بكين مع طهران.. متى ستكون مع دمشق؟
أحمد الدرزي
في خطوة جريئة، وقّعت بكين وطهران على وثيقة التعاون الاستراتيجي بينهما، والتي افتتحت بجملة لافتة للنظر بما تحمله من دلالات: “تمثّل كلّ من الصين وجمهورية إيران الإسلامية حضارة آسيوية قديمة”، وتكرَّرت الإشارة في مقدّمتها إلى البعد الآسيوي: “التأكيد أن هذه الوثيقة فصل جديد في العلاقة بين الحضارتين الآسيويتين العظيمتين”.
وقد أوفدت موسكو وزير خارجيّتها سيرجي لاڤروف إلى بكين قبل توقيع الاتفاق، في إشارة واضحة إلى دورها في المساعدة على تجاوز حالة التردّد لدى الطرفين، بغية الدفع بقارة آسيا إلى مواجهة استمرار تهديدات الهيمنة الأميركية، وترسيخ مشروع إعادة الدور إلى العالم القديم في قيادة العالم، بعد أن سُلِب منه خلال القرنين الماضيين.
أحدث توقيع الاتفاق بين الطرفين زلزالاً مكبوتاً على مستوى العالم، ما زالت تداعياته تتكشّف قلقاً على لسان المسؤولين الأميركيين، وفي الصّحافة الإسرائيليّة، بما يشير إلى تغير جوهري على مستوى معادلات القوة الدولية، وتسارع كبير في تشكيل قوة آسيوية صاعدة ومتكاملة بين الصين وروسيا وإيران، مقابل قوة أميركية مهيمنة تتآكل قدرتها بسرعة أكثر من المتوقّع.
تميّزت سياسات الصين منذ أن بدأت نهضتها في العام 1978 في عهد رئيسها دينغ شياو بينغ بالحذر الشديد، وتجنب التوتر مع أي دولة في العالم، والتركيز على النهضة الاقتصادية، وفق رؤية تحتاج إلى نصف قرن من الزمن، ما جعل الرئيس الصيني السابق جيانغ زي مين يعتذر إلى السيد الخامنئي الذي عرض عليه التحالف في العام 2002 أثناء زيارته إلى طهران، لكون الصينيين غير مستعدين بعد لتصدّر المشهد العالمي.
تساءل الكثير من السوريين بعد توقيع الوثيقة الأهمّ بين طهران وبكين عن موقع سوريا فيها، ومدى انعكاسها عليها، وهي تشهد حصاراً شديداً من الخارج يمنع تدفّق التجارة والمساعدات إليها، ويحرمها من مواردها النفطية والغازية وغذائها في الداخل، بفعل هيمنة الأميركيين على قرار أبناء الجزيرة السورية، وهم يظهرون نوعاً من اللوم المكتوم لبكين، التي لم تبادر إلى مساعدتهم في خرق الحصار والبدء بإعادة الإعمار بما تملكه من إمكانيات مالية وعلمية وعملية، فهل الأمر كذلك؟
من الواضح أن الخبراء الصينيين يولون اهتماماً خاصاً بسوريا. بدا ذلك جلياً في العام 1999 باهتمامهم بموقعها الجيوسياسي الأهم في شرق المتوسط ومفترق القارات العالم القديم، وهو ما لاحظه الدبلوماسيون والخبراء العرب عند لقائهم نظراءهم الصينيين.
وقد تبدى هذا الأمر بعد ذلك بشكل واضح بعد زيارة الرئيس الأسد لبكين في شهر آب/أغسطس 2004، والاهتمام الواسع من القيادة الصينية، والتوقيع على عدد من الاتفاقيات المهمة بين البلدين، كان أهمها قيام 200 شركة صينية ببناء 600 معمل صيني في مدينة عدرا الصناعية قرب دمشق، بشكل يتيح تصدير البضاعة الصينية إلى الدول الأوروبية في شمال أفريقيا، ويؤسّس لترسيخ دور الموانئ البحرية السورية في حركة التجارة العالمية، ونقل الخبرات الصينية إلى المهنيين السوريين، لكن هذا الاتفاق لم يُنفّذ، وبقي حبراً على ورق، رغم أنه كان من الممكن أن يؤمن حماية لسوريا، بدفع الصين إلى أن تكون أكثر إرادة وتحدياً لحماية مصالحها الاقتصادية فيها.
شعرت بكين بالقلق بعد بدء الاضطرابات الموجّهة في سوريا وإحراق أعلام روسيا والصين وإيران في الكثير من التظاهرات التي اندلعت في الكثير من المدن السورية.
ورغم ضعف العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين، فإن الموقف الصيني على المستوى السياسي كان حاسماً بالاتفاق مع روسيا على منع إعطاء شرعية الاعتداء على سوريا في مجلس الأمن، واستخدم الطرفان حقّ النقض “الفيتو” مرات متتالية في وجه المخططات الأميركية، واكتفت بكين بحدود الدّعم السياسيّ، ولَم تفعل شيئاً للسوريين على المستوى الاقتصادي والعسكري، على الرغم من تهديد أمنها القوميّ في حال سقوط سوريا وعودة الجهاديين الإيغور وغيرهم من الجنسيات المختلفة إلى إقليم شنكيانغ، وزعزعة الأمن الصيني من هناك.
هذا الأمر يحتاج إلى فهم طريقة الصينيين في التعاطي مع المسائل التي يمكن أن تسبّب لهم خطوات ناقصة في التحرك على كلّ المستويات، قبل استكمال بناء قوتهم الاقتصادية والعسكرية، وخصوصاً أن الموروث الثقافي الصيني مرتبط بعدم توسّعهم خارج حدود سور الصين العظيم الذي بُني للدفاع، في إشارة إلى الطابع الدفاعي لهذه الإمبراطورية عبر التاريخ، ما غيَّب عنهم الاندفاع نحو المواقف الحاسمة، وأظهرهم بمظهر المتردّد، والأمر الآخر مرتبط باستثمار انشغال العالم الغربي عنهم في الصراعات التي يخوضها في أكثر من منطقة من العالم، وخصوصاً في منطقة شرق المتوسّط، والأمر الأهمّ أنّهم لا يمكنهم العمل في دول يسيطر اقتصاد الظلّ على قسم ليس قليلاً من الدورة الاقتصادية فيها، إضافةً إلى غياب التشريعات الاقتصادية المحفّزة للاستثمار وإعادة الإعمار.
لا شكَّ في أنَّ دمشق ستتأثر إيجاباً بشكل واسع بعد الشراكة الصينية الإيرانية التي تتيح لمبادرة “الحزام والطريق” أن تتقدَّم إلى العراق وسوريا ولبنان واليمن، بفعل الدور الإيراني الكبير، وحاجة روسيا والصين إلى هذا الدور في إخراج الولايات المتحدة من غرب آسيا. وليس لدمشق إلا أن تتلقَّف الفرصة لتكون ضمن المظلة الآسيوية، وهي تحتاج إلى الصين بشكل كبير، ذلك أنها الوحيدة التي تستطيع إعادة إعمار سوريا والاستغناء عن الأموال الغربية التي تتطلّب ثمناً سياسياً كبيراً قد لا يحتمله السوريون على المدى البعيد، ولكنها لن تأتي في ظل استمرار اقتصاد الظلّ أو الموازي في السيطرة على الدورة الاقتصادية، وبقاء التشريعات الاقتصادية على ما هي عليه.
الأمر يحتاج إلى قرار قد يكون مؤلماً، ولكن لا بدَّ منه في النهاية، فهل ستبادر دمشق إلى ذلك خلال الأشهر القادمة، كي تجد لها مخرجاً من أزمتها الاقتصادية الخانقة بفعل السياسات والعقوبات، وتتموضع نهائياً في مشروع قارة آسيا الناهضة المستقلّة؟
الميادين