جولة “الدستورية” السادسة: ما يحصل في جنيف يبقى في جنيف؟
تشير مجريات هذه الجولة إلى أن عمل اللجنة المصغرة سيغدو من الآن فصاعدًا عملًا تقنيًا بحتًا ينحصر في صياغة دستور أو إنتاج إصلاح دستوري وفق التسمية التي اعتُمدت أخيرًا، وبمعزل عن المجريات الميدانية المرشحة لتطورات قريبة.
تنتهي اليوم الجمعة (22 تشرين الأول/أكتوبر) في جنيف “الجولة الصفر” من اجتماعات اللجنة المصغّرة المنبثقة عن اللجنة الدستورية السورية.
تبدو الجملة السابقة مناسبةً تمامًا لتوصيف الحدث، برغم ما تحمله من خطأ ظاهر. فالجولة هي السادسة باعتبار عدد مرات الانعقاد، غير أنّها عمليًّا الأولى التي تشهد جهدًا حقيقيًا للوصول إلى نتائج، مهما كانت بسيطة.
وتشي كواليس الاجتماعات – الرسمية والجانبيّة – بجملة من التطوّرات المهمة، لعلّ أبرزها وجود توافقٍ بين معظم اللاعبين الخارجيين على اختصار تدريجي للعملية السياسية برمّتها، وصولًا إلى الاكتفاء بمُخرج وحيد في نهاية المطاف هو “الإصلاح الدستوري”. صحيح أن التأكيدات مستمرة على أن المسار الدستوري هو مجرّد جزء من العملية السياسية، غير أن مجريات الملف السوري بالعموم – لا سيما في العام الأخير – توضح بما لا يحتاج نقاشًا أنّ العملية السياسية المقصودة إنما هي في الدرجة الأولى تفاهمات اللاعبين الخارجيين، واتفاقاتهم، ومن ثم ما يلي ذلك من مجريات “سوريّة”.
في المجريات، بدا واضحًا أن الوفدين الأساسيين جاءا إلى جنيف هذه المرة ولدى كلّ منهما من النوايا ما يكفي لتجاوز كل مسببات “الشجار”، خلافًا لكل الجولات السابقة التي درجت العادة فيها على وجود وفدٍ على الأقل يرغب في انتهاز أي فرصة، أو خلقها، لتوتير الأجواء.
وبرغم أن الجلسات شهدت خلافات حول كثير من التفاصيل، فإن أساليب التعبير امتازت بدرجة معقولة من الدبلوماسية، ما أتاح الفرصة لامتصاص التوترات – على كثرتها – والمضيّ في جدول الأعمال الذي توافق عليه الرئيسان المشتركان، مع المبعوث الدولي.
ومن بين ثمانية أعضاء من الوفود الثلاثة تحدث إليهم “أوان”، رأى ستة أعضاء أن المعطيات العامة “إيجابية”، فيما رأى اثنان وجوب التريّث قبل إعطاء أي “حكم متسرع”.
خصصت جلسات الجولة السادسة لمناقشة مبادئ دستورية قدمتها الوفود الثلاثة، فنوقشت مبادئ اقترحها الوفد المسمى من قبل دمشق، أهمها: السيادة ومواجهة المشاريع الانفصالية وشبه الانفصالية، والتأكيد على دور قانون الإدارة المحلية، والتأكيد على أن سوريا جزء من الوطن العربي وتسعى لتحقيق الوحدة العربية، واحترام الدولة للقانون الدولي وقيم الحق والعدالة، إضافة إلى التزام الدولة مواجهة الإرهاب والفكر المتطرف، واعتبار الجيش مؤسسة وطنية مسؤولة عن حماية الوطن من الإرهاب والاحتلال.
في المقابل نوقشت مبادئ اقترحها وفد المعارضة، على رأسها: بناء الجيش والمؤسسات الأمنية بطريقة احترافية بعيدًا عن الاستقطابات والاصطفافات. فيما قدّم الثلث الثالث (وفد المجتمع المدني) ورقة تمحورت حول مبدأ سيادة القانون، وكفالة الحريات وتكافؤ الفرص.
ومن المنتظر أن تستكمل المناقشات اليوم الجمعة قبل أن تُختتم الجولة.
وإذا ما قُيض لليوم الأخير أن يكتمل بلا مفاجآت (وهذا المرجح)، سيعُد ذلك نجاحًا في تجاوز عدد من الفِخاخ التي كانت كفيلة بإفشال الجولة بأكملها فيما لو سارت الأمور على مِنوال الجولات السابقة، وعلى رأس تلك الفخاخ الأحداث الأمنية والعسكرية، من القصف الذي استهدف أريحا (ريف إدلب) إلى تفجير دمشق الإرهابي، مرورًا بالمؤشرات المتزايدة على عمليات تركية وشيكة قد تستهدف مدينة تل رفعت (ريف حلب الشمالي)، وأخرى للجيش السوري على محور جبل الزاوية بغية السيطرة على أوتوستراد حلب اللاذقية (M4).
المسار ليس دوليًّا، بل هو مسار ثلاثي جوهريًّا (روسي، تركي، إيراني)
يؤشر هذا في الدرجة الأولى إلى أن عمل اللجنة المصغرة سيغدو من الآن فصاعدًا عملًا تقنيًا بحتًا ينحصر في صياغة دستور (أو إنتاج إصلاح دستوري وفق التسمية التي اعتُمدت أخيرًا)، وبمعزل عن المجريات الميدانية المرشحة لتطورات قريبة. عمليًّا، يخدم هذا “العزل” المسار الدستوري، غير أنه يتضمن إقرارًا بأن الميدان هو صاحب الكلمة الفصل في ظل اقتصار التواصل “السوري-السوري” على ما تشهده جولات اللجنة الدستورية، وانعدام أيّ نشاطٍ دولي جامع يتناول الحل السياسي.
يُستثنى من ذلك “مسار أستانة” الذي يُعد بامتياز أكثر المسارات قدرة على إحداث تغيرات جوهرية في المشهد السوري حتى الآن، مع الأخذ بالاعتبار أن هذا المسار ليس دوليًّا بمعنى التشميل، بل هو مسار ثلاثي جوهريًّا (روسي، تركي، إيراني). ولم يكن مستغربًا حرص الدول الثلاث على عقد اجتماع على هامش أعمال “الدستورية”، مع ما يشكله ذلك من إشارات على مركزيّة “مسار أستانة” وضامنيه في المسار الدستوري.
ثمة ملاحظات عديدة يمكن تسجيلها في ما يخص جولة “الدستورية”، منها أن سير العمل وفق الوتيرة ذاتها يعني أن إنجاز مهمة اللجنة بالكامل سيتطلب شهورًا طويلة، وربما أعوامًا، مع ما يعنيه ذلك من احتمالات العودة إلى النقطة الصفر في أي لحظة، نظرًا لكثرة اللاعبين القادرين على التأثير في العملية وأجوائها. يعزز ذلك أن أداء المبعوث الدولي غير بيدرسون يتّسم بالفتور بشكلٍ عام، وبانسحاب جهوده شيئًا فشيئًا ليتحول إلى ميسّر للجنة الدستورية. يُضاف إلى ذلك أن منصب المبعوث في حد ذاته قد يكون على موعد مع تغيير ما، تفرضه المستجدات السياسية الإقليمية.
ويجدر التساؤل هنا عن الدور الذي قد تلعبه جامعة الدول العربية في الملف السوري إذا ما شهدت الشهور القادمة عودةً سوريّة متوقعة إلى مقاعد الجامعة. ومن بين الاحتمالات المرجحة في هذه الحالة أن تعود الجامعة إلى خط «الحل السياسي»، مع ما قد يتطلبه ذلك من تشكيل لجنة متابعة، أو تعيين مبعوث، أو التوافق مع الأمم المتحدة على اختيار مبعوثٍ مشترك كما كان الحال عليه قبل تعليق عضوية سوريا في الجامعة.
الأهم من ذلك هو الطريقة التي سيستمر وفقها عمل اللجنة في حال حدوث مستجدات ميدانية كما يُرجح، فهل ستنعقد جولة أخرى بالتزامن مع عمليات عسكرية يطلقها الجيش السوري وحلفاؤه في إدلب؟ أو عملية تركية في الشمال السوري؟ وإذا ما انعقدت بالفعل، فهل ستنجح في تجاهل ما يدور خارج أسوار جنيف؟ وإن كان محتّمًا انتظار مآلات أي عملية على الأرض قبل انعقاد جولة جديدة، فمن يضمن أن الجولة السابعة ستبني على القليل الذي يُفترض أن يُنجز في نهاية الجولة السادسة؟ أم أن ما حصل في جنيف، سيبقى في جنيف؟
أوان -صهيب عنجريني
اقرأ ايضاً:أمريكا: تصدير الغاز المصري عبر سوريا إلى لبنان غير مشمول بالعقوبات