لماذا لم يتدخل بوتين لصالح أرمينا في الحرب مع أذربيجان؟
في ظل اللاعودة المطلقة للوضع الذي كان قائماً أيام الاتحاد السوفياتي، فإن مصير قره باغ سيكون متلازماً مع مستقبل المسألة الأرمنية عموماً في القوقاز. ولا يقع حل المشكلة على عاتق آذربيجان وكل من أرمينيا وقره باغ فقط. وهنا يبدأ دور القوى الإقليمية والدولية المؤثرة، في مقدّمها تركيا وروسيا
مع بدء الحرب بين آذربيجان وأرمينيا في 27 أيلول/سبتمبر الفائت ارتفعت أصوات معظم قادة العالم بضرورة وقف إطلاق النار والعودة إلى طاولة المفاوضات برعاية مجموعة “مينسك” المؤلفة من روسيا وفرنسا والولايات المتحدة.كما طالب مجلس الأمن الدولي، بإجماع أعضائه، بوقف فوري لإطلاق النار. لكن كل هذه النداءات بقيت في الهواء واستمرت المعارك، بل ازدادت حدة وعنفاً واتساعاً.
أعلن الجانب الآذربيجاني أنه لن يتوقف عن المعارك قبل انسحاب القوات الأرمينية من الأراضي التي احتلتها في مطلع التسعينيات وعودة قره باغ إلى السيادة الآذربيجانية، لأنه بعد حوالى 30 عاماً لم يبق مجال لتحريرها إلا بالقوة. وعلى الرغم من تقدّم القوات الآذربيجانية في بعض المواقع، فإن حسم الحرب في النهاية ليس مضموناً، خصوصاً في ظل الإصرار الأرميني على حماية أكبر إنجاز لهم في القرن العشرين، وهو التحرّر من ارتباط قره باغ (آرتساخ) بباكو وتحصين ذلك بالسيطرة على أراض آذربيجانية واسعة، خصوصاً تلك التي تفصل بين قره باغ وأرمينيا.
في الشق القانوني، تنقسم المسألة إلى قسمين: الأوّل، هو الأراضي التابعة لآذربيجان، والتي احتلتها أرمينيا، وهنا يبدو الموقف الأرميني بالنسبة إلى القانون الدولي ضعيفاً. والثاني، هو مسألة ناغورنو قره باغ (عدد سكانها حالياً لا يتجاوز الـ 150 ألفاً) نفسها التي كانت جمهورية فدرالية ضمن جمهورية القوقاز الفدرالية التي أنشئت بعد اندلاع الثورة البلشفية. لكن جمهوريات نشأت عام 1918 على أنقاض الفدرالية القوقازية، مثل آذربيجان وأرمينيا وجورجيا، وأعلنت آذربيجان إلحاق قره باغ بها، وهو ما رفضته الأخيرة، إلى أن أدخلها الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين منطقة حكم ذاتي داخل جمهورية آذربيجان عام 1923، وهو أصل للمشكلات الحالية.
إردوغان وموسكو
عندما يقول الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إن العمليات العسكرية الآذربيجانية ستستمر إلى أن تنسحب أرمينيا من جميع الأراضي الآذربيجانية المحتلة، إنما يفتح، في ظل عدم قدرة أي طرف على الحسم، جرح القوقاز واسعاً على أزمة ومآس طويلة، ويرسل رسالة تهديد واضحة للداعم الأوّل لأرمينيا، أي روسيا، بأن القوقاز ستكون جرحاً ينزف في الخاصرة الروسية إلى ما شاء الله.
ينطلق الرئيس التركي في ذلك من أن روسيا في وضع محرج جداً في العلاقة مع دول القوقاز وقواها النافذة. فموسكو عملت في السنوات الأخيرة بجهد كبير من أجل استمالة آذربيجان والتخفيف من التصاقها بالولايات المتحدة التي نجحت في غفلة روسيا يلتسن في أن تجذب باكو إليها بدلاً من أن تبقى الأخيرة في موقع متساو في العلاقة مع محيطها الإقليمي. ومنذ وصول بوتين إلى السلطة وهو يعمل على سياسة التقريب بين بلاده وآذربيجان، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير. كما أن الشركات النفطية الروسية الكبيرة، مثل “غاز بروم” و”لوك أويل” و”ترانس-نفت”، تعمل في آذربيجان ولها علاقات شراكة مع شركة النفط الوطنية الآذربيجانية “سوكار”. أيضاً فإن روسيا، إضافة إلى إسرائيل وبيلاروسيا، بائع رئيسي للأسلحة لآذربيجان. لذا فإنه في حال اندفعت موسكو للانحياز الكامل إلى جانب يريفان، فهذا سيطيح مكتسبات روسيا من العلاقات الجديدة مع باكو.
لم تكن موسكو مرتاحة لوصول نيكول باشينيان إلى رئاسة الحكومة الأرمينية عام 2018
كذلك، فإن روسيا، مع تأييدها الاستراتيجي لأرمينيا، لم تكن مرتاحة لوصول نيكول باشينيان إلى رئاسة الحكومة الأرمينية عام 2018، في ما سمّي “الثورة المخملية”، نظراً إلى أنه كان من أنصار التقارب مع الغرب على حساب التقارب مع روسيا. حتى إذا بدأت الحرب الأخيرة، وقبلها معارك طوفوز في 12 تموز/يوليو الماضي، وجد باشينيان نفسه مخطئاً في حساباته. فالولايات المتحدة لا تعنيها أرمينيا الصغيرة مقابل آذربيجان الكبيرة والغنية بالطاقة والقاعدة المهمة لها ولإسرائيل ضد إيران. وإذ لم يجد باشينيان الدعم القوي من الغرب في الأزمة الحالية، عاد واتصل مرّتين بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال الأيام الخمسة الأولى من الحرب. بل أعلن أن روسيا يمكن أن تدخل الحرب لحماية أرمينيا، مع التذكير بأن اتفاقية التعاون الأمني والعسكري بين روسيا وأرمينيا تشمل أرمينيا ولا تدخل قره باغ في نطاقها.
بناءً على ذلك، كان الموقف الروسي دقيقاً وحساساً حتى لا يخسر في حرب مباشرة استراتيجيته التي يعمل عليها منذ سنوات، ليكون اللاعب الأكبر وشبه الوحيد والمرجعية التي تتطلع إليها كل دول القوقاز، ومنها آذربيجان. ولعل الموقف الروسي “الحيادي” مع بداية المعارك و”غض النظر” عن سيطرة الجيش الآذربيجاني على العديد من المواقع التي كانت أرمينيا احتلتها في التسعينيات، هما رسالة روسية إلى باشينيان بأن ميوله الغربية لن تنفعه في مواجهة آذربيجان.
وتراهن تركيا، ثانياً، كإحدى وسائل الضغط على روسيا، على إرسال الآلاف من “المرتزقة” السوريين، الذين باتوا يشكلون جيشاً متنقلاً موازياً للجيش النظامي التركي يرسل غب الطلب إلى حيث تحتاج تركيا إليه، للقتال إلى جانب الآذربيجانيين ضد الأرمن. وقد لا تكون باكو بحاجة إلى مثل هؤلاء، فموازين القوى الميدانية من حيث المبدأ تميل بقوة لصالح الجيش الآذربيجاني. لكن مجرد وجود هؤلاء “الإسلاميين” في جنوب القوقاز هو رسالة تهديد لروسيا التي كان من بين أحد أسباب تدخلها العسكري في سوريا عام 2015 منع سقوط سوريا بأيدي المتشددين الإسلامين وانتقالهم عبر تركيا إلى جنوب الاتحاد الروسي. وما بين خسارة آذربيجان وبدء حرب استنزاف أصولية بدعم من تركيا في شمال القوقاز ستكون خسارة روسيا مزدوجة.
بعد تصريحات إردوغان بأن الحرب لن تتوقف قبل تحرير قره باغ وأراضي آذربيجان، فإن المعادلة باتت واضحة في القوقاز؛ إن الصراع هناك بين روسيا وتركيا، وإن تركيا تريد أن تكون شريكة لروسيا في لعب الدور الأكبر في المنطقة، أي أن تأكل من حصة روسيا هناك. وزاد على ذلك تهديدات إردوغان، أثناء افتتاحه السبت الماضي سد ريحانلي على الحدود مع سوريا في لواء الإسكندرون، بأنه إذا لم يتم تطهير سوريا من الإرهابيين، أي حزب “العمّال الكردستاني”، فإن تركيا ستفعل ذلك بنفسها. وهي رسالة إلى روسيا في لحظة الاشتباك الإقليمي في القوقاز، وما يعنيه ذلك من اعتبار ليبيا وسوريا والقوقاز “حوضاً مشتركاً” للاشتباك/ التعاون بين روسيا وتركيا والأثمان التي قد يقدّمها كل طرف للآخر في لحظة التفاوض. وقد تجلت التهديدات التركية أيضاً بالحملات العالية النبرة من صحف حزب “العدالة والتنمية” ضد روسيا، وكذلك إيران، بحجة إرسال أسلحة إلى أرمينيا (يرى مراقبون أن “الطورانيين الجدد” و”الإخوان” هم وراء إشاعة مناخ العداء لروسيا وإيران).
تستفيد الولايات المتحدة من انفجار الصراع في القوقاز؛ فالهدف الأساسي لواشنطن هو إرباك روسيا أينما أمكن. لذا وقفت مع تركيا في ليبيا وفي سوريا، ولا سيما في شرقي الفرات وتقاسم النفط. وها هي الآن لا تبذل أي جهد للدفاع عن قره باغ وأرمينيا، بل يذهب العضو في مجلس الأمن والسياسة الخارجية في الرئاسة التركية برهان الدين دوران إلى القول إن الغرب يجب أن ينظر إلى التدخل التركي في سوريا وليبيا والقوقاز على أنه عنصر موازنة للنفوذ الروسي.
وما يشجّع إردوغان على المضي في حركته القوقازية هو الموقف الضعيف والخجول للاتحاد الأوروبي، الخميس الماضي في قمة بروكسل، بعدم فرض عقوبات على تركيا والاكتفاء بالتهديد بفرضها في المستقبل. وقد قوبل الموقف الأوروبي بانتقادات كبيرة من جانب المعارضة اليونانية وبشماتة من الجانب التركي.
لا يعني ما تقدّم أن روسيا مغلولة اليدين في القوقاز. فهي تمتلك أوراقاً كثيرة وقوية أبرزها تهديد خط النفط الآذربيجاني الذي يمر قرب الحدود الأرمينية مع جورجيا ومنه إلى جورجيا فتركيا، المعروف بخط باكو جيهان، الذي على مقربة منه اندلعت معارك طوفوز في 12 تموز/يوليو الماضي. وهي ورقة ضغط أيضاً على إسرائيل التي تستورد معظم حاجتها إلى النفط من آذربيجان عبر هذا الخط. كذلك، فإن روسيا قادرة على إحداث تغيير ميداني في الحرب الحالية لصالح أرمينيا كما فعلت عام 2015 في سوريا. لكن روسيا ترى أن انفجار حرب مفتوحة سيحول القوقاز، كما قال الرئيس الأرميني، إلى سوريا أخرى (وربما أفغانستان جديدة)، وهو ما تخشاه روسيا. وهو أمر إن حصل فإنما ستحمّل روسيا تركيا مسؤوليته وتبدأ مرحلة جديدة من الصراع المباشر بين أنقرة وموسكو، وهو ما لا تريده العاصمتان. لذا فإن خط التفاوض والمقايضة بين روسيا وتركيا مفتوح من ليبيا وشرق المتوسط… إلى سوريا فالقوقاز.
الأخبار
اقرأ أيضا: أبو أحمد سيقاتل بأذربيجان 3 أشهر ويعود ليفتتح مصلحة بسوريا!