هل ستندلع الحرب بين إيران وأذربيجان؟
صراعات القوقاز التاريخية تخبو ثم تعود في هذا الإقليم الملتهب منذ مئات السنين، مرات بين الروس والشيشان، ومرات بين الروس والجورجيين، ثم بين الأرمن والأذريين. كما للأوسيتيين والداغستانيين والانغوشيين في ذلك نصيب.
تتجمع هذه المرة هواجس القلق والحسابات الجيوسياسية والمصالح الكبرى عند الحدود الجنوبية للقوقاز بين اذربيجان وايران اللتين يجمع بينهما الكثير ويفرق بينهما ما هو اكثر.. فما الذي يحصل بين الجارتين المتداخلتين والمتباعدتين في آن؟ وما هو الرابط بين التطور الجديد في الاقليم والتغيرات الحاصلة على امتداد الخريطة الاكبر؟
على وقع التوتر المتصاعد بين باكو وطهران، أعلنت أنقرة أن قواتها اطلقت مع الجيش الاذري، تدريبات في إقليم ناخشيفان، وهو جيب اذري يحاذي الحدود التركية وتفصله الأراضي الأرمينية عن بقية أذربيجان، وهي المناورات الثالثة في المنطقة في غضون اسابيع قليلة، وتلي مناورات عسكرية ايرانية بمحاذاة الحدود الجنوبية لاذربيجان، وبعد اسابيع قليلة من المناورات الاذرية – التركية – الباكستانية التي استضافتها باكو في أيلول/سبتمبر المنصرم تحت عنوان “الأشقاء الثلاثة 2021”. واعتبرت طهران أن “هذه التدريبات العسكرية تخرق الاتفاقيات الدولية التي تحظر الوجود العسكري لدول من خارج الدول الخمس المطلة على بحر قزوين”.
واللافت للإنتباه ان الاعتراض اللفظي الايراني على التحركات الاذرية شمل اسرائيل، اذ اعرب وزير الخارجية الإيراني حسين أميرعبد اللهيان عن قلقه من الوجود الإسرائيلي.. ومن وجود إرهابيين في منطقة جنوب القوقاز، في اشارة الى وجود مقاتلين من سوريا ادعى أنهم قاتلوا إلى جانب أذربيجان خلال الحرب الاخيرة في اقليم ناغورنو قره باخ، لكن الأهم من ذلك هو إعلان عبد اللهيان من موسكو أن بلاده لن تتسامح مع سعي أذربيجان إلى “تغيير خريطة القواز”.
بدوره، قال قائد القوات البرية في الحرس الثوري الإيراني العميد محمد باكبور إن بلاده لن تقبل أن تتحول أراضي دول الجوار إلى ساحة آمنة لإسرائيل، تمارس فيها عملياتها لزعزعة الأمن في المنطقة. كما أكد أن أي تغيير جيوسياسي في المنطقة سيضرّ بأمن إيران، وأن هذا الأمر يعدّ خطا أحمر، مشيرا إلى أن بلاده لن تبقى مكتوفة الأيدي.
وكان التوتر في العلاقات بين طهران وباكو ظهر إلى العلن مطلع ايلول/سبتمبر الماضي، حيث بدأت السلطات الاذرية التي انزلت بالارمن هزيمة مذلة في ناغورنو قره باخ، في تقييد مرور الشاحنات الإيرانية التي تحمل منتجات نفطية متجهة إلى هذا الاقليم بعدما قضم الاذريون اجزاء واسعة منه في الحرب الاخيرة. أرادت باكو بذلك تذكير طهران، بان الاذريين هم من انتصر في حرب ناغورنو قره باخ على يريفان حليفة طهران، وتاليا فان الظروف تبدلت اليوم كما تبدلت الحسابات السياسية والإستراتيجية.
بالمقابل، لا تخفي طهران انزعاجها من اتساع العلاقات الاذرية ـ التركية، حيث ساهمت أنقرة مساهمة فعالة في جعل الاذريين يكسبون حرب ناغورنو قره باخ، كما في الترويج لفكرة “دولتين – أمة واحدة”، على اساس ان الاذريين ينتمون للعرق التركي، برغم اعتناقهم المذهب الشيعي. وبالفعل زادت الحرب من توثيق العرى بين الدولتين التركيتي القومية. وبالتأكيد، لم يرق لطهران كثيراً مشهد مسيرات النصر في باكو، بمشاركة وحدات عسكرية تركية بينما وقف زعيما البلدين إلهام علييف ورجب طيب أردوغان بجوار بعضهما البعض في المنصة.
وفي واقع الامر فان باكو تتعامل مع جميع الأطراف من منطلق موقفها من الحرب في إقليم قره باخ، الأمر الذي يفسر تعاملها الإيجابي مع كل من إسرائيل وباكستان وتركيا، باعتبار أن هذه الدول الثلاث قدمت لها دعماً كبيراً في المعركة. وليس سراً ان باكو تربطها علاقات وثيقة وعميقة باسرائيل منذ 1992، غداة استقلالها عن الاتحاد السوفياتي السابق، وتحولت فعلا الى اقرب شريك اسلامي للدولة العبرية واحدى كبرى الاسواق لسلاحها، فضلاً عن تعاونهما الامني ـ العسكري الإستراتيجي، حيث تقول تل أبيب إن 60 في المائة من أسلحة وذخائر الجيش الأذربيجاني مصدرها إسرائيل، وبينها مسيرات “أي إيه أي هاروب”.
وبحسب وثيقة نشرت على موقع “ويكيليكس”، فإن إسرائيل وقّعت صفقات مع اذربيجان هدفها التجسس على إيران، وضمان وجود قاعدة كبيرة لجهاز “الموساد” تستغل القرب الجغرافي من إيران في إجراء عمليّات تجسس وتنصت ومراقبة داخل الأراضي الإيرانية، حتى أن الإيرانيين يربطون بين تصاعد العمليات الأمنية التي إستهدفت منشآتهم النووية في السنتين الماضيتين وبين البنى الأمنية والإستخباراتية الإسرائيلية التي صارت راسخة البنيان على أراضي أذربيجان.
كما أن الاتفاق الروسي – الأذري – الأرميني لوقف الحرب الأذرية ـ الأرمينية في العام 2020، جعل موسكو ضابط الإيقاع الأبرز للتوازن العسكري الجديد الذي شمل فتح ممر ميغري بين أذربيجان وإقليم ناخشيفان في موازاة حدود إيران، وهذا المعبر يربط أذربيجان بتركيا ويوصل الأخيرة إلى بحر قزوين، وقد يتطور ليحرم ايران من التواصل الجغرافي مع حليفتها ارمينيا وتاليا قد يقطع عليها طرق الامداد لخطوط الغاز والنفط عبر الاراضي الارمينية في اتجاه الشمال والغرب.
وتسببت الحرب الاخيرة في قره باخ بصداع لطهران، اذ تفادت الأخيرة اظهار إنحيازها لحليفتها يريفان، خشية اغضاب الاذريين الايرانيين الذين يشكلون نحو ربع سكان ايران، وبالتالي من شأن ذلك إعادة نبش مطالب الأقلية الأذرية في إيران، الحاضرة في إدارات الدولة الإيرانية، إضافة إلى البازار.
وكان لافتاً للإنتباه أن إنتصار أذربيجان على أرمينيا في قره باخ قوبل باحتفالات كبيرة من جانب الأذريين الإيرانيين الذين خرجوا في تظاهرات في مدن إيرانية عدة للتعبير عن دعمهم لاذربيجان، وللمطالبة باغلاق الحدود الإيرانية – الأرمينية. وتعتبر تبريز وأرومية من المدن الأذرية الكبرى في إيران، إلى درجة أن البعض يشير إلى هذه المنطقة ليس باعتبارها شمال إيران، وإنما جنوب أذربيجان. لذا تحاول السلطات الإيرانية الحد من أي أمر يؤدي إلى تصاعد المشاعر القومية في صفوف الأذريين الإيرانيين.
كما ان ايران قبلت على مضض بوقائع جيوسياسية فرضتها نتائج الحرب التي كانت سببا في استعادة تركيا دورها الكبير في منطقة ما وراء القوقاز، على حساب مصالح الأمن القومي الإيراني والتطلعات الايرانية في هذه المنطقة.
ومنذ أن نالت أذربيجان استقلالها عام 1991، لم تتكيف طهران مع الخيارات السياسية الجديدة لباكو لا سيما انفتاحها على الغرب واسرائيل، ما أعاد إنتاج حساسيات تاريخية بين البلدين، تراكمت منذ اتفاقية كلستان عام 1813 ومعاهدة تركمان شاي عام 1828 ما بين روسيا القيصرية وإيران القاجارية بعد حربين هزمت فيهما إيران على يد روسيا، وأدتا إلى خروج إيران من القوقاز. فبموجب المعاهدتين تنازلت إيران عن أذربيجان وأرمينيا وجورجيا وداغستان لصالح روسيا وباتت حدود جنوب نهر آراس، واحتفظت بالمناطق الأذرية في الشمال الغربي لإيران حيث اجرت أواخر ايلول/سبتمبر المنصرم مناورة عسكرية للمرة الاولى منذ 30 عاما، وهي المناورات التي استدرجت مناورات مضادة.
كانت قضية قره باخ حتى وقت قريب، تشكل عقبة أمام جهود التعاون بين الدول المختلفة في هذه المنطقة. اليوم، يمكن ان تفتح هذه القضية افاقا جديدا للتعاون الاقليمي على غرار ما يحصل في سوريا بين الاعداء – المتحالفين بموجب تفاهمات الاستانة.
ومنذ سنوات عدة انبثقت منصات عديدة للتعاون الاقليمي والدولي، لعل أبرزها إنشاء آلية الاجتماعات التركية ـ الإيرانية ـ الأذرية الثلاثية على مستوى وزراء الخارجية منذ العام 2010. واقترحت تركيا فكرة صياغة إطار للتعاون بين ستة أطراف هي بالإضافة إليها كل من أرمينيا، جورجيا، أذربيجان، روسيا وإيران. وتحدث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال إستقباله نظيره الإيراني عن إمكانية إنشاء صيغة “3+3” بمشاركة أرمينيا وأذربيجان وجورجيا + إيران وروسيا وتركيا، على أن تتولى روسيا مهمة التنسيق بين المجموعتين.
ومع ذلك يصعب تقويم العلاقات بين طهران وباكو بشكل دقيق بسبب تداخل المؤشرات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية في ظل تعقد المشهد الإقليمي والعالمي؛ لا سيما في اقليم شكل في الماضي قبلة انظار الإمبراطوريات الفارسية والعثمانية والروسية القيصرية وخليفتها الروسية السوفياتية، وعاد اليوم محط اهتمام العواصم الثلاث موسكو وانقرة وطهران التي تطمح كل واحدة منها الى استعادة امبراطوريتها المندثرة.
غير أن المستجد الأبرز حالياً هو اتساع خريطة القوقاز السياسية ورقعة اللاعبين فيه لتشمل كل المعنيين بالسباق الدولي على الطاقة وخطوط امدادها، لا بل صارت هذه الخريطة جزءا لا يتجزأ من رقعة الشرق الاوسط الذي يشهد إشتباكاً واسعاً بين اميركا وايران.
بهذا المعنى، لا تصبح محاكاة أذربيجان نسبة إلى ما تملك هي من جيش وترسانة سلاح وممرات حيوية، على أهميتها، ذلك أن أي مقارنة ستعطي العلامة الأفضل للإيرانيين. أذربيجان تتمتع بدعم تركي وإسرائيلي وباكستاني وأميركي هو الذي يوفر توازن الرعب القائم حالياً. الخشية كل الخشية أنه إذا استمرت حرب التطويق المتبادلة بين طهران وتل ابيب من البحر الأبيض المتوسط إلى بحر قزوين، فإن مآلات هذا الصراع ستؤثر على المعادلات التي يجري رسمها تمهيداً لتأسيس نظام اقليمي جديد غير منفصل عن نظام عالمي قيد التشكل.
بوست 180-أمين قمورية
اقرا ايضاً :نهاية مؤلمة لطبيب سوري في تركيا