قردة على رقعة الشطرنج
نبيه البرجي
عشية تولي ريتشارد هيلمز إدارة وكالة الاستخبارات المركزية (1966- 1973)، قال للتو: «فكرت بارتداء قفازات بيضاء كي لا تلامس يداي يدي الشيطان. بعد حين، لاحظت أن عليّ، لكي لا أفشل في مهمتي، أن أتبادل القبلات مع الشيطان».
بعد سنوات من مغادرته المنصب، تحدث إلى لاري كينغ «حين أناط بي الرئيس ليندون جونسون ذلك الموقع، لم أكن أتصور أن الوجه الآخر، وربما الوجه الحقيقي، لمهمتي، إدارة الجحيم، إنه منطق الأمبراطورية، ولا مناص من الامتثال».
الآن تكاد جينا هاسبل أن تشتكي من أن السياسات العشوائية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، ولاسيما حيال الحلفاء، أدت إلى «تبعثر الشياطين». ما ينشر في دوريات أميركية متخصصة، يشير إلى نوع من تراجع الثقة، ومن ثم تراجع التنسيق الميداني، بين الأجهزة الأميركية والأجهزة الأطلسية الأخرى.
التداعيات الدراماتيكية ظهرت بوضوح في أرجاء الشرق الأوسط. إلى أي مدى كان التنسيق بين وكالة الاستخبارات المركزية وجهاز الاستخبارات التركية ضد الدولة السورية؟
داخل الاستبلشمانت، اختاروا كلمة «الشك» لتوصيف العلاقات بين واشنطن وأنقرة. منذ البداية حذر الصحفي التركي جنكيز شاندار من الرهان على الولايات المتحدة في أي محاولة لإعادة إحياء السلطنة. كتب: «الأميركيون لا يتعاملون معنا كحجارة على رقعة الشطرنج بل كقردة على حجارة الشطرنج».
في البلاط السعودي، وقد احترقت أصابعهم على كل الجبهات، بدؤوا يشتكون من «الخيانة الأميركية». الأصوات تعلو بأن واشنطن «تركتنا نقاتل القبور في اليمن». وكان الأمير محمد بن سلمان قد اعتبر أن عقد صفقات بنصف تريليون دولار مع ترامب، لدى زيارته المملكة، يعني أن الإدارة الأميركية ستسلمه مفاتيح المشرق العربي، ومن باب المندب إلى ضفاف المتوسط.
لاحظوا كيف كان السقوط السعودي المدوي في كل مكان، من اليمن إلى سورية. لعلكم تذكرون صورة ثامر السبهان داخل الخراب في مدينة الرقة. لا شيء سوى التقاط صورة تذكارية مع الخراب!
في أكثر من يد وثائق تثبت تواطؤ الأجهزة السعودية، ومعها الأجهزة الأميركية، إن في تمويل «داعش»، أو في تأمين الظروف الميدانية واللوجيستية المثالية لعمليات التنظيم.
الأميركيون أنفسهم، من ريتشارد بيرل (إدارة جورج دبليو بوش) وحتى هربرت ماكماستر (إدارة دونالد ترامب)، دأبوا على الشكوى من هشاشة الحلفاء العرب. الرئيس الأميركي بلغت به الفظاظة (والواقعية) حد القول «لولانا لزالت تلك الأنظمة في أسبوع واحد».
ولي العهد السعودي كان قد قرر وضع 5% من أسهم آرامكو (أرقامها السوقية تتراوح بين تريليوني وثلاثة تريليونات دولار) على شاشات وول ستريت، وعبر وسطاء معروفين بعلاقتهم الأخطبوطية مع الإيباك. تدخل، بصورة «انتحارية»، أحد أركان العائلة المالكة «يا صاحب السمو، هذا ما تبقى لنا من ورقة التوت».
«صفقة القرن» التي أمضى عادل الجبير، ودنيس روس، وجاريد كوشنير، ومستشار الأمن القومي الإسرائيلي مئير بن بشات ساعات ماراتونية لصياغة خطوطها العريضة، سقطت أولاً في سورية، قبل أن تتهاوى في أي مكان آخر.
على الرغم من كل ما يحدث على الأرض، لا يزال الجبير يراهن على دور التفافي لبنيامين نتنياهو. خداع الذات حين يصل إلى هذا الحد.
في هذا السياق، نقول لأصحاب العيون العرجاء، وقد تحولوا إلى أكياس (لعلها أكياس القمامة) على أرصفة إسطنبول، ولرفاقهم الذين يتمرغون بين عباءات وأحذية البلاط، هل من حدود للتفاهة التي أظهروها، عبر الشاشات، تعقيباً على ما حدث في تلك الليلة السوداء في السويداء؟
هؤلاء الذين يعلمون أي دور اضطلع به رعاتهم بعدما خسروا الرهان على استخدام الجنوب السوري (كل جنوب هو جنوب القلب) لأغراض بعيدة كلياً عن تلك القامات الشاهقة التي تعي الحقيقة، وما وراء الحقيقة، وتدرك مَنْ هم الذين يتبادلون القبلات، ليل نهار، مع الشيطان!!
الوطن