إدلب في نظر الجولاني
أنس وهيب الكردي
تتوضع إدلب بوداعة في السهول الشمالية الغربية لبلاد الشام مشكلةً إحدى أكثر المناطق خصباً على امتداد الجغرافيا السورية، وبمساحتها التي تقارب مساحة لبنان، وطبيعتها الغناء لا تزال المحافظة تشكل إحدى أسخن المناطق في الجيوسياسة العالمية، وتحتل أولوية في الاتصالات الدبلوماسية لدزينة من الدول الكبرى والإقليمية.
وإن كانت الخصائص الجغرافية والبشرية قادرة على تفسير الأهمية التي تكتسيها محافظة إدلب، فإن هذا التفسير يظل محدوداً وجزئياً، إذا لم يتم ربطه بالسياق الراهن للأزمة السورية، والتيارات التي كانت فاعلة في كواليسها.
لنا أن نرى أن كل تلك التيارات تلاقت في إدلب: الجهادية العالمية، الصعود التركي متلبساً نزعة شرق أوسطية وتوجهه مطامح تركيا لاستعادة دورها القديم في الهلال الخصيب، سعي واشنطن لتعريف دورها في المنطقة بما يتناسب مع أولوياتها الدولية، والولوج الروسي إلى المنطقة من بوابة دعم الحكومة السورية، دور حزب «الاتحاد الديمقراطي» الكردي وتوجهه الإقليمي المناصر لـ«حزب العمال الكردستاني – بي كي كي»، أخيراً، أزمة اللاجئين وصعود الأحزاب الشعبوية في أوروبا، وإن كان الكثير من هذه التيارات معلومة، فإن بعضها يحتاج لمزيد من الإضاءة، والسطور التالية تتناول بشكل خاص «الجهادية العالمية».
يجري التعامل مع التيارات الجهادية كـ«بنى إرهابية» من دون إدراك الإستراتيجيات التي تحركها والرؤية والتكتيكات التي توجه علمياتها، وهكذا، يظل فهم الأزمة السورية ناقصاً، من دون تفهم إستراتيجية أحد أهم التنظيمات الجهادية، التي حازت قائداً كان له باعٌ طويلٌ في «الجهاد العراقي»، قبل أن يؤسس ما يعرف في الأدبيات الجهادية بـ«الجهاد الشامي».
في السنة الثانية من عمر الأزمة، كتب أمير «جبهة النصرة»، السلف لـ«حركة تحرير الشام»، أبو محمد الجولاني، «إن إدلب تشكل قفل القنطرة لأي حل دولي في سورية وإن على الجهاديين وضع اليد عليها، لمنع حل لا يتناسب مع رؤاهم».
كانت أغلبية المحافظة آنذاك بيد الحكومة السورية، على حين كان عامل الجولاني، أبو ماريا القحطاني، يفرض سطوته على «الشرقية»، أو المحافظات الواقعة شرقي نهر الفرات في يد التنظيم الجهادي. ليس من قبيل المصادفة استناداً إلى هذه الكلمات، أن يكون الجولاني قد وحد جهود «النصرة» مع الجماعات الجهادية وغير الجهادية الأخرى لإنشاء «جيش الفتح» شتاء العام 2015 بهدف السيطرة على إدلب، متبنياً لاحقاً، سياسة إحلال «الجهاديين» الأيغور والشيشان والمصريين والأوزبك في مناطق معينة من المحافظة، هؤلاء «الجهاديون» ليسوا، فقط، مقاتلين أشداء أثبتوا أنفسهم فيما خاضوه من معارك، بل هم بمنزلة أوراق إستراتيجية، قد تدفع بعض القوى الكبرى والإقليمية الكثير في سبيل تصفيتها، أو حمايتها بغرض الاستفادة من خدماتهم مستقبلاً ضد بلدانهم الأم.
يعول الجولاني، مستعيناً بأوراق القوى التي بيديه من التنظيمات الجهادية، شمال حلب وفي ريف اللاذقية الشمالي، على نجاح مناوراته بين القوى الدولية والإقليمية المتصارعة، كي يتمكن من تثبيت وضع إدلب، قدر الإمكان، مراهناً على العودة في المدى الطويل إلى الساحة من جديد، لاعباً فاعلاً، ويظن بإمكانية تكرار تجربة حركة «طالبان» الأفغانية، التي تجد اليوم من يمد لمسؤوليها السجاد الأحمر، بعد سبعة عشر عاماً من الصراع مع الأميركيين وحلفائهم، وهي الحركة المتهمة بإيواء زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، ومساعدته على تنفيذ ضربة 11 أيلول عام 2001.
من هنا نراه، يتابع العلاقات الشائكة والمضطربة داخل مثلث أستانا المتشكل من روسيا وإيران وتركيا، وكذلك بين هذه الدول والولايات المتحدة، والهدف الذي لا يعلو عليه هدف في الأهمية، بالنسبة إلى الجولاني، هو ألا تتفق القوى الدولية والإقليمية على استئصال «هيئة تحرير الشام». لذلك، يبتز الروس عبر تهديد قاعدة حميميم الجوية، والإيرانيين بالهجوم على بعض القرى بريفي حلب وإدلب، والعالم أجمع بما لديه من «تنظيمات جهادية» عابرة للقارات، وحدها تركيا، احتاجت من الجولاني جهداً متواصلاً وتكتيكاً متنوعاً، بين الابتزاز والتعاون، بهدف المحافظة على علاقة مستقرة معها، تضمن له ظهيراً إقليمياً لا غنى عنه لاستمرار تنظيمه، والورقة الأمضى في هذا الصدد هي التلويح للأتراك بالقضاء على التنظيمات المسلحة المقربة منهم، والتي عبأتها أنقرة للقتال من أجل القضاء على النفوذ العسكري لتنظيم داعش في شمال حلب، ومليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية في عفرين. مع ذلك، ما كان لمشروعي «درع الفرات» و«غصن الزيتون» التركيين، أن يتما لولا أن الجولاني قد قرر غض الطرف عنهما، إن لم يكن دعمهما من وراء الكواليس.
إذن، تحتل المحافظة على وجود «هيئة تحرير الشام» في إدلب، أولوية قصوى بنظر الجولاني، لكن الأورد أن يضيق الخناق عليها شيئاً فشيئاً في المرحلة المقبلة؛ فباتفاق الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب اردوغان على إنشاء منطقة عازلة في محافظة إدلب، سحب الروس ورقة أمن حميميم من يد الجولاني، والأرجح أن تتكلل مباحثات وزيري الدفاع الروسي سيرغي شويغو والتركي خلوصي آكار حول سبل تطبيق اتفاق سوتشي، بالتوصل إلى تفاهمات عسكرية تضمن استعادة الجيش السوري السيطرة على بلدة جسر الشغور غربي محافظة إدلب، وفي الوقت نفسه مراعاة حساسية الأتراك فيما يتعلق بالوضع في مدينة تل رفعت بريف حلب الشمالي، المسيطر عليها من مليشيا «الحماية الشعبية» الكردية. بذلك، سيتم سحب ورقة جسر الشغور من هيئة «تحرير الشام»، البلدة التي تشكل مدخلاً لتهديد الساحل ومدينة اللاذقية وريفها الشمالي الغربي.
مع ذلك، ليست «هيئة تحرير الشام» بصدد الاختفاء في قابل الأيام، والأرجح أن يبقى للجولاني فسحة صغيرة للمناورة، لكن هذه المرة، عبر ما تبقى له من أوراق التنظيمات «الجهادية» العابرة للقارات.
الوطن