الجمعة , نوفمبر 22 2024

حماس تجتاز نصف طريق العودة إلى دمشق

حماس تجتاز نصف طريق العودة إلى دمشق

أحمد الدرزي

تميّز وضع غزة عن بقية الأراضي الفلسطينية من الناحية الجغرافية والتاريخية بأنها كانت نقطة التقاء وادي النيل مع بلاد الشام، ما انعكس على علاقاتها مع الطرفين عبر التاريخ، وهو ما أظهرته في تاريخها المعاصر بشكل كبير وواضح المعالم، وخصوصاً بعد انطلاق العمل العسكري لحركة “فتح” في العام 1965 وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية، التي اصطدمت بصعوبات العمل الفدائي فيها بفعل طبيعة الالتزام الديني ودور حركة الإخوان المسلمين التي ترتبط عضوياً بشكل كبير بالحركة الأم التي تأسَّست في مصر في العام 1928، الدولة الأقرب والأكثر عراقة كدولة مركزية في المشرق العربيّ، والتي كانت ترى في إصلاح المجتمع أولوية على أيّ عمل عسكري، وفقاً للمنظور الإخواني.

أحدثت الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979 زلزالاً عنيفاً في الأفكار والمفاهيم على مستوى العالم الإسلامي، وفرضت على كل القوى إعادة قراءة أبجدياتها السياسية وإعادة ترتيب أولوياتها وفقاً لتصورات جديدة، وخصوصاً بعد تحويل السفارة الإسرائيلية في طهران إلى سفارة فلسطين، وإطلاق شعار “اليوم إيران وغداً فلسطين”، ما دفع ثلّة من الفلسطينيين المقيمين في القاهرة، وفي مقدمتهم طبيب الأطفال فتحي الشقاق، إلى تشكيل حركة “الجهاد الإسلامي”، كرد فعل متجاوب مع ما حصل في إيران في العام 1979.

رغم ذلك، استمرَّ الإخوان المسلمون المتجذّرون في مصر في سياساتهم الإصلاحية لبناء المجتمع وتصحيح مساراته إلى حين اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي قادها أبو جهاد، خليل الوزير، من تونس في العام 1987، ما دفع “إسرائيل” إلى غضّ النظر عن تشكيل حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في قطاع غزة وفلسطين، لمواجهة حركة “فتح”، الأقوى بين المنظمات، وإزاحة حركة “الجهاد” التي تبنّت نهجاً مقاوماً بعيداً عن أية مطامع في بناء سلطة فلسطينية، ولكن مسارات الحركة لم تكن كما ترغب تل أبيب، بل فاقت كلّ المنظمات الفلسطينية في مواجهتها الكيان الإسرائيلي، وخصوصاً بعد العمليات الاستشهادية التي هندسها المهندس يحيى عياش، بوجود قيادات مقاومة صلبة، في مقدمتها الشيخ أحمد ياسين، الذي قاوم بشلله الكيان الإسرائيلي، والشيخ صلاح شحادة، وعبد العزيز الرنتيسي، وغيرهم من القيادات المؤسّسة، بخلاف ما قدّمته المقاومة المشلولة بفعل هواجسها في الوصول إلى أيّ سلطة، مهما كانت محدودة، ولو على حساب فلسطين من البحر إلى النهر.

كان من الواضح من المقدمات أنَّ هناك تناقضاً خفياً في حركة “حماس” بين أن تنزع نحو المقاومة لتحرير فلسطين كاملة وأن يكون هدف هذه المقاومة هو إثبات مدى جدارتها، لتكون بديلاً سلطوياً من “منظمة التحرير الفلسطينية”، التي ذهبت بعيداً بعنوان استقلال القرار الفلسطيني نحو إيجاد أية بقعة من فلسطين بأي شكل من الأشكال وبناء سلطة فلسطينية.

رغم ذلك، إنَّ دمشق التي خرجت من تجربة دموية ومأساوية في صراعها مع الإخوان المسلمين في سوريا، بعد الأحداث الدموية التي بدأت بسلسلة اغتيالات للكوادر العسكرية والعلمية قام بها تنظيم “الطليعة المقاتلة”، مجموعة “مروان حديد”، وخصوصاً الشخصية العلمية الكبيرة محمد الفاضل في منتصف العام 1977، وانتهت بعد أحداث حماه في العام1982 ، استطاعت الفصل بين الإخوان المسلمين السوريين وإخوان حركة “حماس” التي تعود بأصولها إلى حركة الإخوان المسلمين، رغم انتماء الطرفين إلى التنظيم العالمي، وقدّمت الملاذ الآمن لرئيس مكتبها السياسي خالد مشعل بعد محاولة اغتياله في الأردن من قبل الموساد الإسرائيلي في العام 1997، بطلب من الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد جبريل، وتحوّلت إلى ملاذ آمن للقيادات السياسية والعسكرية لحركة “حماس”، وأكثر من ذلك، إلى درجة أن تكون ممراً ومصدراً للأسلحة المهرّبة إلى قطاع غزة، الذي أفشل العدوان الإسرائيلي في نهايات العام 2007 وبدايات العام 2008.

مع بدايات “الربيع العربي” المرقّط وصعود حركة الإخوان المسلمين كمعتمدين للإدارة الأميركية في بناء شرق أوسط إسلامي كبير يمتدّ من حدود الصين وحتى المغرب، مع دور تركي واضح بقيادة حزب “العدالة والتنمية” التركي ورئيسه رجب طيب إردوغان، انقسمت حركة “حماس” على نفسها بين تيارين أساسيين، الأول بقيادة خالد مشعل الذي أظهر أولوياته بالانتماء إلى حركة الإخوان المسلمين الساعية إلى السلطة بأي شكل من الأشكال، بالاصطفاف مع المشروع الأميركي بعنوان التمكين ثم الانقلاب، ما دفعها إلى حضور المؤتمر الذي عقدته مؤسّسة “راند” الأميركية العائدة إلى البنتاغون في قطر في العام 2012، ضمن إطار “أميركا والعالم الإسلاميّ”، لتقريب وجهات النظر بين الطرفين، ما دفعه إلى الانقلاب على دمشق وطهران والضاحية الجنوبية، والاصطفاف مع تركيا وقطر اللتين تقودان تنفيذ المشروع الأميركي، وهو ما دفعه إلى الانخراط في سفك الدم السوري ونقل الخبرات العسكرية التي تلقّتها مجموعات من “حماس” في العواصم الثلاث إلى المجموعات العسكرية السورية التي تمرّدت على دمشق.

في المقابل، بقيت مجموعات عز الدين القسام بأغلبيتها الساحقة في غزة، بقيادة رئيس أركان المقاومة الإسلامية محمد ضيف، إضافة إلى عضو المكتب السياسي في الحركة محمود الزهار، رافضين أي تدخل عسكري في سوريا، ومعتبرين أنَّ الأولوية للمقاومة، وليست للمشروع السياسي الذي سيذهب إلى الاستسلام لـ”إسرائيل” بعنوان التصالح والتسوية والسلم. واعتبروا أنه لا يمكن التفريط في محور المقاومة الذي استطاع تحقيق إنجازات متتابعة في لبنان وغزة والعراق والخروج منه، وأنَّ الأولوية للمقاومة، وليست لبناء سلطة هشة لا مقومات لوجودها وبقائها ضمن المشروع الأميركي.

بعد الانكسار الواضح للمشروع الأميركي في مصر بعد سقوط حكم محمد مرسي على يد الجيش المصري بفعل انتفاضة 30 تموز/يوليو، وفي سوريا بعد سقوط منطقة القصير وبروز التحالف الروسي الإيراني السوري في مواجهة المجموعات المسلحة المدعومة أميركياً وتركياً وخليجياً، تراجعت الأحلام الإخوانية في السيطرة على المنطقة العربية، وبقيت الأطماع التركية لتحقيق الميثاق الملِّي.

استطاع الجناح المقاوم في غزة إزاحة خالد مشعل وفريقه عن قيادة الحركة، والإتيان بإسماعيل هنية رئيساً للمكتب السياسي، ويحيى السنوار قائداً سياسياً وعسكرياً لقطاع غزة، في انتخابات 2017، وبدأت عملية إعادة التموضع من جديد في إطار المحور الذي كان السبب الأساس بدعم بقاء الجناح السياسي والعسكري الرافض لأية تسوية، وبأي عنوان، مع الكيان الإسرائيلي.

بذلت طهران والضاحية جهوداً كبيرة لإصلاح العلاقة بين دمشق وحركة “حماس” بقياداتها الجديدة، التي رفضت التورط في الحرب السورية، وحافظت على قنوات الاتصال مع طهران والضاحية، وهو أمر يحتاج اكتماله إلى عودة العلاقة مع دمشق إلى حالتها الأولى كمسألة استراتيجيّة في المواجهة مع المشروع الغربي الإسرائيليّ، لكن دمشق المكلومة لم تستطع تجاوز الجرح الكبير الذي سبّبه تدخّل جزء من “حماس” في الحرب على سوريا والمحور، وأصرّت على التريّث لحين وضوح الصورة الانتخابية للحركة، وهي تعلم طبيعة البيئة العشائرية والعائلية للانتخابات في غزة، التي تستطيع تقرير قياداتها السياسية والعسكرية، كما أنها تنتظر اعتذاراً واضحاً وصريحاً من الحركة عما قام به بعض قياداتها وأبنائها. في المقابل، تتخوف قيادات الحركة من الاعتذار وعدم وجود صدى إيجابي من قبل دمشق، وخصوصاً أن بعض الإشارات الإيجابية الأولية منها لم تلقَ صدى إيجابياً من بعض المسؤولين السوريين، وربما كان صداها سلبياً.

جرت الانتخابات الأخيرة في غزة، والتي تترقبها دمشق وتعتمد عليها في تحديد قرارها تجاه الحركة، في ظل تجاذبات دولية شديدة التعقيد، وخصوصاً بعد استعادة الدولة العميقة سيطرتها على كل مفاصل السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة بعد تولي جو بايدن الرئاسة فيها، ما ترك ظلاله على طبيعة الاصطفافات الإقليمية، ودفع أعداء سوريا والمحور إلى إعادة الاصطفاف من جديد بعد تفرقهم إثر سقوط القصير وتراجع دور الولايات المتحدة أكثر وأكثر في عهد دونالد ترامب.

وهو ما ترك آثاره في طبيعة الانتخابات في غزة، ما دفع تركيا وقطر والسعودية والإمارات إلى الاجتماع على دعم تيار خالد مشعل ذي البعد الإخواني العالمي وبين تيار محمد ضيف ويحيى السنوار وبقية قادة القسام الذين يَرَوْن أولوية المقاومة على أي مشروع سياسي لا يملك أية ضمانات بالاصطفاف مع الدول التي لا تستطيع الخروج عن إرادة واشنطن، وخصوصاً أن الحركة وقعت في مجال الحرج الشديد بعد الهرولة الواضحة نحو التطبيع مع “إسرائيل”.

إذ إن حركة “النهضة” في تونس منعت تجريم التطبيع في البرلمان التونسي. وفي المغرب، ذهب حزب “العدالة والتنمية” المغربي إلى التوقيع باسم رئيس الوزراء مع الكيان، وسعى الرئيس التركي الذي يعتبر الزعيم الروحي السياسي لكل الإخوان في العالم نحو تعميق العلاقة مع “إسرائيل”، وتوسّطت قطر في ذلك، وذهب حزب “الإصلاح” اليمني بعيداً في قتال “أنصار الله”، بالتحالف العميق مع المملكة العربية السعودية والإمارات و”القاعدة” و”داعش” بغطاء أميركي إسرائيلي.

مع نجاح السنوار في الانتخابات وتبوّئه قيادة غزة، فإن الطريق أصبحت أكثر سهولة لاستمرار إسماعيل هنية رئيساً منتخباً للمكتب السياسي للحركة. ويبقى الدور الأساسي لغزة في تحديد مساراتها، والأهم من كل ذلك، كيف تستطيع أن تحفظ نفسها من التجاذبات الإقليمية والدولية المتناقضة بشكل صارخ، وهو ما لا يمكن أن يتمّ إلا بالانفصال عن التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، الذي تورّط في المشروع الأميركي الذاهب إلى الانكسار، والتحوّل إلى حركة مقاومة من دون أي مشروع سياسي مختلف عليه، وفي ذلك قوة لها ولدمشق ولكلّ المحور الذي رسّخ نفسه كلاعب أساسي لا يمكن تجاوزه في غرب آسيا، فهل تفعل ذلك؟
الميادين