مسؤول سوري كبير يكشف خبايا الانفتاح العربي على سوريا
ديما ناصيف
كان الخريف الأكثر طمأنينة الذي تشهده دمشق منذ 10 سنوات، لولا التفجير الذي استهدف حافلة مبيت عسكرية في نقطة “جسر الرئيس” الحيوية، لكن التفجير لم يؤثر في تدفق السوريين اليومي إلى أعمالهم. تجاوزوا مظاهر الحرب إلى همومٍ أخرى لا تقل ضراوة. معظمهم يقول ذلك. الهمّ المعيشيّ اليومي يهيمن على أحاديثهم في وسائل النقل والمطاعم والمقاهي والبيوت والحدائق العامة، لكن مزاج القلق المشروع بدأ يتعدّل بشيء من التفاؤل بتحسّن الوضع الاقتصادي. الحرب أكسبت السوري قدرة على ربط الأزمات واستشراف ملامح حلولها. ومن أبرز هذه الملامح التي انتظرها كثيرون، انفكاك العزلة والحصار عن سوريا شيئاً فشيئاً.
الاتصالات مع الأردن بدأت قبل عام، وبشكل تدريجي، وهي ليست جديدة
حين أعلن الديوان الملكي الأردني، أولًا، عن الاتصال بين الرئيس السوري بشار الأسد والملك الأردني عبد الله الثاني، كان بديهياً الاعتقاد أنه الاتصال الأول بين الرجلين بعد 10 سنوات من الحرب السورية، لكنه لم يكن كذلك. “الاتصالات الأردنية السورية على مستوى القيادة بدأت قبل عام. وقبلها وخلالها، زار أكثر من مبعوث ملكي القصر الرئاسي. لم يكن الوقت مناسباً للأردن للإعلان عن التواصل مع سوريا، وصار اليوم مناسباً”.
بهذه الكلمات، كشف مسؤول سوري كبير تفاصيل محطات التواصل بين دمشق وعمان حتى لحظة إشهاره، مع ما حمله ذلك من إشاراتٍ إيجابية.
يتداول السوريون نكتة مستوحاةً من واقع الهجرة الناتجة من تداعيات الحرب. تقول النكته: عندما يستيقظ السوري يوماً، لن يستغرب إذا عرف أن شخصين من معارفه على الأقل باتوا في الإمارات العربية المتحدة. للأخيرة خصوصيتها بالنسبة إلى السوريين، وخصوصاً أن العلاقات لم تنقطع خلال الحرب، وعادت لتتعزز بعدها على مستويات شتّى، المعلنُ منها ليس كلّها، كما هو الحال مع الجارة الجنوبية لسوريا، أي الأردن.
عودة التواصل على خطّ دمشق – عمّان من دون أي عرقلة أميركية، عكست وجود مراجعة بنيوية عربية في مسألة التواصل مع سوريا. بالعين الواقعية، الأمر مهم لسوريا وباقي العرب، لكنّ ذلك لم يمنع أسئلة تُطرحُ على نحوٍ بديهي أيضاً، كالسؤال عن خلفيات العودة العربية في ظلّ موجة تطبيع هيمنت على جزء من المشهد الإقليمي.
أي انفتاح عربي على سوريا لن يغير من موقفها من التطبيع، مهما كانت نيات الدول العربية
هل الاتصالات السورية الأردنية تشكّل جزءاً من مخطط على مراحل لسحب سوريا، بلحاظ أوضاعها الاقتصادية الخانقة، نحو فلك التطبيع، أو بالحد الأدنى تحييدها مع الوقت عن معادلة المواجهة مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، وخصوصاً أن الدولتين اللتين أعلنتا هذا الانفتاح هما من القسم العربي المطبّع؟
“أي انفتاح عربي على سوريا لن يعدل موقفها من “إسرائيل”، بمعزل عن نيات الدول العربية”، يجيب المصدر السوري الرفيع، مستبقاً الحديث عن هواجس تبدو واقعية من انفتاح قد يجعل دمشق رهينة شروط سياسية، بذريعة التخفيف من وطأة العقوبات الاقتصادية.
بعض الخطوات التطبيعية العربية الأخيرة تقول بذلك، كالحالة السودانية، إذ كان الإفقار سبباً رئيسياً في ذهاب الخرطوم نحو تلك الخطوة. يكرر المسؤول الكبير رفض هذه المقاربة من الزاوية السورية قائلاً: “سوريا لم ولن تغير موقفها من التطبيع، وهي تعتبره خطأ. وقد أضر بمصالحها ومصالح الشعب الفلسطيني، ودعم الموقف الاسرائيلي على حساب المصالح العربية. أي تغيير في الموقف السوري تجاه “إسرائيل” سيعني التنازل عن الحقوق، وهو أمر غير مطروح وغير ممكن بالنسبة إلى سوريا”.
الدول العربية راغبة في تحسين علاقتها مع إيران بسبب فقدانها الثقة بالسياسة الأميركية وتقلّباتها
ماذا عن إيران؟ يشدد المسؤول الكبير على أنها “لم تُذكر نهائياً في أي حوار مع أي دولة عربية أخيراً، وهذا يختلف عما كان عليه الوضع قبل سنوات، إذ كانت العلاقة مع طهران هي مشكلة العرب في العلاقة أو في نقاش العلاقة مع سوريا”. الأولويات تغيرت إذاً؟ هذا ما يؤكده المسؤول السوري الكبير للميادين قائلاً: “أولوياتهم تغيرت بسبب فشل المشروع الأميركي في سوريا من جهة، وانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان من جهة أخرى”. ويبدو المصدر السوري مرتاحاً للرغبة العربية في تحسين العلاقات مع إيران للأسباب السابق ذكرها، وما يعنيه أكثر هو “أن الدول العربية فقدت الثقة بقدرة الولايات المتحدة على تحقيق أهدافها أو الثبات في سياساتها تجاه الإقليم”.
هذه الطمأنينة تسري أيضاً على الواقع الشعبي، رغم الإقرار بوجود مزاج شعبي أو رأي متساهل تجاه التطبيع لدى فئات محددة، على اعتبار أنه الحل للأزمات الخانقة. عاش السوريون المقيمون شعوراً متناقضاً خلال الصيف الماضي؛ عاشوا شيئاً من الفرح بعشرات الطائرات التي أعادت إلى مدارج مطار دمشق الدولي صخباً أفقدته إياه الحرب، وأقلّت عشرات آلاف السوريين المهاجرين الذي عادوا لقضاء عطلهم الصيفية في سوريا، وشيئاً من الاستغراب الذي يتحول إلى حنق أحياناً، للفارق الهائل في مستوى المعيشة بين معظم المقيمين ومعظم المهاجرين.
التوازن السابق للحرب بات مفقوداً، ولا واقعية في الحديث عن إعادته، بل ربّما بإعادة إنتاجه بأشكال مختلفة، كأن يعود قسم من المهاجرين للاستثمار والعيش في بلدهم مجدداً. هذا الأمر ما زال مستبعداً في المدى المنظور، رغم أن قسماً من المهاجرين لم يخفِ رغبته في أن تكون عطلة الصيف فرصة لاستكشاف آفاق الاستثمار الاقتصادي، تمهيداً للعودة الدائمة إلى البلد. الخلاصات بمعظمها ربطت بين استقرار الاقتصاد السوري وهذه العودة.
التغيير في الموقف السوري سيعني التنازل عن الحقوق، وهو أمر غير مطروح وغير ممكن بالنسبة إلى سوريا
يدرك السوريون أكثر من غيرهم أن بلادهم قبل الحرب وبعدها تلقّت عروض التطبيع مقابل تحسين الأوضاع الاقتصادية. وإذا كان الرفض الرسمي ما زال على حاله، فإن ذبذبات دافعها الفقر بدأت تتردّد بأن التطبيع قد يكون مقبولاً إن كان شرطاً لرفع الحصار الخانق!
هنا، يجيب المسؤول السوري الكبير بأن “هذا الأمر طبيعي، لكنه موجود بنسبة قليلة في المجتمع السوري، كما أن نماذج التطبيع في العالم العربي لم تقدّم للشعوب العربية الرفاهية والازدهار، بل نقلتها من سيئ إلى أسوأ، باستثناء دول الخليج الغنية أساساً. حالة مصر تؤكد أن التطبيع الشعبي غير ممكن بعد 40 عاماً من اتفاقيات كامب ديفيد”، يجزم المسؤول الكبير، ولا يجد حرجاً في الإسهاب أكثر: “سوريا لن تحيد عن جبهة الصراع مع “إسرائيل”، ولن تنجرّ إلى تحالفات لا تتناسب مع مصالحها وثوابتها، ولا تزال ترى أن المسؤولية الكاملة في التطبيع تقع على الطرف الفلسطيني، الذي طبع من خلال اتفاقية أوسلو، وأعطى الآخرين مبرر التطبيع، باعتبار أن الفلسطيني صاحب القضية قام بذلك، فلماذا لا يقوم به الآخرون؟”، لكنّ آخرين، وسوريا منهم، لهم كلام آخر، خلاصته استثمار الممكن والمطلوب من العلاقات العربية العائدة، من دون المساس بثوابت الصراع والموقف السوري المقاوم، وهذا ممكن جداً، بشهادة سنوات الحرب الماضية.
الميادين