«أهواك بلا أمل».. ماذا يخبرنا الفلاسفة عن «الحب من طرف واحد»؟
أن تحب؛ فلا بد أن تعاني. ولكي تتجنب المعاناة، يجب عليك ألا تحب، ولكنك – بالمقابل – سوف تعاني إن لم تحب أبدًا. وبذلك؛ فإن الحب أو اللاحب ينطويان على المعاناة. ولكن السعادة لن تتحقق لك حتى تقع في الحب؛ وبذلك فإن سعادتك تلك ستنطوي على شيءِ من المعاناة. وبالتالي؛ ستجعل منك المعاناة شخصًا سعيدًا. *المخرج الأمريكي وودي آلن
ما هو الحب؟ سؤال يبدو بسيطًا للغاية ولكن إجابته ليست على ذلك القدر من البساطة؛ فإنك إذا طرحته على عدد من الناس؛ فسوف يعطيك كل واحد منهم إجابة مختلفة تمام الاختلاف عن الآخرين. قد يجيبك أحدهم أن الحب شعور جميل يذهب العقل تمامًا كما تفعل الخمر، وقد يراه أحد آخر شرًا مستطيرًا يكسر القلب ويترك في الروح ندبات لا تنمحي؛ وبالتالي تجده يحاول تجنب الوقوع في شراكه قدر المستطاع، بينما قد يرى شخص ثالث أن الحب، مثله مثل إلهه كيوبيد، ذا طبيعة مزدوجة يحمل في جعبته السعادة والحزن معًا، ويخفي وراء مظهره الرقيق الحالم قوسًا وسهمًا مُخبئين وراء جناحيه يحملان نارًا مستعرة تشعل قلب من تصيبه وتحدث فيه جرحًا لا شفاء له منه.
الفشل في الحب قد يثري الإبداع
عندما تهدي أحدهم قلبك ولا يتقبله؛ فعليك أن تعلم أنك لن تستطيع استرداده أبدًا لأنه سيكون قد ضاع منك إلى الأبد* الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث
في كتابه «المأدبة»، يشبه أفلاطون إحساس الوقوع في الحب بالرجفة التي تسري في الجسد حين يُصاب بالحمى، ويضيف أن تلك الرجفة هي ما يكشف عن أجنحة الروح ويحررها؛ فتطير بنا بعيدًا بينما نشعر بقلوبنا تخفق بقوة حتى تكاد تخرج من صدورنا.
وقد فسر أفلاطون الإحساس بالخفة الذي يعترينا حتى تكاد قدمانا لا تلمسان الأرض حين نحب بأننا حينها نكون قد استعرنا من إيروس (إله الحب عند اليونانيين القدماء ونظيره الروماني هو كيوبيد) أجنحته التي تُحلق بها قلوبنا بعيدًا عن عالمنا الأرضي وتذهب بنا إلى دنيا الأحلام.
يدعي أفلاطون أن الحب غير المتبادل هو أسمى أنواع الحب لأنه يخلو من الرغبات والأنانية ويتسم بتقبل المعاناة بصدر رحب، وإذا اتفقنا مع أفلاطون في وجهة نظره عن الحب غير المتبادل؛ فإنه -مما لا شك فيه- أن ذلك الحب سيظل واحدًا من أقسى الأشياء التي قد تحدث للإنسان وأكثرها إيلامًا ومأساوية مع تسليمنا بنبله وترفعه عن الرغبات.
إن آلام فيرتر -بطل تلك الرواية- لم تكن سوى آلام جوته نفسه؛ ففي صورة رسائل قصيرة لم تُرسل أبدًا إلى الشخص الذي كُتبت لأجله، سطر جوته آلام حبه اليائس لشارلوت بوف، تلك الفتاة ذات الوجه الساحر والعينين اللتين يشع منهما وهج الفتنة والذكاء.
تمامًا كجوته، كان فيرتر شابًا مرهف الحس سريع الانفعال، وكان كثيرًا ما يُطلق العنان لقلبه منحيًا قيود العقل جانبًا، وقد كانت طبيعته تلك هي ما جعلته يندفع في حبه لشارلوت الفاتنة ويهيم بها عشقًا رغم أنه كان يعلم تمام العلم أنها لا تبادله الشعور نفسه لأنها كانت مخطوبة بالفعل وقت أن وقع في حبها.
في صمت أحب فيرتر شارلوت، ولأنه لم يستطع الابتعاد عنها؛ فقد قرر أن يصادق خطيبها كي يتسنى له رؤيتها. وعلى الرغم من أنه قد ظن أنه قد يكتفي بكونه صديقًا لها، شعر فيرتر بالنار تضطرم في قلبه يوم عقد قران شارلوت وتأرجحت حالته المزاجية؛ فتارة يرضى وتارة يغضب، وأحيانًا يذعن للأمر الواقع، وأحيانًا أخرى يثور.
وُتعد «آلام فيرتر» من أبرز الدلائل التي يعتمد عليها أنصار الرأي القائل بأن الرفض والجرح يولدان الإبداع؛ فتقول الكاتبة ماري وراد: «إن الرفض، سواء كان ظاهرًا أم باطنًا، هو العامل المحفز والملهم للإبداع الأدبي». وتتجلى صحة مقولة ماري في الأثر الكبير الذي تركته رواية جوته تلك في الذاكرة الأدبية؛ إذ تعتبر علامة فارقة في أدب السيرة الذاتية والأدب الرومانسي على حد سواء.
وقد امتدح طه حسين خلود هذه الرواية في مقدمة الطبعة التي ترجمها أحمد حسن الزيات، قائلًا: «تلك خصلة تمتاز بها الكتب التي أُنشئت لتبقى أبد الدهر، وقُضي أن يكون الخلود لها نصيب. تُخلد لأنها لا تصف الأشخاص التي تفنى وتزول، وإنما تصف النوع الذي يبقى ويدوم. وخصلة أخرى قضت لهذا الكتاب بالبقاء والخلود، هي أنه وضع للإنسانية مثالًا من الفضيلة تحس كل نفس الميل إليه، وتود لو بلغته أو دنت منه».
ثلاثية «الحب والسعادة والمعاناة» من وجهة نظر الفلسفة
يقولون إنه ما من تآلف بين الفلسفة والحب، ولكن -في واقع الأمر- كان الحب هو الشيء الوحيد الذي أنزل بعض الفلاسفة من أبراجهم العاجية إلى عالم البشر العاديين. فتلك الحكمة الرصينة والتروي الشديد الذي يمتاز به معظم الفلاسفة غالبًا ما استطاعت امرأة جميلة على قدر من الذكاء إطاحتهم بعيدًا، كاشفة بذلك أنه ما من بشري حصين ضد الحب، حتى لو كان من قبل من أشد الكافرين به.
«من أي نجم سقط كل منا على الآخر؟»، بهذا السؤال بدأ الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أول حوار له مع لو أندرياس سالومي في أول لقاء يجمع بينهما. وعلى الرغم من أن أي امرأة قد تذوب حين تسمع هذه العبارة، إلا أن عشيقته لو لم تكن من ذلك النوع من النساء الذي يسقط بسهولة.
لم يكن نيتشه يعلم وقتها أن للو تاريخًا عريضًا حافلًا بإيقاع الرجال في حبها ونبذهم بعد ذلك دون أن يمسوا منها ولو شعرة واحدة. فكل ما شعر به ذلك الفيلسوف، الذي قد شارف على الأربعين عامًا وقتها، أن سهم كيوبيد قد أصاب قلبه وأنه مفتون بحب هذه الشقراء الفاتنة ذات الـ21 ربيعًا، وأنه يريد الزواج منها والبقاء معها إلى الأبد. وبالتالي أصبح قلبه لعبة في يديها تقلبه كيف تشاء؛ فتارة تعطيه الأمل الزائف وتارة أخرى تنبذه وتجرحه.
عرضان للزواج تقدم بهما نيتشه وهو جاث على ركبتيه لتلك الفتاة الماكرة، ولكنهم قوبلا بالرفض فتأكد له بعد العرض الثاني أنه لم يعن شيئًا بالنسبة لها أبدًا، لقد كان بالنسبة إليها «مجرد برهان على الذوق الجيد»، كما بعث في خطاب إلى صديقته القديمة مالفيدا.
وعلى الرغم من أن نيتشه قد اعترف فيما بعد بأن لقاء سالومي هو «الأكثر خطورة وإثارة للزوابع» من بين كل اللقاءات التي حدثت له في حياته، إلا إنه كان أيضًا بالنسبة إليه «الأكثر قيمة والأكثر إرباحًا»
وهنا، يتبادر إلى الأذهان سؤالًا مفاده: كيف يمكن أن يكون لقاء فيلسوف كبير بامرأة أذلته ونبذته هو الأكثر قيمة والأكثر إرباحًا رغم كل ما لاقاه من المعاناة؟ والإجابة هي أنه لولا لقاء نيتشه بسالومي ما كان كتابه الأعظم والأشهر «هكذا تكلم زرادشت» سوف يرى النور. فنيتشه، الذي كان غارقًا في أحزانه وخيالاته السوداوية، قد استطاع من خلال معاناته أن «يستكشف المخلفات ويسبر غور الأعماق» وتمضخت معاناته عن زرادشت، حليفه الأخير.
وبتقبله لكل الآلام التي اختبرها في علاقة حبه المأساوية، وجد نيتشه سعادته أخيرًا إذ تكشف له أن المعاناة تعد شرطًا لا غنى عنه في النضج الإنساني. فهو قد استطاع أخيرًا أن يحول حطام حبه إلى معجزة جعلته واحدًا من أعظم وأشهر أعلام الفكر والفلسفة -سواء اتفقت مع أفكاره أم لا- وأثبت بذلك المقولة القائلة بأن «إن من يبحثون لا يكتشفون إلا إذا كانوا محمومين أو مطرودين».
من جرحه اكتشف نيتشه أن السعادة ما هي إلا تصالح مع الشقاء، إذ أن المعاناة -وفقًا لما ذكر في كتابه «الفجر»- هي الخط الفاصل بين السمو الإنساني و الرغبات الحيوانية. بالنسبة إلى نيتشه، يعتبر الشقاء جزءًا من الحياة، ولكي يكون المرء سعيدًا؛ فإنه يجب أن يحب الحياة كما هي في جميع تجلياتها، أي أننا نحن بشر لن نشعر بمدى سمونا عن المخلوقات الأخرى إلا باختبار الحياة وتقبلها على كافة أوجهها.
هذا وتجد رؤية نيتشة عن السعادة لها صدى لدى ما يعتقده الكاتب والطبيب الأمريكي روس هاريس في كتابه «فخ السعادة»، إذ يرى هاريس أن الأفكار الشائعة عن السعادة غالبًا ما تكون مغلوطة ومضللة ومن المرجح أن تجعلنا بائسين على المدى الطويل؛ فالسعادة -من وجهة نظره- لا تعني حالة من الرضا والفرح الدائمين في حياة لا يتخللها ظلال من الألم أو المعاناة.
وإن الباحثين عن ذلك النوع من السعادة -الذي تكتسي فيه الحياة بلون وردي بلا أي ظل قاتم لمعاناة أو إحباط- إنما يبحثون عن وهم ويحرمون أنفسهم من استشعار السعادة الحقيقية التي تحملها الحياة بكافة تجلياتها.
بالنهاية، قد يكون الحب غير المتبادل حقًا مثيرًا للإبداع، وهو بالتأكيد ألهم الكثير والكثير من الأدباء والفلاسفة لتقديم أعظم أعمال الفكر والأدب إلينا، وقد يبدون هم في صورة المنتصرين الذين تخطوا آلامهم وانتصروا عليها، إلا أن هذا النصر -في الحقيقة- هو نصر أجوف لأنه ما من شيء قادر على شفاء قلب معذب من الحب إلا الحب ذاته، كما قال نيتشه نفسه: «لا نجد علاجًا فعالًا ضد الحب، في أغلب الحالات، مثل ذلك العلاج القديم الفعال – مبادلته الحب».
ساسة بوست
Notice: Trying to get property 'post_excerpt' of non-object in /home/shaamtimes/shaamtimes.net/wp-content/themes/sahifa/framework/parts/post-head.php on line 73