سيناريو لإنضاج «دايتون» سوري
عبد المنعم علي عيسى
دخلت مفاعيل قانون قيصر الخدمة قبيل أن يجري الإعلان عن دخول هذا الأخير حيز التنفيذ رسمياً، وربما كان مرد ذلك إلى أن «كلمة السر» الخاصة بذلك الدخول قد جرى توزيعها والمباشرة بضرورة اعتمادها فوراً، فالمشهد السوري الراهن يشي بأن الأزمة مقبلة نحو منعطف جديد اقتصادي في ظاهره، إلا أنه في عمقه يهدف إلى تغيير مسير نهرها وبالتالي مصبه.
في أعقاب المشهد الذي تبدت بعض خيوطه، يمكن القول: إن رهان الخارج بات الآن منصباً على إحداث تحولات اجتماعية ثقافية، بخلفيات اقتصادية، كانت الأزمة قد نجحت في مراكمتها على امتداد ثماني سنوات، على حين الاعتقاد الآن أن ذلك الركام الكمي آن له أن يدخل طور التحول النوعي كضرورة لاستثماره سلعياً في السياسة، وفي شرح ذلك يمكن القول إن الضغوط المتعددة الأنواع والمصادر التي تتعرض لها دمشق راهناً تهدف إلى زعزعة استقرار المناطق الواقعة تحت سيطرتها كمرحلة أولى، وإلى كبح جماحها أو تحفزها البادي منذ حين عن إمكان ذهابها نحو استعادة المناطق الخارجة عن تلك السيطرة كمرحلة لاحقة، إذ لطالما كان اختلال عمل النواة على الدوام مؤدياً بالضرورة إلى خلل في عمليات انقسام الخلية بما يفضي إلى جنين لا أحد يمكن له التنبؤ بالشكل الذي يمكن أن يكون عليه.
كان لافتاً تصريح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الذي أعقب قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالانسحاب من سورية 19 كانون الأول الماضي عندما قال: «لن نختفي وراء الجدران»، والآن بات بمقدور المتتبع للخيوط التي تحرك الدمى على المسرح أن يلحظ الأصابع التي تحركها بل التنبؤ أيضاً بشكل الحركة التي ستظهر للجمهور.
ما يعزز هذا التحليل السابق هو أن أغلبية اللاعبين الإقليميين والدوليين باتوا يضبطون إيقاع حركاتهم قياساً لتلك «النوتة»، ومن الواضح أن التباين الذي رصده بيان الخارجية الأميركية والتركية، كل على حدة، الصادر بعد لقاء وزيري خارجية البلدين على هامش اجتماعات الأطلسي يومي 3 و4 من الشهر الجاري، لا يعبر في عمقه عن خلاف على كامل الصورة وإنما على تفاصيل دقيقة فيها، وإلا لما قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو الذي لمس كم كان تهديد ترامب بتدمير الاقتصاد التركي إذا آثر بولوج هذا الأخير بوابته نحو ذاك، قبيل ساعات من توجهه إلى موسكو معلناً «إنهاء التحضيرات لعمل عسكري في سورية وإن ذاك سيكون حاضراً على طاولة المفاوضات»، حتى إذا دقت ساعة هذه الأخيرة يوم 8 من الجاري في موسكو أعلن أن «تركيا ستمضي قدماً في محاربة التنظيمات الإرهابية في سورية على أساس التفاهم مع روسيا» ولكيلا يكون هناك لبس في ماهية تلك التنظيمات فقد سمى تنظيمين بعينهما هما «وحدات حماية الشعب» الكردية و«حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي، وهذا يشير إلى ضوء أخضر «صامت» روسي، ولعله في ضوء العديد من المعطيات المتوافرة مؤخراً بات من الممكن القول إن موسكو اليوم تعيش مرحلة مراجعة حسابات معمقة فيما يخص مواقفها من الأزمة السورية بشقيها السياسي والعسكري، وما يعزز هذه الفرضية وجود العديد من التساؤلات المشروعة لكن الأبرز منها هو: لماذا اختار الرئيس الروسي أن يعلن أن بلاده ملتزمة بالقرارات الدولية المتعلقة بوضع الجولان السوري المحتل من خلال مؤتمر جمعه إلى نظيره التركي، ولم يعلن ذلك في المؤتمر الذي جمعه إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل أربعة أيام من هذا التاريخ، أما كان ذلك فيما لو حدث أكثر إقناعاً في دقة الرمية نحو إصابة الهدف؟ ومن الممكن أن تتضح الصورة أكثر إذا ما أضفنا إليها تصريحاً كان قد أدلى به القائد العام لميليشيات «قوات سورية الديمقراطية – قسد» مظلوم عبدي، في غضون الاحتفال الذي جرى في عين العرب بعد مرور أسبوعين من إعلان الانتصار على داعش كان قد حضره قادة عسكريون من التحالف الأميركي وكذا وزير الخارجية الفرنسي الأسبق برنار كوشنير حدد فيه شرطين للتفاوض مع أنقرة هما: انسحاب القوات التركية من عفرين، والتوقف عن تهديد قوات الحماية الكردية، ومعنى ذلك أن عبدي يريد عبر الشرط الأول «قيامة» الحلم الكردي من جديد، وعودة هذا الأخير إلى الحياة «ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً» عبر الشرط الثاني، والأهم هو أن ذلك يؤكد وجود قنوات تفاوض كردية مع أنقرة عبر موسكو وهي قد لا تكون معلنة.
في تراجم ذلك كله فإن موسكو قد تذهب إذا ما سدت السبل أمام تلك الأبواب نحو دمج ملفي إدلب والشمال والشرق السوريين، وذاك تحول فيما لو جرى سيكون شديد الخطورة على مسار التسوية السورية قياساً إلى التداعيات التي ستنجم عنه، والأهم أنه سيكون استجابة لضغوط تركية هادفة نحو تمزيق «الخطر» الكردي عسكرياً في مقابل تعويضهم سياسياً عبر دعم مطلب راسخ لهؤلاء يلقى تجاوباً لدى الأميركيين والفرنسيين والروس أيضاً، وهو يرمي إلى نزع الكلمة الوسطى من الجمهورية العربية السورية لتختصر التسمية بالكلمتين الأولى والأخيرة، وذاك مسعى كردي يهدف إلى الكسب عبر الأيديولوجيا بعد الفشل في موازين المعادلات، وهو فيما لو حصل سيكون مكسباً كردياً من الدرجة الممتازة، لكونه سيشكل وصفه ناجعة لتشظي الجغرافيا السورية عاجلاً وليس آجلاً، إذ كيف يمكن لكيان يشكل فيه العرب 90 بالمئة من قوامه البشري أن تنزع عنه صفة العروبة؟ وهل المطلوب أن تكون النسبة هي +10 كي تصبح تلك الصفة متلازمة مع الكيان؟ هل ذلك حاصل في بلدان تعتبر مستقرة مثل ألمانيا أو فرنسا أو بريطانيا؟ بل كيف يمكن لكيان قامت أيديولوجيته التاريخية على حدوث تلاقياته مع العرب عند «دوار» الوحدة العربية أن يقال له إن ذلك كان «حملاً» كاذباً؟
لم يحدث أن كانت هوية العروبة مصدر قلق للكيان السوري منذ أن أقام الأمويون دولتهم فيها قبيل ما يقرب من أربعة عشر قرناً، حتى لما تناوبت عليها قيادات من أصول غير عربية، والمؤكد أن هذه، أي تلك القيادات، كانت تحكم في مناخات وسياقات عربية، ومن المهم الإشارة في هذا السياق إلى اللبس الحاصل لدى البعض في فهم الانتصار الذي حققه القائد صلاح الدين الأيوبي بتحرير القدس 1187م عندما يشير هؤلاء إلى أصوله الكردية، فإن ذلك وإن حصل فقد كان بأدوات ووسائل عربية وهو لم يقد جيشاً كردياً للقيام بذلك الإنجاز التاريخي.
يشير المفكرون السوريون ممن اهتموا بوضعية الكيان السوري الحديث إلى أن الأخير يعاني قلقاً ثلاثي المصدر، الأول هو قلق التكوين الناجم عن خسارة سورية الطبيعية لأجزاء منها بعد سايكس بيكو 1916، والثاني هو قلق جيوسياسي ناجم عن وقوعها وسط خضم من بؤر التوتر والأزمات، أما الثالث فهو قلق مجتمعي سكاني ناجم عن تعدد الأديان والمذاهب والطوائف، إلا أن أحداً لم يشر، ولا أظهرت الأحداث والتحولات ذلك، إلى أن الكيان يعاني قلقاً ناجماً عن هويته العربية، بل على العكس فقد كانت هذي الأخيرة على الدوام لاصقاً لا بديل منه لوحدته الجغرافية.
اليوم يبدو أن المطلوب هو الدفع بالسوريين عبر ضغوط السياسة وتحولات الاقتصاد نحو إيصالهم إلى النقطة التي وصل إليها اليوغسلافيون بعد صراع دام ثلاث سنوات 1992-1995 عندما فكروا بطريقة «أن اتفاقاً غير منصف هو خير من استمرار الحرب» وهو نفسه ما قاد نحو توقيع اتفاق دايتون الذي جرى في هذا العام الأخير، وهو نفسه أيضاً الذي قاد إلى تشظي الجغرافيا اليوغسلافية إلى سبع كيانات راهنة.
إن هذا السيناريو تم تجريبه أول مرة تحت حكم الانتداب الفرنسي، لكنه فشل، واليوم يعاد استنهاضه، لكن مصير المحاولة الجديدة بالتأكيد سيكون مشابها لمصير المحاولة السابقة وإن اختلفت أدوات التنفيذ.
الوطن