” تحولت الأراضي التركية، ولا سيما الجنوب التركي، إلى معسكر كبير لـ”الجيش التكفيري العالمي”. ومن هذا المعسكر انطلق الهجوم الإرهابي الرئيس باسم “داعش” ضد سوريا والعراق ولبنان. وفي البدء ظهر بوضوح فاضح التنسيق التام بين اميركا والناتو والسعودية ولواحقها وبين تركيا، في شن هذا الهجوم. ولكن فيما بعد بدأ يظهر التمايز بين هذه الأطراف، التي كان لكل منها أهدافه الخاصة. وتبين ان لتركيا مشروعها الخاص للتوسع الاقليمي على حساب الاراضي السورية والعراقية الشمالية، التي كان يراد ضمها الى الاراضي التركية، كمقدمة للتوسع اكثر وانشاء سلطنة عثمانية جديدة، تبتلع سوريا والعراق ولبنان واليونان وقبرص وعددا من بلدان البلقان.
وفي حملاته السياسية اخذ رجب طيب اردوغان يقول “اننا ينبغي ان نسترجع اراضي اجدادنا”. ولكن هذا المشروع “العثماني الجديد” كان يتعارض مع مشروع “الشرق الأوسط الكبير الجديد” تحت الوصاية الاميركية المباشرة. وقد واجه المشروعان الأميركي والتركي معا مقاومة شديدة من قبل محور المقاومة الذي شمل ايران والجيش العربي السوري والمقاومة الوطنية الاسلامية اللبنانية والعراقية. ثم جاء التدخل الجوي الروسي، بطلب من السلطة الشرعية السورية، ليقصم ظهر الداعشية ويفتح الطريق لتصفيتها النهائية على الارض في لبنان وسوريا والعراق. وحينذاك بدأ يطفو على السطح الخلاف الاميركي ـ التركي. وأخذ كل طرف يلقي مسؤولية دعم الإرهاب على الطرف الاخر. ووصل التناقض بين الطرفين الى حد محاولة القيام بانقلاب مدعوم اميركيا ضد سلطة اردوغان في 1916.
وهذا ما دفع سلطة اردوغان للتقارب مع روسيا والمشاركة في تشكيلة الثلاثي (روسيا ـ ايران ـ تركيا) الذي أخذ على عاتقه، عبر “منبر استانا”، مسألة التوسط لحل النزاع في سوريا سياسيا. وادى التقارب بين تركيا وايران (التي هي الركن الاساسي في محور المقاومة الاقليمي) الى سحب سلطة اردوغان شعارها السابق حول اسقاط نظام الاسد كشرط مسبق للحل السياسي في سوريا. كما أدى التقارب مع روسيا الى اعادة تحريك العلاقات السياحية والتجارية بين روسيا وتركيا، وموافقة روسيا على بناء خط الغاز المسمى “السيل التركي” الذي سيجعل تركيا ممر ترانزيت رئيسيا لتوزيع الغاز الروسي في اوروبا الشرقية والجنوبية، وكذلك موافقة روسيا على بناء محطة توليد كهرباء بالطاقة النووية لتركيا.
والى جانب ذلك اتفق البلدان على صفقة بيع منظومة الصواريخ الدفاعية الشهيرة S-400 لتركيا لتعزيز الدفاع الجوي التركي ضد احتمالات انفجار النزاع التركي مع الكتلة الاميركية.
وهذه الصفقة تسجل خرقا استراتيجيا وجيوستراتيجيا كبيرا لروسيا ضد الكتلة الغربية، باعتبار أن تركيا عضو قديم في حلف الناتو الذي تتزعمه اميركا.
وهذا ما يدفع الكتلة الأميركية الان لمحاولة تبريد التعارضات مع نظام اردوغان، على المستوى السياسي والاستراتيجي، لاعادة تركيا الى بيت الطاعة الناتوي والاميركي. ولكن الكتلة الاميركية لم تتخل قط عن هدف اسقاط النظام التركي القائم واستبداله بنظام اكثر مطواعية. ولهذه الغاية استبدلت اسلوب المواجهة السياسية والجيواستراتيجية بأسلوب الحرب الاقتصادية التي تهدف الى تقويض الاوضاع الداخلية التركية انطلاقا من زعزعة الاقتصاد التركي.
ولا حاجة الى التذكير ان الكتلة المالية الكومبرادورية الاميركية تمتلك قدرات هائلة وتجربة غنية في الحروب الاقتصادية حتى ضد حلفاء اميركا بالذات، خصوصا وان الدولار هو معتمد بوصفه العملة الدولية الرئيسية منذ مؤتمر بريتون وودز قرب واشنطن في 1944 مع العلم ان الدولار هو بدون تغطية ذهبية والدولة الاميركية تطبع الدولارات الورقية بدون حدود وبقرارات سياسية فقط.
وقد بدأت طلائع الحرب الاقتصادية الاميركية ضد تركيا تظهر الى العلن في المضاربة على الليرة التركية وتخفيض سعرها قياسا بالدولار، وذلك عبر شبكة من العملاء الماليين المستورين والبنوك التركية الخاصة “المتعاونة”.
ومنذ الاعلان، في 18 نيسان/ أبريل الماضي، عن عزم السلطة التركية على اجراء انتخابات رئاسية مبكرة، انخفض سعر صرف الليرة 19% حتى الان مقابل الدولار. وبلغ التضخم المالي نسبة 11%. وسرت موجة من استبدال الليرة بالدولار والعملات الدولية الاخرى. وبالرغم من التقدم النسبي في الاقتصاد التركي في عهد اردوغان، فإن تركيا هي بلد يستورد من السلع الاجنبية اكثر مما يصدر من المنتوجات الوطنية. وهذا يعني ان ارتفاع سعر صرف الدولار وانخفاض سعر صرف الليرة سيؤثر سلبا على الدورة التجارية والقدرة الشرائية والاقتصاد التركي بمجمله. هذا وقد منعت عدة بلدان اوروبية حزب اردوغان من القيام بالدعاية الانتخابية في اوساط الجاليات التركية.
وتفيد الاحصاءات التركية ان الثقة بالاقتصاد التركي قد انخفضت بـ 2،8 نقطتين و8 اعشار النقطة في خلال شهر واحد بين نيسان وايار 1918.
وفي الايام القليلة الماضية دعا اردوغان الى عقد اجتماع موسع حضره رؤساء الوزراء والوزراء والنواب الحاليين والسابقين، وتوجه اليهم، وعبرهم الى الجمهور التركي، طالبا التمسك بـ”الوطنية” والاحتفاظ باموالهم بالليرة التركية وعدم استبدالها بالدولار. وقال اردوغان ان التقلبات في سعر صرف الليرة ليس لها اسباب اقتصادية تركية، بل تعود الى اسباب عولمية. واكد ان تركيا قادرة على مواجهة هذه المشكلة. وقد صدمت ازمة الليرة التركية اردوغان قبل شهر من اجراء الانتخابات الرئاسية المبكرة التي ستجري في اواخر شهر حزيران 1918. وعبر اردوغان عن الثقة بأنه سيفوز في هذه الانتخابات وانه سيشدد الرقابة على الاقتصاد ويتخذ اجراءات مختلفة بعد الانتخابات لمواجهة ازمة الليرة.
وبالرغم من معارضة اردوغان فقد عمد البنك المركزي التركي الى رفع المعدل الاساسي للفائدة على الودائع بالليرة التركية من احل الحد من تحويل الليرة الى الدولار. ولكن هذا الاجراء يزيد من صعوبة الاستلاف التجاري والانتاجي ويصعّب حرية الحركة المالية للشركات التركية التي زادت مديونيتها بشكل كبير.
ويقول مراقبون محايدون انه سيكون من الصعب جدا على تركيا الخروج بسلام من الحرب الاقتصادية التي تواجهها، بسبب كونها ـ اي تركيا ـ تتموضع في اطار حلف الناتو مما يجعلها تحت رحمة الكتلة الامبريالية الاميركية. ويصح في تركيا اردوغان القول : ان ارضاء الامبريالية هو اصعب بكثير من إغضابها. ومثال ليبيا القذافي لا يزال ماثلا في المشهد الدولي. ولن تستطيع تركيا الخروج من الازمات التي تنتظرها الا بالتغيير التام لبوصلة توجهاتها الجيواستراتيجية الدولية.
العهد