خطورة كمين الطيونة.. لبنان إلى أين؟
علي فواز
تتزامن أحداث كمين الطيّونة في بيروت مع تطوّر غير عادي طرأ على المشهد الميداني في سوريا. عند منتصف ليل الأربعاء الخميس تقريباً، استهدف عدوان إسرائيلي جوي منطقةَ تدمر في ريف حمص الشرقي، وفق وكالة “سانا”، انطلاقاً من منطقة التنف.
لم يمرَّ هذا الاستهداف كسابقه، قبل أسبوع تقريباً، عندما ذكرت وكالة “سانا” أن الدفاعات الجوية السورية تصدّت لأهداف معادية حاولت الوصول إلى مواقع في محيط مطار “تي فور”. كما لم يمرّ، كما حصل في اعتداءات سابقة جرت خلال شهور تموز/يوليو، وآب/أغسطس، وأيلول/سبتمبر/ الماضية. نقلت وكالة “يونيوز”، هذه المرة، عن قيادة غرفة عمليات “حلفاء سوريا”، أنّها “اتَّخذت قراراً بالرد القاسي على العدوان على تدمر”. بيان يحمل مؤشرات على حدث ما تخطّى قواعد المواجهة المقبولة، ولم تتضح بعدُ كلُّ تفاصيله، لكن سرعان ما باركته فصائل فلسطينية مقاوِمة، في إشارة لافتة.
وكيلة وزارة الخارجية الأميركية، فيكتوريا نولاند، الموجودة في بيروت منذ الأربعاء، كانت تلتقي، في موازاة هذه الأحداث الساخنة في لبنان وسوريا، الرؤساءَ اللبنانيين الثلاثة، بالإضافة إلى مسؤولين آخرين وممثلين عن منظَّمات المجتمع المدني.
هل من رابط بين الأحداث الثلاثة؟
الصِّلة ليست مباشِرة في المعنى الحدثي المباشِر، إلاّ أنها تتقاطع جميعها في الإطار العام للمواجهة الاستراتيجية بين محور المقاومة والمحور الأميركي – الإسرائيلي وملحقاته، وهي مواجهة مستمرة عبر وسائل متعدِّدة، باءت فيها المشاريع الأميركية والإسرائيلية بفشل متفاوت، بما فيها الخطط والتوقعات التي أعقبت الانهيار الاقتصادي في لبنان، حيث عرين المقاومة، التي باتت تشكّل، باعتراف “إسرائيل”، تهديداً وجودياً لها.
المواجهة في السنوات الأخيرة باتت تدور في مستويات متعددة، وعلى نحو متوازٍ. فبالإضافة إلى الأدوات العسكرية والأمنية، والتي برزت تجلياتها في “الربيع العربي” وظهور “داعش” في المنطقة، تبرز اليوم أدواتٌ أمنية، واقتصادية، وسياسية، وثقافية، وحربٌ ناعمة، وتأثيرٌ في الرأي العام بصورة متزامنة. وما يحدث في لبنان شاهد على ذلك.
لقد دخل لبنان، منذ بدء حراك 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، مرحلة جديدة، وفق المنظورَين الإسرائيلي والأميركي. مرحلة جرى التعويل فيها، وفق ما عكسته مراكز أبحاث إسرائيلية وأميركية، على استنزاف المقاومة، وتطويقها، وخنقها، وتوريطها، عبر سلسلة إجراءات متوازية، وصولاً إلى فرض ما أمكن عليها وعلى البلد من سياسات وشروط والتزامات، تحت عنوان المساعدة على إنقاذ لبنان من أزمته الاقتصادية. حتى الآن، فشل عددٌ من التوقعات الأميركية والإسرائيلية، وخصوصاً بعد خطوة البواخر الإيرانية التي أقدم عليها حزب الله، إلاّ أن ذلك لا يُقلّل من أهمية وخطورة الأدوات والأوراق التي ما زالت في يد واشنطن وحلفها.
في هذا السياق، لم يَرِدْ حديث نولاند، خلال زيارتها الرئيسَ ميشال عون صباح الخميس، من خارج المتوقَّع، بحيث لفتت إلى أن واشنطن “تتمنى، بعد تشكيل الحكومة، أن يجري العمل على تحقيق الإصلاحات وإجراء الانتخابات النيابية”.
عبارتان مفتاحيتان في حديثها تعكسان النِّيّات والتوجهات التي تعمل عليها واشنطن إزاء لبنان: “الإصلاحات” و”الانتخابات النيابية”.
“الإصلاح”، وَفْقَ المفهوم الذي تقدمه نولاند، ليس إلاّ محاولة رهن البلاد لشروط المؤسَّسات الواقعة تحت تأثيرها وهمينتها، أي صندوق النقد والبنك الدوليَّين، بالإضافة إلى الدول الدائرة في فلكها، وتجريد المفاوض اللبناني من أيّ أوراق قوة أو خيارات موجودة. وهي خيارات لا تحتاج إلاّ إلى إرادة سياسية وقرار سيادي من أجل تفعيلها. من ذلك، إبقاءُ كل الخيارات مفتوحةً على ما يحقّق مصلحة لبنان في ما يتعلق باستخراج الغاز، وإعادة بناء مرفأ بيروت، والاستثمار في بناء معامل كهرباء، وغيرها من الملفات والمشاريع.
أمّا “الانتخابات النيابية”، فليس خافياً أنها باتت تمثّل محطة تعوّل عليها واشنطن من أجل إحداث تغيير في شكل البرلمان اللبناني وهويته، بهدف نزع الشرعية عن المقاومة، شعبياً ورسمياً، استكمالاً لتطويقها.
هذه اللعبة تتنبَّه لها، من دون شكّ، الأطرافُ اللبنانية، ومن ضمنها المقاومة. وفي الآونة الأخيرة بدأت تتزايد المؤشرات على ارتياب مشروع انطلاقاً من مسار التحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، غايته ربط حزب الله في هذه القضية نفسياً وذهنياً وسياسياً لتحقيق مكاسب في حسابات صناديق الاقتراع، وربما بما يتجاوزها على صعيد تسعير الخطاب ضد المقاومة. إحداث التغيير في خريطة الأغلبية النيابية، وهي اليوم لمصلحة المقاومة، ليس إلاّ أحدَ المسارات التي تسير، على نحو متواز، داخل الدائرة اللبنانية غير المنفصلة عن دوائر المنطقة.
الكمين الأمني الذي أُعِدَّ الخميس في منطقة الطيونة هو محطة أخرى بعد محطة كمين خلدة، هدفه استدراج المقاومة إلى فخ الفتنة من أجل استنزافها، أو على أقل تقدير الإمعان في تشويه صورتها.
خطورة ما حدث عبّر عنه وزير الداخلية بسام مولوي، من خلال قوله إن “سقوط ستة شهداء من طرف واحد يُنذر بأمور خطيرة”، لافتاً إلى أن إطلاق النار على الرؤوس “أمر جديد وخطير، ولا يمكن أن يتحمَّله أحد”. تصريحات ترافقت مع ما نقلته مصادر طبية لـ الميادين، ومفادها أن إصابات الشهداء طال معظمُها المناطقَ العلوية من الجسم، أي كانت بغرض القتل.
في الشكل، حمل خطاب السيد حسن نصر الله الأخير ما يكفي للدلالة على خطورة الوضع، انطلاقاً من مسار التحقيق في تفجير مرفأ بيروت، والأهداف المبيَّتة والمخطَّط لها، والتي يُراد الوصول إليها بواسطته. أمّا في المضمون، فيشير متابعون إلى معطيات ومعلومات، مفادُها أن الأصابع الأميركية غير بعيدة عن توجيه ملف التحقيق، وأخذه إلى اتجاهات لا تنفصل عن المواجهة التي تخوضها أميركا و”إسرائيل” في الساحة اللبنانية، بموازاة أدوات الضغط الاقتصادية والشعبية والسياسية والأمنية.
الاستثمار في الواقع اللبناني أمر متوقَّع، ولا تُخفيه “إسرائيل”، وهو لا يحتاج إلى كثير من العناء للتوصل إلى الخيوط الأميركية فيه. ما يحدث اليوم هو خطوة من مجموعة خطوات منتظَرة ومتوقَّعة حتى موعد الانتخابات النيابية. لكن، بمعزل عما يمكن أن تذهب إليه أميركا لاحقاً، فإن ما لا يغيب عن المشهد هو حقيقة الجغرافيا والوقائع التي تحجبها أحياناً سُحُبُ “السوشال ميديا”، وحملات التشويه والتضليل، ومحاولة توجيه الرأي العام. أميركا تلعب في النهاية في غير ميدانها، وفي غير أرضها، والأوراق والخيارات لا تنحصر في يدها فقط.
النظر إلى الحدث اللبناني من منظور أوسع يشير إلى أن انحسار دور الولايات المتحدة في المنطقة يدفعها إلى البحث عن بدائل عن الحرب المباشِرة. وهذا الأمر ينطبق، بصورة أساسية، على “إسرائيل”. وإذا كانت هناك محاولات للاستثمار في الواقع اللبناني، فإن محور المقاومة اليوم في حالة صعود تثير قلق “إسرائيل” في المنطقة، وآخر تجليات هذا الصعود ما نقلته وسائل إعلام إسرائيلية في الساعات الأخيرة، على هامش زيارة وزير خارجية الاحتلال يائير لابيد لواشنطن، وفيه أن الولايات المتحدة ليست مستعدة للاستماع إلى الحديث عن خيارات عسكرية ضد إيران، وأنها رفضت طَلَبَ لابيد تحديدَ موعد أخير لطهران من أجل العودة إلى الاتفاق النووي.
الميادين