رسائل مدمرة أخفاها دافنشي في عذراء الصخور
الهندسة هي فن التأليف بين كل ما هو موجود للوصول إلى نموذج مرغوب، أو لترتيب قطع من أحاجي رياضية وفيزيائية للخروج بنتيجة منطقية. أمّا إن كان الفنان هو ذاته المهندس، فستحمل النماذج رسائل تتناقلها الأجيال ليصل المُراد منها مهما طال الزمن. فما لا يمكن قوله صراحةً، يمكننا التعبير عنه في أعمالنا.
لن يجد قالبنا هذا شخصًا أكثر ملائمةً واستحقاقًا من ليوناردو دافنشي.
شجرة نخيل وُجدت في مشهد جبال الألب دفعت كيلي غروفييه Kelly Grovier لتعقب مجموعة من القرائن التي حلت لغزًا عائدًا للقرن الخامس عشر، ما حوّل تحفة دافنشي هذه إلى تأمل في التطور الجيولوجي للأرض.
ألغاز فنية
بعض اللوحات لا يقل غموضها عن شهرتها، والنظر إليها يشبه الغوص في أعماق بحرٍ داكن مظلم. فلا تدري أي الأسرار يمكن أن تلمح عيناك لتثير فيك شعورًا زائدًا بالغموض يقابله صمت مطبق لهذه اللوحات ومن رسمها. كما قد لا تدري ما هو الدليل الذي يمكنك العثور عليه في محاولةٍ لفك لغز سطوة هذه اللوحات. خذ مثالًا على ذلك لوحة ليوناردو دافنشي “عذراء الصخور“، وفيها يكون يسوع الطفل في كهف ظليل يلعب مع يوحنا المعمدان في جو يلفه مشهد جبال الألب.
الأفضل أن نتكلم عن نسختي ليوناردو دافنشي من هذه اللوحة، واللتين رسمهما بين عامي 1483 و1503، إحداهما موجودة في متحف اللوفر في باريس ويُعتقد بأنها الأولى وقد أنهاها عام 1486، والثانية موجودة في المعرض الوطني في لندن، وبدأ رسمها عام 1495 وأنهاها بعد 13 عامًا.
يخفي المشهد السهلي في كلا اللوحتين تفصيلًا صغيرًا لطالما تم تجاهله في السابق، ولدى مشاهدته ينقل المشهد إلى شيء آخر أكثر تعقيدًا وجدليةً من مجرد رؤية دار حضانةٍ مقدسة ترعى فيها مريم العذراء بحنان الأطفال تحت ناظري رئيس الملائكة أرييل. وتصبح الرسائل مدمرة تتحدى مفهوم الكنيسة حول خلق العالم. وهنا لا يتم التلميح إلى أصابع أرييل الحادة الشبيهة بالحراب الواضحة في نسخة اللوفر، والتي أزالها في النسخة اللاحقة، وقد ألمح دان براون في روايته شيفرة دافينشي إلى ذلك بمنتهى الإثارة؛ فهو لا يشير إلى يوحنا المعمدان، لكنه يشير الى عنق شخصية غير مرئية، تمسك مريم العذراء رأسها الوهمي ككرة بولينغ بأصابع يدها اليسرى الممتدة بأقصى اتساع لها.
ما يشير إليه غروفييه هو عنصر لم يبرز في أي من نظريات المؤامرة، وعمليًّا هو من الوضوح بحيث يمكن أن يراه الجميع، وهو يبدو متحولًا قليلًا بين النسختين. يقع فوق يد مريم العذراء اليمنى بقليل: إنها شجرة النخيل حسنة المظهر، والتي يكون سعفها الملتهب (وخاصة الملتوي منه في نسخة اللوفر) مصممًا بطريقة تحاكي تمامًا شكل محيط صدفة محار بحري مفتوحة.
ولندرك كم يعد مشهد سعفة النخيل في جبال الألب، المتضاعفة كالمحارة المفتوحة مشهدا مفاجئًا ومستفزًّا، علينا أن نستذكر القصة وراء رؤيا دافنشي هذه، والتي تنبض بشعرٍ مبهمٍ من تأليفه. وعلى الرغم من اختلاف حرارة ونبرة اللوحتين، لكنهما تشتركان في المكون الأساسي نفسه.
هذان العملان يعكسان خلوة جبلية ندية، ولا يقومان على أحد أسفار الإنجيل، لكنهما قائمان على حكايةٍ شعبية معروفة وصحتها موضع شك، وهي تروي قصة لقاء يسوع المسيح بيوحنا صدفةً أثناء طفولتهما وهما هاربان من مذبحة الأبرياء، وهي المذبحة التي أمر فيها هيرودت العظيم بذبح كل ذكور بيت لحم وما يجاورها، وذلك قبل عقود من تعميد يوحنا للمسيح بعد بلوغه.
وتتجمع شخصيات اللوحة الأربع، يسوع، ويوحنا وأرييل ومريم العذراء، في مجموعة تشبه الهرم، قبالة تشكيلة صخرية من الجبال الوعرة المرتفعة والمتشابكة، وتفصل هذه الشخصيات عن هذه التراكيب بركة مائية ساكنة.
هل أراد أتباع أخوية Immaculate Conception في ميلان أن يرسم دافنشي هذا التصوير الصخري حين كلفوه برسم نواةٍ مركزية لعمله الفني؟ الإجابة بنعم مشكوكٌ فيها، فعوضًا من أن يرفع الطفل وأمه ليضعهما ضمن جوقةٍ من الملائمة كما كان متوقعًا، استدعى ليوناردو من أعماق مخيلته مغارة جوفاء بائسة لا سبل للراحة فيها.
وبهيمنة الخلفية الأساسية، يُخشى أن يكون ما تظهره اللوحتان حول الصخور التي نحتها الزمن أكثر مما تظهر حول مجيء المسيح وتخليصه العالم من الدنس. كذلك، أهمل ليوناردو تضمين أي إشارة واضحة إلى العقيدة التي تستمد منها الأخوية اسمها (وهي أن مريم العذراء قد حملت بالمسيح دون خطيئة)، وقد أوقع ذلك الناظر إلى العمل في حيرة.
وقلةٌ من مؤرخي الفن يشككون بأن رؤية دافنشي قد تأثرت بذكراه حول نزهةٍ جبليةٍ وجد نفسه فيها يتجول وسط الصخور القاتمة، وقد صادق ليوناردو على ذلك بقوله فيما بعد: “لقد مررت بفوهة تجويف صخري، وقفت أمامه لبرهةٍ ذاهلًا، وكنت أنحني للأمام والخلف، محاولًا استكشاف أي شيء في الداخل، لكن الظلام المهيمن منعني من ذلك. وفجأةً ظهر في نفسي شعوران متناقضان، الخوف والرغبة، الخوف من ظلام الكهف المخيف، والرغبة لمعرفة ما إذا كان أي شيء عجيب داخله”.
تغلب الفضول لدى دافنشي، وأُشبع فضوله حين اكتشف أن داخل الكهف حوتًا متحجرًا ومجموعةً من القواقع البحرية التي بقيت أخاديدها الهندسية العميقة محفورةً في ذاكرته، حتى أنه خلد ذكراها في صفحات من مذكراته.
هيمنة المشهد البحري
وعلى مدار السنوات التي تلت ذلك، سبب وجود المحار والشعاب المرجانية والأصداف الأخرى المتنوعة والقواقع البحرية على قمم الجبال البعيدة عن البحر، ذهاب الكثير من الفنانين بخيالهم بعيدًا، وبالنسبة لليوناردو، كان التفسير الوحيد المقبول كنسيًا هو طوفان كبير، كذلك المذكور في العهد القديم، هو ما يفسر وجود هذه القواقع هنا. فهذه المخلوقات لم توضع أو تُرمى هنا، لكنها ولدت في هذا المكان.
أما ما وثقه ليوناردو في دفتر يومياته فهو أن القواقع البحرية الموجودة في الجبال، هي برهان على أن قمم الألب كانت يومًا ما قيعان بحار، وأن الأرض كانت أقدم بكثير وأنها أخذت شكلها بطريقة عشوائية عبر الكوارث العنيفة والاضطرابات الزلزالية على مدار زمني كبير (وليست يد الرب الوديعة هي التي قامت بذلك وخلال بضعة أيام فقط) كما كانت الكنيسة تريد أن تثبت.
مستحاثات وحياة نباتية
نعلم الآن من ملاحظة تركها ليوناردو في دفتر ملاحظاته أن أحجية القواقع البحرية التي ظهرت فجأة على أعالي الجبال كانت وليدة تفكيره حينها، وذلك قبل شروعه بمهمة رسم النسخة الأولى من عذراء الصخور عام 1483. ويكتب ليوناردو دافنشي مستذكرًا حادثةً قبل عام من ذلك حين كان يصمم تمثالًا فروسيًّا لدوق ميلان لودفيغو إيل مور، والذي لم ينهه قط: “حين كنت أعمل على تمثال حصان ميلان الكبير، أحضر لي أحد المزارعين كيسًا ممتلئًا بالقواقع، وقد عثر عليها في جبال بارما وبياتشينزا، والكثير من هذه القواقع احتفظت بنضارتها الأولى”.
والحقيقة القائلة بأن لغز القواقع البحرية الموجودة في الجبال قد استحوذ على دافنشي منذ اللحظة الأولى التي بدأ بها رسم عذراء الصخور، تلعب دورًا محوريًا في تفسيرنا للوحتيه. أما دهشته حيال انتقال القواقع البحرية؛ فتلقي الضوء الكثير على الكيفية التي يمكن أن توظف بها مخيلته الزئبقية السعفة المضاعفة لشجرة النخيل والشبيهة بالصدفة، كتلك التي نراها منتصبةً إلى يسار مريم العذراء وفوق رأس يوحنا المعمدان.
مهندس أحاجي
لليوناردو دافنشي يد حانية وضليعة في إدخال نباتات لها معنى أيقوني في أعماله، كنبتة بخور مريم التي نراها تحت يد المسيح التي يرفعها ليبارك يوحنا، والتي يعلم الجميع أنها شعار نقاء المخلص من الخطيئة. وبالنظر إلى المعنى الظاهري، يمكن ألا يتعدى معنى شجرة النخيل التلميح البسيط لسعف النخيل الذي سيُلقى فيما بعد أمام المسيح عند دخوله القدس في الأحد الذي سبق صلبه.
لكن ليوناردو لا يعمل أبدًا على مستوى التصريح البسيط. وبالبحث في مذكراته سنشهد مرارًا وتكرارًا تحول صورة واحدةٍ في مخيلته ودون عناء، تحول اللفائف الحلزونية للحيوان البحري النوتيلوس إلى تسريحةٍ نسائية. ولن يخفى على ليوناردو تطابق وريقات النخيل المروحية الممدودة نحو الخارج مع المحاور الموجودة في صدفة المحار، وهو رمز لم يترافق مع مريم العذراء فقط، لكنه أيضًا على صلةٍ بحملها المقدس.
وتوضح هذه اللوحة التي رسمها بييرو ديلا فرانشيسكا المعاصر لليوناردو دافنشي -قبل عقود من بدء الأخير العمل على عذراء الصخور- الصلة الوثيقة بين مريم العذراء وصدفة المحار؛ ففي اللوحة المسماة بريرا مادونا، نجد قبة مجنحة لها شكل صدفة المحار تظلل رأس مريم العذراء في الجزء نصف الدائري من المبنى، وتتدلى منها لؤلؤة بحجم البيضة. ويكمل هذا المشهد الصورة الأيقونية التي تشير إلى أن خصوبة مريم العذراء غامضة وإعجازية كولادة اللآلئ في قلب المحار، والتي كان يُعتقد في السابق أنها تتكون من أنقى قطرات الندى.
لؤلؤة مريم
سؤال معقول سيخطر على بال الجميع، أين هي اللؤلؤة في عذراء الصخور؟ إن كانت شجرة النخيل هي إشارة مزوجة لرمزية الصدفات التي تحمل اللؤلؤة؟ وحقيقةً، لقد قدم ليونادرو دافنشي 20 منها. ففي مركز اللوحتين تمامًا، تتألق هذه اللؤلؤة بوهنٍ قبالة أنظارنا منذ نصف قرن، إذ نجد دبوسًا مصقولًا يمنع عباءة مريم العذراء من الانزلاق عن كتفيها. وتحيط بهذه اللؤلؤة المركزية لهذا المشبك هالةً من 20 لؤلؤة مبهرة، وإن كنت تشك في أن المراد من هذه الأحجار البحرية أن تكون مرتبطة مع النخيل/ الصدفة الممدودة على بعد ذراعٍ من مريم العذراء، اتبع مسار أهداب عباءة مريم العذراء الممدودة، والتي تقود أعيننا مباشرة من مجموعة اللآلئ إلى السعفة الصدفية المفتوحة.
وحين آن أوان عودة ليوناردو إلى الموضوع ثانيةً لرسم نسخةٍ ثانية (إذ كان قد باع النسخة الأولى لمشترٍ آخر إثر خلافات محتملة مع الأخوية حول السعر)، استُبدلت كل أوراق الشجر والنباتات التي رُسمت في نسخة باريس (الأولى) بنوع آخر من أوراق الشجر. ما عدا شجرة النخيل، والتي وعلى الرغم من أنها أصبحت أكثر بساطة وأناقة في اللوحة الثانية، لكن سعف النخيل أصبحت أكثر شبهًا بالأخاديد المحفورة التي تخرج من مفاصل فجتي الصدفة. وفكرة تزويد يوحنا المعمدان بصليب (سواء أكانت من بنات أفكار دافنشي ذاته، أو هي إضافة من فنان لاحق)، تضخم فقط من صورة سعف النخيل في الرواية المصاحبة للنسخة الموجودة في معرض لندن. كما أن اصطدام الصليب المنحني بشجرة النخيل، والتي يبدو وكأنه يتكئ عليها، يجسد دخول مسامير الصليب المؤلم في راحة كف المسيح نفسه أثناء صلبه.
اعترافات ضمنية
ماذا يعني ذلك للطريقة التي نقرأ بها تحفتي دافنشي الممثلتين لعذراء الصخور؟ والادعاء هنا بأن ليوناردو كان قادرًا على نحت رمزٍ معقدٍ وغامضٍ يحمل معنيَين متناحرين أمر وارد ولا يمكن القول بأنه زائف. لقد كانت له مخيلة عنيدة متوازنة ترى التوافق حيث ينبغي للآخرين أن يروا الخلاف. لكن دمج شجرة نخيل مع صدفة بحرية في كهف جبلي هو أمر أكثر خطورة -من حيث آثاره الدينية- من الخلط بين تسريحةٍ متقنة وقواقع النوتيلوس. وبإخفائه ضمن لوحاته لتلميحاتٍ توحي بالهرطقة من وجهة نظر الكنيسة بأن القواقع البحرية التي وجدت في الجبال الصخرية هي أدلة على أن تعاليم الكنيسة حول خلق الأرض وتكوينها كانت خاطئة وخرافية، يجعل ليوناردو من نفسه بذلك عرضةً للاتهام بالهرطقة. إذ أُدين المخترع الفرنسي برنار باليسي Bernard Palissy بشدة بعد أن أدلى بتصريحات مماثلة بعد قرن من ذلك.
كان إصرار ليوناردو على خلق نموذج خطير كهذا (مرتين وليس مرة واحدة) يشير إلى كم كان هامًا بالنسبة له قول الحقيقة، سواء أكان ذلك عبر التلميح أو التشفير، تلك الحقيقة الجمالية التي تطال الطبيعة المجدفة من وجهة نظر الكنيسة. فسعف النخيل صدفي الشكل والذي يتم تجاهله بسهولة، المنحني بهدوء في هوامش أعماله، يحول روائعه إلى اجترار تأملي في التطور الجيولوجي للأرض، وهو مأزق بارد نجد أنفسنا عالقين فيه لدى بحثنا عن منقذٍ لأرواحنا.
أراجيك