الجمعة , أكتوبر 25 2024

محمد علي بدير.. سوري أضاء بيوت الأردنيين

محمد علي بدير.. سوري أضاء بيوت الأردنيين

بمبلغ 100 جنيه فلسطيني، اشترى الاقتصادي السوري الحاج محمد علي بدير عام 1937، رخصة الكهرباء من بهجت صادق محي الدين السعودي، لتبدأ بعد عام من شرائه الرخصة، قصة الكهرباء في الأردن.
تعود علاقة عائلة بدير بالأردن لِما قبل الحاج محمد علي (أبو الكهرباء)، حيث زارها وأقام فيها زمناً والده الحاج عثمان نهايات القرن التاسع عشر، وتحديداً سنة 1893.
وأمّا اللافت فهو أن أسرة بدير من الجد للابن للحفيد، لم تنقطع أواصر ارتباطهم بدمشق نهائياً، خصوصاً كلما كانت تقترب ولادة أحد أفراد الأسرة الممتدة؛ فحين حان وقت ولادة (محمد علي) نجل الحاج عثمان، عاد إلى دمشق حيث وُلد هناك في عام 1909، الابن الذي منحه والده اسماً مركباً “محمد علي”، وعلّمه أصول التجارة، وممكنات الربح المدروس، فإذا بالحاج الدمشقيّ العمّاني المؤسس، يصبح من ألمع أبناء أبيه عقلية اقتصادية، ويطعّم مشاريعه الاقتصادية ببهارات مغامرة ساحرة، ما كان سيتصدى لمشروع ضخم مثل إنارة عمّان والأردن بعد ذلك، لولا هذه النزعة المغامرة، ولكن عميقة الوعي في الوقت نفسه.
وعلى المنوال نفسه، فإن دمشق ظلت حصن الأسرة عندما يتعلق الأمر بالزواج والأولاد والسلفات والحموات والكناين. وإليها عاد الحاج محمد علي عندما قرر عام 1931 الزواج وهو بالكاد بلغ الثانية والعشرين من عمره. وإليها أعاد حرمه عندما حان موعد وضع مولودهما الأول عصام عام 1932. أما سنة ولادة ابنه الثالث عثمان بعد عصام وعمر (من الواضح أن محمد علي لم يكن بكر أبيه، وإلا لكان منح اسم والده عثمان لبكره عصام)، فقد كانت سنة خير على أحد أركان الاقتصاد الأردني ومداميكه الكبرى الرئيسية. ففي ذلك العام، 1938، أسس الحاج محمد علي بدير شركة الكهرباء الأردنية المساهمة العامة المحدودة.
حدث مفصليّ في مسيرة إمارة كانت ما تزال تتلمس موطئ وجودها في المحيط حولها، وما تزال تتهجى عناوين المدينة المعاصرة القادرة على توديع الريف والبادية إلى غير عودة.
مدنية لم تمتد لتعم وتطال البلد جميعه، وتصل أطرافه النائية المتمسكة، بقيت، ببداوة صحاريها، تلك البداوة التي منحت عشائر وقبائل وحمايل، امتيازات كبرى عند الأمير عبد الله الأول الذي صار ملكاً بعد تأسيس بدير شركة الكهرباء بثمانية أعوام، وتحديداً في العام 1946، عندما سافر الأمير إلى بريطانيا وتفاوض على استقلال الأردن من الانتداب البريطاني، وعاد بعد زهاء 130 يوماً يحمل معه ربحيْن غاليين: استقلال الأردن وتنصيبه ملكاً. إنها امتيازات وقوفهم مع حملة شعلة الثورة العربية الكبرى، وتنفيذهم في معان والطفيلة وغيرها، عمليات نوعية ضد العثمانيين، منها تفجير سكة حديد الحجاز عام 1916.
اقتصاد البدايات..
اعتمد اقتصاد بدايات الأردن بشكل رئيسي على فراسة رجال جاؤوا من سورية وفلسطين والقفقاس والحجاز، أدركوا أن أي مشروع يسبقون إليه، هو من مشاريع الريادة، في بلد ناشئ جديد، وفي إمارة/ دولة أعلن عن انطلاقها عام 1921. هذا ما فعله صبري الطباع، وقد كان موضوع تقرير سابق، وما فعله آل ملحس، وعائلة شومان الآتية من فلسطين، وآل منكو، وما فعله بعد ذلك إيليا نُقُل مطالع خمسينيات القرن الماضي.
في هذا السياق شرع الحاج محمد علي بدير حوض بحار الاقتصاد في الدولة الناشئة من أوسع أبوابه. فافتتح في العام 1927، أول محل يديره وحده عندما بالكاد بلغ سن الثامنة عشرة، سن التكليف وتوديع الطفولة والمراهقة. لا بد أن والده الحاج عثمان تبنى أيامها إشرافاً من بعيد يمنح الابن، من جهة، ثقة هو بأمسّ الحاجة لها، ويشعره في الوقت نفسه، من جهة ثانية، أنه لا يجدف وحده، ولا يقطع الدروب مكشوفاً في أرض عراء.
المحل الأول كان لبيع مواد البناء، ولم يكن وحده تماماً، هو كان وحده من آل بدير، ولكنه شارك فيه اثنين آخرين: واحد من إدلب وآخر من حمص، ولهذا كان اسم المحل (إدلبي وملص وبدير)، ويبدو أن صغر سنّه جعلهما يضعان اسم عائلته بعد أسماء عائلتيهما.
في العام 1930 افتتح بدير الابن محل نجارة. وفي عام 1931، تشارك مع آخرين في تأسيس شركة التبغ والسجائر الأردنية. طبيعة المشاريع التي انتبه إليها بدير في بلد ناشئ، تعكس القدرة على قراءة اقتصادية عميقة ذكية لمّاحة، فالبناء في حواضر عمّان كان على أشده، وعادة التدخين كانت تنتشر كالنار في الهشيم على مستوى العالم أجمع. كما أن الناس كانوا أيامها يفصّلون غرف نومهم وجلوسهم ومختلف ما يصنعه الخشب، ولم تكن انتشرت بعد ظاهرة استيراد غرف نوم جاهزة من أوروبا أو مصر أو غير ذلك.
أما الالتقاطة الكبرى، فهي إدراكه أن إضاءة العاصمة الناشئة بـ(غلوبات) بهجت صادق محي الدين السعودي الذي كان يشعل، بالتعاون مع أمانة عمّان، قناديل موزعة فوق أعمدة، وكان الوحيد الذي يحمل هذا الترخيص، لم تعد مجدية، فقرر تبني النقلة الكبرى في مسيرته ومسيرة أسرته.
من الكاز إلى الكهرباء..
كانت تلك القناديل تعمل عن طريق تعبئة حوضها الصغير بالكاز، أو أي من مشتقات النفط المناسبة لهكذا مسألة: الكاز، الكيروسين، الديزل وما إلى ذلك. فإذا بالحاج محمد علي يقنع السعودي بيعه رخصة إنارة عمّان، ويحولها بجهدٍ ومثابرةٍ ونبوغٍ مبكرٍ إلى إنارة حقيقية، باستخدام مولّدات كهرباء كبرى، اشترى، أو ربما استأجر، لأجلها أرضاً واقعة في منطقة رأس العين، مساحتها أربعة دونمات، ووضع فيها موتورات توليد الكهرباء التي استوردها، وبدل وضع النفط في القنديل، صار يوضع في قلب الموتور لينبض طاقة، وبدورها، تلك الطاقة، تنبض كهرباء. لحظة تاريخية خرج العمّانيون لأجلها يحتفلون ويتظاهرون هاتفين (الكهرباء.. الكهرباء)، وربما هتف بعضهم، من يدري (بدير أبو الكهرباء).
شركات كثيرة تعاملت مع مختلف مناحي الحياة الصناعية في عمّان كان للحاج بدير دور في تأسيسها، ومن أهمها شركة مصفاة البترول، وشركة الفوسفات، وشركة الأسمنت، وشركة التأمين الأردنية، وشركة الطيران العربية عام 1950. انطلاقة اقتصادية حيوية متدفقة واعدة، جعلته عضواً في مجالس إدارات هذه الشركات والشراكات، أو رئيساً لها. وقد اختاره تجار عمّان عام 1933، عضواً في غرفة التجارة، ومن ثم أميناً لسرّها، ونائباً لرئيسها، قبل أن يتولى رئاسة الغرفة لأكثر من دورة.
رغم عزوفه عن السياسة على عكس مجاييله من مؤسسي الأردن الحديث، خصوصاً السوريين منهم، إلا أن الحاج محمد علي خاض مرّة يتيمة عام 1951، تجربة انتخابات برلمانية، فإذا به يصبح عضواً في أوّل برلمان أردنيٍّ يضم ممثلين عن الضفتيْنِ (الضفة الغربية والضفة الشرقية) بعد إعلان الوحدة بينهما، ويحصد أصواتاً أعلى من سعيد المفتي الذي كان أقنعه خوض الانتخابات.
في المدينة التي أنارها، وعن 88 عاماً، رحل عن دنيانا في العام 1997، الحاج “محمد علي” عثمان بدير، تاركاً أثراً لا يموت ولا ينتهي ولا يستغني عنه الناس، إنه الضوء في كل بيت. فهذا الفتى الدمشقي الذي جاء من عاصمة الأمويين عام 1915، ملتحقاً بأعمال أبيه، ولمّا كان يبلغ أيامها ستة أعوام، نظر بعين بصيرته، فإذا به يرى في المدى الممتد أمامه، أبواب ريادة واعدة صاعدة، فالباحثون عن أبواب الرزق وحده، قد يتسنى لهم نيل خبزهم كفاف يومهم، ولكنهم، أبداً، لن يطرقوا أبواب الريادة.
الشرق الاوسط