الحكومات السورية تبحث عن ملكيتها الاقتصادية بأشكال جديدة: إعادة سيطرة أم تصفية؟
لعب القطاع العام الصناعي في الاقتصاد السوري، ومنذ أصبح ملكية عامة للدولة، أي بعد عمليات التأميم أولاً، وإعادة بناء ما هو جديد بالكامل ثانياً، دورا مهماً سواء من حيث توفير المنتجات الصناعية، أو من حيث تشغيل اليد العاملة، أو من حيث السيطرة على الأسعار، أو من حيث توفير الإيرادات لخزينة الدولة بطرق مختلفة، وقد كان أداء ذلك القطاع منسجماً مع فلسفة اقتصادية ومنهج تنموي تقوده الدولة بالمطلق، من خلال التوجه الاشتراكي في إدارة الاقتصاد، فالقطاع العام بمفهومه الواسع الإنتاجي والخدمي والتجاري، كان الذراع الاقتصادي المباشر لسيطرة الدولة على الموارد الاقتصادية وإعادة توزيع تلك الموارد بالطريقة التي كانت تعتقد أنها مناسبة.
إلا أن ذلك القطاع العام بمفهومه الواسع، والقطاع الصناعي منه تحديداً، لم يخضعا طيلة سيطرة الدولة عليهما لعمليات إصلاح حقيقية تطويرية، واكبت الاتجاهات التكنولوجية الحديثة في الصناعة. وكانت النتيجة النهائية أن القطاع العام الصناعي «استهلك نفسه» تماماً من خلال وقوعه في فخ التقادم التكنولوجي أولاً، ومن خلال عدم وجود نية حقيقية لإصلاحه ثانياً، فتعقدت المشكلات الإدارية والإنتاجية والتسويقية لذلك القطاع، وتحولت أغلب مؤسساته من داعم للاقتصاد والمجتمع، إلى عبء عليه، وخاصة مع تمسّك الحكومات السورية المتعاقبة بكل شركات وتفاصيل ذلك القطاع، انطلاقاً من رؤية إيدولوجية بحتة لا من رؤية اقتصادية نابعة من أبسط مبادئ علم الاقتصاد، ألا وهو مبدأ «تخصيص الموارد الاقتصادية»، بالشكل الأمثل.
ورغم تغير الظروف الاقتصادية وبدء عمليات التحرير الاقتصادي الداخلي والخارجي منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي، وخاصة من جهة دخول القطاع الخاص كمنافس للقطاع العام في أغلب النشاطات، الاقتصادية عامة والصناعية خاصة، فإن تلك التغيرات لم تسهم في تغيير ذهنية الحكومات السورية المتعاقبة، في تبديل طريقة التعاطي مع القطاع العام الصناعي تحديداً، لا من حيث التوجه نحو إعادة صياغة الشكل القانوني لشركاته وتحويله إلى شكل ملكية جديد للدولة، ولا من حيث إمكانية التخلي عن بعض الأنشطة الاقتصادية التي أصبح القطاع الخاص منافساً قوياً فيها، مع الاحتفاظ بأنشطة صناعية استراتيجية، ولا من حيث التعامل معه بعقلية مالية وإدارية جديدة تسمح له بتجديد وتطوير نفسه، ولا من حيث محاربة الفساد الذي استنزفه حتى النخاع وامتص فوائضه.
لقد بقيت فلسفة الحكومات السورية المتعاقبة الحاضنة للقطاع الصناعي العام، فلسفة جامدة تماماً، تعاملت معه من منظور التمسك بالكل، وبغض النظر عن إمكانية وجود بدائل اقتصادية حقيقية لإعادة هيكلته، لقد اعتقدت تلك الفلسفة، على ما يبدو، أن التخلي عن جزء من القطاع العام هو تخل عن جزء من السيادة الاقتصادية للدولة، وتخل عن الدور الاجتماعي لها، في الوقت الذي كان من الممكن أن تستمر تلك السيادة الاقتصادية بشكل أعمق وأكثر تطوراً مما كانت عليه، فيما لو تم تغيير ذهنية التعامل مع ذلك القطاع، وكان من الممكن أن يستمر الدور الاجتماعي للدولة بمنهجية جديدة قوامها سياسات حماية اجتماعية شاملة.
لقد كانت بداية التحول نحو تصفية القطاع العام الصناعي في عام 2009، عندما صدر المرسوم رقم (519) تاريخ 1/12/2009، الذي تم بموجبه إيقاف معمل بطاريات «القدم» العائد للمؤسسة العامة للصناعات الهندسية، ونقل موجوداته الثابتة من أراض ومبان، ونقل عماله إلى المؤسسة العامة لمعامل الدفاع دون تعويض عن قيمة الموجودات الثابتة، وقد تكفلت وزارة المالية حينها بموجب ذلك المرسوم، بسداد رصيد القرض الفرنسي الممنوح للمعمل.
ومن ثم جاء عام 2010 ليكون عاماً مفصلياً، في عملية تغير فلسلفة الدولة تجاه ملكيتها الاقتصادية، وخاصة أن ذلك العام قد شهد صدور مرسومين تشريعيين يقضيان بتخل القطاع العام الصناعي عن شركتين تابعتين له بشكل نهائي، وكان أول المراسيم هو المرسوم التشريعي رقم (149) تاريخ 5/4/2010، الذي تم بموجبه تصفية شركة دمشق للمنتجات الغذائية «كاميليا»، التابعة للمؤسسة العامة للصناعات الغذائية، ونقل ملكية عقاراتها وموظفيها بالكامل إلى وزارة التربية، مع إعفاء وزارة التربية من دفع قيمة تلك المباني كونها لا تصلح لأن تكون مدارس مقابل تسديد ديون الشركة كلها، والمرسوم التشريعي رقم (150) تاريخ 5/4/2010 أيضاً، الذي تم بموجبه تصفية شركة الزيوت والصابون العربية التابعة للمؤسسة العامة للصناعات الغذائية، ونقل ملكية عقاراتها وموظفيها على وزارة التربية أيضاً، مقابل أن تدفع وزارة التربية 1.658 مليار ليرة، كقيمة للأراضي العائدة للشركة، وتعفى من تسديد قيمة المباني كونها لا تصلح لأن تكون مدارس. وها هي الحكومة في عام 2018 تدرس الصك التشريعي المناسب لتصفية الشركة الوطنية لصنع «الشمينتو» ومواد البناء بدمشق (معمل إسمنت دمر) التابع للمؤسسة العامة للإسمنت ومواد البناء.
وفي عام 2010، وفي مقابل عمليات التصفية تلك، وربما رغبة من الحكومة في إعادة النظر بشكل ملكيتها، فقد صدر المرسوم التشريعي رقم (81) تاريخ 30/9/2010، الذي تم بموجبه إحداث شركة سورية مساهمة قابضة، تملك الدولة جميع أسهمها برأس مال قدره (5) مليار ليرة، موزع على (10) مليون سهم بقيمة اسمية (500) ليرة للسهم. وسميت بشركة الاستثمارات السورية المساهمة القابضة، وأطلق عليها اختصاراً اسم «السورية للاستثمار»، ولها الشخصية القانونية والاعتبارية وتتمتع بالاستقلالين المالي والإداري، ويرأس وزير المالية مجلس إدارة الشركة، وتعمل الشركة بضمانة الدولة.
وفي العام ذاته أيضاً صدر القانون رقم (18) تاريخ 9/6/2010، الناظم لقطاع الاتصالات والذي أحدثت بموجبه الشركة السورية للاتصالات تأسيس الشركة، والتي أطلق عليها اختصاراً اسم «السورية للاتصالات»، تملك الدولة ممثلة بالخزينة العامة، أسهمها كاملة وتخضع لقانوني التجارة والشركات، والتي حلت محل المؤسسة العامة للاتصالات المحدثة بالمرسوم 1935 تاريخ 10/7/1975 وتعديلاته. يكون الغرض الرئيسي للشركة تقديم خدمات الاتصالات للعموم، على نحو يتوافق وأحكام هذا القانون. وتعمل الشركة بضمانة الدولة، وتكون أموالها وموجوداتها من أملاك الدولة الخاصة.
ومن ثم جاء عام 2011 ليحمل المرسوم التشريعي رقم (45) تاريخ 3/4/2011، القاضي بتأسيس شركة شام للتأمين الصحي، وهي شركة مساهمة عامة، لها شخصية قانونية واعتبارية وتتمتع باستقلالين مالي وإداري، ورأس مالها (500) مليون ليرة، ومدتها (50) عاماً قابلة للتجديد، وتمارس كافة أعمال التأمين الصحي الفردي والجماعي، ويملك رأس مال الشركة المؤسسة العامة السورية للتأمين، والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، والسورية للاستثمار.
وفي عام 2012 صدر القانون رقم (2) تاريخ 4/1/2012 القاضي بإحداث الصندوق الوطني للاستثمار، وهو صندوق سيادي على شكل محفظة استثمارية برأس مال (2) مليار ليرة يتبع لوزير الاقتصاد، وتساهم فيه مؤسسات ومصارف الدولة العامة، وهدف الصندوق هو الاستثمار في سوق دمشق للأوراق المالية من خلال بيع وشراء الأوراق المالية لحسابه.
ومن ثم صدر القانون (13) تاريخ 29/3/2012 القاضي بتأسيس الشركة السورية للمدفوعات الإلكترونية، وهي عبارة عن شركة مساهمة مغفلة تملك الدولة ممثلة بالخزينة العامة أسهمها كافة، وغاية الشركة إنشاء البنى التحتية اللازمة لخدمات الدفع الإلكتروني، وتكون مسؤولة بوجه خاص عن تنفيذ وتشغيل المنظومة الوطنية الموحدة للدفع الإلكتروني وذلك على أسس اقتصادية وتنموية.
وفي عام 2015 صدر المرسوم التشريعي رقم (19) تاريخ 30/4/2015، القاضي بالسماح بإحداث شركة سورية مساهمة مغفلة خاصة، بقرار من وزير الإدارة المحلية، تهدف إلى إدارة واستثمار أملاك الوحدة الإدارية أو جزء منها، بحيث تملك الوحدة الإدارية جميع أسهم الشركة، وبناء على هذا المرسوم فقد تم تأسيس شركة «دمشق الشام القابضة»، التي تعود ملكيتها لمحافظة دمشق بالكامل، واليوم تدور في كواليس وزارة الصناعة أفكار حول إعادة النظر بشكل ملكية الدولة لشركات معامل المؤسسة العامة للصناعات النسيجية، وتحديداً نحو تحويل هذه المؤسسة إلى شركة مساهمة قابضة عامة أيضاً تملكها الدولة بالكامل.
تشير تلك التحولات في العقلية الاقتصادية للدولة السورية، إلى أن الدولة ما زالت لديها الرغبة الكاملة في الحفاظ على دورها الاقتصادي، لكنها تريد ممارسة هذا الدور بشكل مؤسساتي وقانوني جديد، بحيث تحافظ فيه على ملكيتها وما تنتجه تلك الملكية من عائدات، وتستثمر فيها أموالها وتصون في الوقت ذاته سيادتها الاقتصادية، فهل ستنجح الحكومات السورية المتعاقبة في تحقيق ذلك؟!
أيهم أسد
Warning: Attempt to read property "post_excerpt" on null in /home/dh_xdzg8k/shaamtimes.net/wp-content/themes/sahifa/framework/parts/post-head.php on line 73