تحلل المعارضات السورية
د. بسام أبو عبد الله
كنت قد تناولت في مقالات عديدة في «الوطن» مصطلح (المعارضة) من بوابة السياسة، والقانون، والدستور، وذلك لنوضح للقراء أن هذا المصطلح ليس مصطلحاً عسكرياً أو إجرامياً، أو إرهابياً، وإنما هو مصطلح سياسي- قانوني، بمعنى أن المعارضة ليست تآمراً، أو تواطؤاً على بلدك، ودستوره، ووجوده، أو عمالة لأجهزة الاستخبارات الأجنبية، أو بازاراً يمكن لك من خلاله أن تزيد ثمن عمالتك كلما شتمت أكثر، أو أطلقت عبارات نابية، أو تهجمت على السيد رئيس الجمهورية، أو الجيش، أو مؤسسات الدولة.
ما بعد احتلال العراق عام 2003 كتب الكثير عن دور المعارضة العراقية باعتبارها نموذجاً سيئاً تسبب بالكوارث على البلاد والعباد، وكان الذين يكتبون عنها هم أنفسهم الذين استخدموها وسخروها لخدمة المصالح الأميركية، والغربية عموماً، ومن يرد أن يعرف أكثر عن ذلك فليقرأ (مذكرات بول بريمر مثلاً) أو غيره الكثير، وما يزال العراق يعاني حتى الآن نتائج ممارسات تلك المجموعات (المعارضة)! بالرغم من وجود عملية سياسية وانتخابات، وبروز قوى وطنية عراقية حقيقية، وإسقاط الشعب العراقي للعملاء، والمرتزقة الذين أتوا على ظهور الدبابات الأميركية.. وهذا الاعتقاد، والرأي حول دور المعارضة سقط مع ظهور المعارضات السورية عام 2011، التي طمست وتجاوزت كثيراً شقيقتها من المعارضات العراقية، لأن ما رأيناه من ممارسات، وعمالة، وارتزاق، وضعف انتماء وطني يفوق آلاف المرات ما كان في حالة العراق عام 2003.
في الحالة السورية تحولت المعارضة كمصطلح، وكممارسة إلى مهنة من لا مهنة له، إذ كانت غاية قوى التخطيط، والتمويل والعدوان إظهارها أنها واسعة الانتشار، ذات تأثير شعبي واسع، ولذلك كنا نتابع عبر وسائل الإعلام المختلفة تبديل الوجوه، والأسماء، والتنظيمات، والاتجاهات السياسية، كما كانت الدعاية التجارية على هذه المحطات تتبدل حسب البضاعة، والشركة، والهدف هو إقناعك أن هذا هو الخيار الأفضل.
وما يدعو للأسف، والحزن الشديدين أننا لم نستطع أن نتلمس لدى هؤلاء برنامجاً وطنياً للإصلاح رائحته وطنية، وصنع بأياد وطنية ليس من خلال مراكز بحوث غربية تديرها أجهزة الاستخبارات، ومن يتذكر منا مرحلة عامي 2011- 2012 فإنه يعرف أن هناك مشروعين قُدما لسورية باسم هذه المعارضات، الأول بعنوان (اليوم التالي) أي اليوم الذي يلي سقوط النظام السياسي في سورية، وهو مشروع أعدته مراكز بحوث غربية في (أميركا وألمانيا) وجيء بشخصيات سورية لتبصم عليه، ولتسوق له، وبعد أن فُضح من أعده وحضّره، جرى استبعاده من التداول، ليخرجوا علينا لاحقاً بمشروع آخر تحت عنوان (عملية التحول الديمقراطي- أو الانتقال الديمقراطي) وهو نسخة طبق الأصل عن المشروع الأول، ولكن جرى تقديمه باسم (مركز سوري للبحوث والدراسات)، كما جرى إكثار عدد الموقعين عليه من باب إضفاء الشرعية عليه، والحقيقة أن المشروعين كانا يهدفان إلى نقل سورية إلى حضن الولايات المتحدة، وإنهاء دورها الوطني، والقومي على صعيد المنطقة، وتغيير الهوية، وعقيدة الجيش وتسليحه، ونسف المنظومة التربوية، والتعليمية، ومن ثم إعادة إنتاج سورية بلا لون، ولا طعم، ولا رائحة، وتحويلها إلى دولة وظيفية بدلاً من الدولة صاحبة الدور، والتأثير على صعيد قضايا المنطقة والعالم أي دفن كل الإرث السوري السياسي، والوطني، والقومي، لأنه كان وما يزال مؤثراً، وفاعلاً على صعيد المنطقة وقضاياها الأساسية.
وحدها الحالة السورية التي فرخوا لنا من خلالها مصطلحات غريبة عجيبة ليست موجودة في أي قاموس فمثلاً: هناك لدينا معارضة داخلية، ومعارضة خارجية، ولدينا معارضة معتدلة، ومعارضة مسلحة، ولدينا متمردون، وناشطون، ولدينا مجالس وطنية، وائتلافات، ومنصات، وهيئات عليا للتفاوض ولدينا معارضة قطرية، وسعودية، وأميركية، وفرنسية، وبريطانية، ولا تزعلوا: وإسرائيلية، ولدينا منظمات مجتمع مدني تدربت في الغرب، وكذلك معارضة رجالية ومعارضة نسائية يجب ألا تقل عن 30%، وحكومة في المنفى، وحكومة مؤقتة، ومجالس محلية، ومجالس ثورية، وغرف عمليات (الموك والموم) إحداهما في تركيا والأخرى في الأردن، والأهم لدينا (خوذ بيضاء) وما أدراك ما الخوذ البيضاء!
أما إذا انتقلنا إلى ما يسمى المجالس العسكرية فهنا حدث ولا حرج، فما يسمى (جيشاً حراً) هو الاسم التجاري لإخفاء حقيقة التنظيمات الإرهابية (من النصرة إلى داعش إلى جيش الإسلام) وغيرها الكثير، إلى جيش سورية الموحد، وجيوش العزة، والكرامة، والحرية، وكل خلفاء المسلمين، وآيات القرآن، والأسماء الخرنقعية التي ما إن يظهر اسم حتى يختفي، ويستبدل باسم آخر، ولا تنسوا غرف العمليات المشتركة، والفيالق، والألوية، كما لابد من أن نُذكر بأسماء الجنرالات، والماريشالات وقادة الثورة الميمونة الذين قد لا يمتلك أغلبيتهم (الشهادة الابتدائية)! أما الضباط الفارون من الجيش فهؤلاء لهم قصة أخرى إذ ما إن ينتهي أحدهم من إعلانه الشهير على قناة إعلامية حول انشقاقه، أو بالأصح فراره حتى يدفع له المبلغ المطلوب (كما كشف محمد بن جاسم) ثم يوضع تحت تصرف جهاز مخابرات البلد الذي يديره، وتحت يد ضابط صغير ليديره من دون احترام لرتبته العسكرية، لأن العملاء لا يحترمون من أحد..
وإذا انتقلنا إلى الجمعيات، والمؤسسات فهنا أيضاً ستجد العشرات من منظمات المحامين، والأطباء، والصحفيين التي كلها يسمونها (حرة)! بالرغم من أن كل واحد منهم يتقاضى راتبه شهرياً من جهاز مخابرات، أو جهة أجنبية، أو مؤسسة أجنبية.
الحقيقة أنه يمكننا الحديث حتى الصباح عما قدمته هذه المعارضات من أداء تافه، وساقط وطنياً، وأخلاقياً والدليل أنها بدأت تتحلل كجثة هامدة لا تنتج إلا الروائح الكريهة، وغابت معظم وجوهها عن الشاشات، لأنها أفلست، واللعبة انتهت، وتتم هزيمة المشروع الذي ركبت على أكتافه، أو بالأصح ركبت من مشغليها كأحجار الشطرنج، والبيادق، وكانت تحرك حسب الغاية والهدف، والمرحلة، ثم ترمى إلى المزبلة، من دون أن يتذكر أي منا الآن هؤلاء إطلاقاً.
إن الفرق أيها السادة كبير، وواسع، وشاسع بين مصطلح المعارضة المتعارف عليه في القاموس السياسي من الناحيتين القانونية والدستورية، وبين مصطلح العمالة والارتزاق، والإرهاب، فالأول يقوم على البنية التشريعية والدستورية الوطنية، وينافس عبر البرامج السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، ولديه القاعدة الشعبية الداعمة لبرامجه، ورؤاه وينافس في الانتخابات بناء على ذلك، أما الثاني فهو مصطلح متعارف عليه عالمياً أي (العمالة) – والارتزاق- وهذا النموذج رخيص- تافه- ثمنه مال، وأهدافه الخيانة الوطنية، وأدواته الوضاعة، وانعدام الأخلاق، والكذب والنفاق، وعندما ينتهي دوره يرمى، كما تُرمى الأشياء البالية التي تفقد قيمتها، والهدف من وجودها.
إن ما يجب أن نستخلصه من دروس، وعِبَر هو أن العدو، أو الخصم لن يتوقف عن استهدافنا الآن، ولا في المستقبل وصحيح أن هذا المشروع الخطير جداً بدأ يتهاوى، ويتساقط، بأهدافه، وأدواته، ومنها جوقات (المعارضات السورية)، ولكن من واجبنا تقوية الحياة السياسية، وفعالياتها، وتنشيط الحياة الحزبية عبر التنافس بالبرامج الأفضل من أجل مستقبل سورية، وإنهاء حالات الارتزاق السياسي باسم الوطن والشعب، والتركيز على التنمية المستدامة لأنها أحد أهم المجالات التي يريدها المواطن السوري من الإسكان، إلى التعلم، فالصحة. أما الكلام السياسي بلا محتوى اقتصادي- اجتماعي فلم يعد له قيمة في هذا الزمان، أي إن المطلوب أن يترافق كلامنا مع أفعالنا، وحتى القرآن الكريم أشار بوضوح شديد إلى ذلك في الآية الكريمة:
(كَبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)
دمتم بخير
الوطن