الثلاثاء , نوفمبر 5 2024

Warning: Attempt to read property "post_excerpt" on null in /home/dh_xdzg8k/shaamtimes.net/wp-content/themes/sahifa/framework/parts/post-head.php on line 73

سكان معلولا اليوم لايزيد على 1500 نسمة بعدما كان يراوح بين 10 و15 ألفاً

سكان معلولا اليوم لايزيد على 1500 نسمة بعدما كان يراوح بين 10 و15 ألفاً

رغم مرور خمس سنوات على عودتها إلى كنف الدولة السورية، تبدو بلدة معلولا اليوم هادئة أكثر من اللازم. لا ضجيج ولا جلبة سوى ما تحدثه ريح نيسان، أو أجراس الكنائس التي تُقرع ظهيرة كلّ يوم على من تبقّى من أهلها. ويخشى أبناء معلولا على الآراميّة، لغة السيد المسيح، من «الصمت الأبدي»، بعد أن أرخت الحرب بظلالها على جوهر هذه اللغة، وهدّدتها بالانقرا

إنها الثانية عشرة ظهراً بتوقيت معلولا في ريف دمشق، الموعد اليومي لقرع أجراس «دير مار تقلا». تسع دقّات تتلوها ترتيلة حزينة باللغة الآرامية، يفهمها السكان جيداً، وقد لا يعيها الزائرون من أماكن أخرى. تُعدّ معلولا واحدة من ثلاث قرى في سوريا (وربما في العالم)، لا يزال سكّانها يتحدثون اللغة الآرامية في حياتهم اليومية (قرى جبعدين، والصرخة، ومعلولا). يستقبلنا بشار وهبة عند قوس البلدة المتهاوي، بفعل معارك طاحنة دارت هنا. يقودنا الرجل الخمسيني إلى داخل البلدة التاريخيّة وهو يحدّثنا عن الراحلين. يقول لـ«الأخبار» بحسرة «قبل الحرب، كان عدد سكان معلولا يراوح بين 10 و15 ألف نسمة. أما اليوم فلم يبق سوى 1500 نسمة، بعد أن رحل معظم السكان إلى المدن، أو هاجروا خارج البلاد». تعلّم بشار، المهندس الزراعي، اللغة الآرامية من أبيه، الذي تعلّمها بدوره من أجداده. وهكذا ظلّت اللغة إرثاً مهماً ينتقل من جيل إلى جيل، حتى جاءت الحرب ودقت ناقوس خطر زوالها. «اللغة تحيا بحامليها ومن يتحدث بها، فإذا رحل الناطقون بها، كيف سيعلو صوتها، ومن سينقلها للأجيال المتلاحقة؟»، يقول.

شهد عام 2011 إغلاق «معهد تعليم اللغة الآرامية» الوحيد في سوريا، الذي تأسّس في معلولا عام 2006، ولم يُعد افتتاحه حتى اليوم. كما أدت الأحداث التي تعيشها البلاد إلى تجميد مشروع جامعة آرامية خاصة (جامعة الأخطل) في القامشلي، وكان مقررا أن تفتتح فيها كلية خاصة باللغتين الآرامية والسريانية، وآدابهما.

يقودنا الرجل الذي غزا الشيب لحيته، ويتحدث الآراميّة مع جميع من يراه، ثم يحول كلامه بشكل تلقائي إلى العربية حين يتحدث معنا. نصل «روضة معلولا»، فيما تصدح أصوات أطفال يرددون أغنيات آرامية. في المدرسة الوحيدة التي ما زالت أبوابها مشرّعة في البلدة، يتجمع ثلاثون طفلاً فقط، مقسمين على صفين اثنين. يتعلم الأطفال المواد الأساسية باللغة العربية، لكن المعلمة، أنطوانيت مخ، تحرص على إعطائهم حصة لغة آرامية يومياً، لـ«تزرع في أذهانهم موسيقى حروفها، وتجعلهم أكثر ألفة مع كلماتها». تعلّمت انطوانيت اللغة الآرامية من أبيها، وهي تعلّمها اليوم للتلاميذ، إذ «لم يعد التعليم المنزلي كافياً»، بفعل ما سبّبته الحرب من نزيف مجتمعي. تطرب السيدة الستّينية حين تسمع الأطفال ينطقون الآرامية بشكل صحيح، وتقول «أشعر أن اللغة هي امتدادي على ألسنة الأطفال، وأفخر حين يتعلمون كل يوم كلمة جديدة… هدفنا إنقاذ اللغة من خلال جعلها مستمرة لأجيال لاحقة، وتعليمها في الروضة هو محاولة إسعافية».

نتابع الجولة في البلدة التي «تشعر بالوحدة». نعاين نوافذ مفتوحة تكشف خلوّ غرفها من السكان، وآثار حرائق في الحارات الضيقة، وبائعاً وحيداً للألعاب، لكن الغبار المتراكم على بضاعته يفضح أن أحداً لم يشتر منها منذ زمن طويل. نصل أخيراً إلى «دير مار تقلا» الشهير، الذي يقطنه من تبقى من الخُدّام وبعض الراهبات. يصل مسامعنا صوت جميل وحزين يخرج من داخل الكنيسة، يتدرّب على ترنيمة حزينة مع اقتراب «الجمعة العظيمة». تواصل ريتا وهبة تراتيلها الآرامية، فهي واحدة من ثلاث فتيات سوريات يُجدن الترتيل الآرامي. تقول لـ«الأخبار» إن «صلواتنا وقداديسنا باللغة العربية، لكننا نُدخل بعض التراتيل الآرامية… آخر قدّاس كامل باللغة الآرامية كان عام 1994. أتمنى أن أشهد اليوم الذي أحضر فيه صلاة آرامية كاملة». تفتخر ريتا (30 عاماً) بإتقانها الآرامية غناءً وكلاماً، وتعتبرُ أن إيمانها يكون أقوى حين تُصلّي بالآرامية، فهي «لغة المسيح، ولنا فخر وتميزٌ بأننا ننطقها». وتضيف «إذا غضبت، فالأسهل أن أعبّر عن غضبي بالآرامية، وإذا فرحت كذلك. أستطيع التعبير عن نفسي بطريقة أفضل… حتى أحلامي أشاهدها باللغة الآرامية». تتشارك ريتا مع شقيقها بشار مخاوف اندثار اللغة، وتؤكد أن «النزيف الأكبر للغة المسيح سببه هجرة الناس، وعدم انتقال اللغة إلى النشء الجديد».

«أرعا تعني الأرض، سكفا يعني سقف، تربا أي درب، وشمشا هي الشمس، أما ثكلا فهو الثلج». يضربُ جورج زعرور عشرات الأمثلة مؤكداً اشتقاق مئات المفردات العربية من الآرامية. ويضيف «من منّا لا يقول مرحبا؟ هي بالآرامية مورحابا، أي الرب محبة، هذه تحية الآراميين منذ مئات السنين». ويعدّ جورج زعرور من أواخر مدرسي اللغة الآرامية في سوريا، إذ يدرّس لهجاتها الأربع، ويمتلك آلاف الوثائق والمخطوطات الآرامية داخل محلّه الصغير في معلولا.
بدأت رحلة زعرور مع الآرامية خلال زيارته لإسبانيا عام 1982. لاحظ وقتذاك أن عدداً كبيراً من أصدقائه يسألونه عن معلولا وعن لغة السيد المسيح، فاندفع إلى دراستها أكاديمياً، وتاريخياً، لكن الخوف يتملكه اليوم. يقول «اللغة الآرامية تتألم وتشعر بالخطر… الجغرافيا والإنسان أهم عوامل حفظ اللغة، واليوم نفتقد كليهما». يستعرض الرجل عشرات الكتب التي خُطّت بالآرامية، وقد نال أحدها نصيبه من الحرب، ويقول «هذه الكتب حضرت الحرب بكاملها وتعرضت للقذائف، لكنها ظلّت محفوظة في صناديق. ثمة شظية خرقت هامش هذا الكتاب ولم تمزقه». يجلس زعرور ساعات طويلة داخل مكتبه، ويترجم أكبر قدر ممكن من المخطوطات والمراجع. يقول حزينا «الآرامية في احتضار كامل. جيلنا يحمل 50% من مخزون اللغة، وسيذهب هذا المخزون مع موتنا».

ظلّت الآرامية لغة بلاد الشام حتى القرن الثامن الميلادي، وكانت حينها دواوين الدول مكتوبة بالحرف الآرامي. وثمة نقوش في «الجامع الأموي»، و«كنيسة حنانيا» في دمشق القديمة، تدل على ذلك. ولا تنحصر مساعي انتشال اللغة الآرامية في معلولا فحسب، بل يجهد الفنان حسام بريمو منذ سنوات لإحياء اللغة عن طريق غنائها في قلب دمشق، مع فرقته التي أسّسها عام 1999. يجمع بريمو العشرات من تلامذته دورياً في «دير مار منصور» (حي باب توما)، للتذكير بلغة الشرق. «نحن لا نغني لغة أجنبية، بل لغة مصهورة مع اللغة العربية منذ مئات السنين»، يقول لـ«الأخبار». نجح بريمو أخيراً في إقامة أول مهرجان غنائي باللغة الآرامية، وأطلق فيه أكثر من 100 شاب وشابة أغنيات آرامية بتراتيل شرقية، بعضها كان يردّدها الآراميون أثناء توجههم نحو الأرض، أو صعودهم الجبل لإشعال النار. ويشرح بريمو: «الهوية الآرامية تحمل الجزء الأكبر من الهوية السورية، والآراميون على هذه الأرض منذ الألف الثاني قبل الميلاد».

المصدر:سيرياستيبس