رجال بوتين.. هؤلاء هم أعمدة الحكم الروسي
المقرّبون من الرئيس الروسي الذين يؤثرون في أفكاره وقراراته ويساهمون في تمويل عملياته العلنية والسرية
بينما يخطو إلى منتصف عقده الثاني في الحكم، أصبح فلاديمير بوتين فصلاً ضخماً في كتاب التاريخ الروسي.
ها هو يقتحم أبواب أوروبا والعالم بمغامرة تليق برئيس يتمثل القياصرة أكثر مما ينتمي للثورة البلشفية التي هزت العالم في القرن الماضي، وغيّرته كثيراً.
قفزة بوتين المفاجئة تجاه أوكرانيا أصابت العالم بالذهول، واعتبرها الكثيرون حماقة غير مدروسة، وقراراً عاطفياً من رجل لا ينسى انهيار بلاده ذات يوم في صراعها مع الغرب.
كيف اتخذ الرجل قراره إذن؟
ومن رفاقه في الغرف السرية التي يتم فيها اتخاذ القرار المصيري؟
هل هو رئيس سلطوي يفرض رؤاه على مرؤوسيه، أم أنه يعطيهم أذنيه أحياناً؟
منذ وصل إلى عجلة القيادة عام 1999، ظهر بوتين على أنه الرجل الأول والوحيد في المشهد السياسي الروسي.
لا يوجد “رقم 2” حقيقي في روسيا؛ فهناك بوتين فقط.
وفي غياب المنافسة السياسية المفتوحة، نجح بوتين في بناء نظام من الضوابط والتوازنات داخل النخبة.
هناك الجنرالات في الجيش وأجهزة الأمن.
وهناك النخبة الاقتصادية التي تحتكر النفوذ المالي وتتضخّم ثرواتها على مدار الساعة بدعم بوتين نفسه.
وكانت فكرة بوتين أن يصطفي مجموعة من رجال الأعمال الموالين، لكي تشغل مناصب مالية واقتصادية مؤثرة، وتخلق التوازن مع الصقور في المؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات.
في الكتاب الذي عرّف به نفسه للروس لدى انتخابه رئيساً لأول عام 2000، عندما سأله محاوره عن أصدقائه، كتب فلاديمير بوتين: لديّ الكثير من الأصدقاء ولكن القليل منهم مقربون حقاً. لم يخونوني أبداً ولم أخُنْهم.
“رجال بوتين” هم موضوع هذا التقرير، الذي يستعرض في القسم الأول رجال الأعمال المقربين من الرئيس، والمصالح المتبادلة للحفاظ على حرارة العلاقات، التي يتجاوز بعضها الحدود الرسمية، لتصبح صداقات عائلية.
وفي القسم الثاني نقدم الأسماء الثلاثة الكبرى المؤثرة في عقل وقرار بوتين:
– سيرجي شويغو وزير دفاعه وولي عهده المحتمل، والجنرال الوحيد في الدائرة المقرّبة.
– ألكسندر دوغين فيلسوفه السياسي وعقله المدبر.
– يوري كوفالتشوك الملياردير الذي يعتبره كثيرون أمين صندوق بوتين، والرجل الثاني في روسيا.
يحتاج الرئيس إلى تمويل سري لصناديق الحروب..
ويستفيد المليارديرات من معاملة تفضيلية من الدولة
في عام 2020 أصدرت الصحفية الأمريكية كاثرين بيلتون كتاباً بعنوان “رجال بوتين.. كيف استردت المخابرات الروسية روسيا ثم استولت على الغرب؟”.
كتاب يتناول تفاصيل صعود بوتين، وتشكيل جهاز الاستخبارات السوفييتي السابق (كيه جي بي) له، وكيفية سيطرة بوتين والاستخبارات على روسيا، وكيف خدعا الغرب، على حد قولها.
الكتاب يركز بشكل رئيسي على رجال الأعمال والمسؤولين الأقوياء في قلب الكرملين وما يفعلونه بأموالهم الطائلة وبنفوذهم القوي، وكلهم تقريباً سبق لهم العمل مع كيه جي بي، كما كتبت Foreign Policy.
تقول الكاتبة إن علاقة هذه الأعمال بالدولة الروسية انكشفت خلال تفشي جائحة “كوفيد 19″، حيث بدأت السلطات تعتمد على هؤلاء الأغنياء لتوفير عشرات الملايين من الدولارات بهدف تعزيز قدرة نظام الرعاية الصحية.
وتذهب الكاتبة لأكثر من ذلك حين تقدّر أن لرجال بوتين نحو 800 مليار دولار مخبأة في حسابات مصرفية خارجية.
صعود النخبة الاقتصادية الجديدة في خدمة بوتين
فور توليه السلطة شرع بوتين في تأسيس “الظهير الاقتصادي” لنظامه، عبر شبكة من رجال الأعمال الأكثر ثراء في البلاد. وعلى مر السنوات استقر بعضهم بجانبه كحلفاء يتبادلون المصالح معه.
ويتبع بوتين سياسة إبرام العقود مع موردين من القطاع الخاص في كل القطاعات، مثل البنية التحتية والدفاع والرعاية الصحية.
هكذا صنعهم؛ لأن دورهم سيأتي عندما يطلب منهم رد الجميل.
هكذا أثرى بوتين فئة جديدة من الأوليغارشية الذين أصبحوا يدينون له حتى الآن بثرواتهم الهائلة.
الأوليغارشية، أو الأوليغاركية باليونانية، هي حكم الأقلية، وبحسب الموسوعة البريطانية، هي حكم أقلية ذات سلطات استبدادية تمارسها مجموعة صغيرة لأغراض فاسدة أو أنانية. بعبارة أخرى فإن الأوليغارشية تعني تحكم القلة في مصائر الأغلبية من خلال احتكار القرار السياسي في يد فئة محدودة ثرية من المجتمع.
ساعدت هذه الأوليغارشية الرئيس بوتين على البقاء في السلطة بسكوتها السياسي ودعمها الاقتصادي، كما استخدم بعض رجالها ثرواتهم لتقديم قروض أو تبرعات والتأثير على سياسيين في بلدان أوروبية أخرى.
أما دورهم في حرب أوكرانيا فلم تتضح تفاصيله بعد، غير أنه من المنطقي أنهم يدعمون سيد الكرملين سراً بما يشاء، كما حوّل أنهار الثروات إليهم ذات يوم.
وهؤلاء هم رجال “المنطقة المحظورة”
قبل أسابيع من نهاية 2021 نقلت تقارير صحفية عن مصدر بالكونغرس، أن إدارة الرئيس جو بايدن تواجه أزمة في فهم النوايا الروسية، وأن هذا يسلط الأضواء مجدداً على ما يسميها الإعلام الغربي “الدائرة المقربة” للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ودورها في تحديد سياسات الدولة الداخلية والخارجية.
المصدر “المطلع” على خبايا عالم الاستخبارات، أوضح أن عمل الاستخبارات قد ازداد صعوبة بالتدريج، وبات يقترب مما يمكن وصفها بـ”المنطقة المحظورة”.
والمقصود “بالمنطقة المحظورة” الدائرة الضيقة للرئيس بوتين التي تلعب دوراً مباشراً في تحديد التوجهات الأساسية للسياستين الداخلية والخارجية للاتحاد الروسي.
يحصر المراقبون الدائرة الضيقة من رجال الأعمال حول الرئيس الروسي في عدة شخصيات تؤثر في إستراتيجية عمله المحلية والدولية، هنا أبرزها.
نيكولاي باتروشيف..
رجل المواجهة مع الغرب
هو الآن رئيس مجلس الأمن في الاتحاد الروسي منذ 2008، بعد تدرج صاعد في المناصب داخل جهاز الاستخبارات.
مؤسسة مينتشينكو كونسلتنغ الروسية المتخصصة في دراسة وتحليل اللوبيات وتقدير مخاطر السياسات نشرت تقريرا في 2021 عن الدائرة المقربة لبوتين تحت عنوان “المكتب السياسي والموجة المضادة للمؤسسات” التي تؤثر في صنع القرار بالكرملين.
رصد التقرير ازدياد نفوذ ومكانة باتروشيف في الدائرة الضيقة لبوتين، بسبب التأثير المتزايد للمجلس على تنظيم الصناعة، والاقتصاد عامة. فالمجلس هو الجهة المسؤولة عن حماية السرية في قطاع التصنيع، على ضوء تصاعد المواجهة بين روسيا والغرب.
إيغور سيتشين..أقوى رجال النفط
رئيس إحدى أكبر شركات النفط في العالم روسنفت Rosneft.
سيتشين هو أحد أقرب المقربين لبوتين، فهو ظله وعيناه وذراعاه، ودماغه خاصة عندما يطلب الدعم في تطوير “وزارات القوة” كالدفاع والأمن.
هو أحد أقوى الرجال في روسيا. وكان يتمتع بمكانة أفضل في جهاز كي جي بي، مخابرات الاتحاد السوفييتي، مقارنة ببوتين نفسه. ثم عمل معه منذ أوائل التسعينيات في مكتب عمدة سان بطرسبورغ، قبل أن يتبعه إلى موسكو، وواصل العمل مساعداً للرئيس ثم نائباً لرئيس الوزراء.
تقلد العديد من الوظائف المهمة قبل 2012، حين أصبح مدير “روسنفت”، ثالث أضخم شركة في روسيا، ورئيس مجلس الإدارة فيها منذ 2021 هو المستشار الألماني السابق غيرهارد شرويدر.
وتحت قيادة سيتشن، أصبحت روسنفت دولة داخل الدولة، بربع مليون موظف وإيرادات تصل إلى 65 مليار دولار أمريكي.
لقد كان لسيتشن على الدوام خط مباشر مع بوتين، والعديد من الروس كانوا يفترضون أنه أيضاً عين وأذن جهاز الأمن الفيدرالي على قطاع الموارد الطبيعية، الذي يشكل جوهر الاقتصاد الروسي، ومركز شبكات القوى الفاسدة في البلاد.
أركادي روتنبرغ..مساعد سابق لبوتين
ملياردير روسي، وصديق الطفولة لبوتين، في عام 1964 بدأ بممارسة المصارعة ثم الجودو بنفس المجموعة مع فلاديمير بوتين.
في أوائل التسعينيات عمل مساعداً لبوتين الذي كان في ذلك الوقت رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مجلس مدينة سان بطرسبورغ، قبل أن يصبح رئيساً لاتحاد الهوكي.
في عام 2009 وبدون مناقصة حصل روتنبرغ على عدة عقود من شركة غازبروم لبناء خط أنابيب للغاز، وهو أحد المدعى عليهم في “ملفات بنما” لاتهامه بانتهاكات مالية وقانونية، وهو أيضاً مدرج ضمن قائمة العقوبات الأمريكية.
في 2021 قال إنه مالك القصر الذي اتهم المعارض الموقوف أليكسي نافالني الرئيس بامتلاكه، وجددت السلطات نفي ادعاءات المعارضة.
روتنبرغ باع حصته في شركة لمد خطوط الأنابيب عام 2019 بمبلغ قدّره خبراء اقتصاديون بنحو 990 مليون دولار.
غينادي تيمشينكو..
خزانة المصروفات السرية
هذا الرجل المتواضع الخجول من أكبر أثرياء روسيا بثروة تقدر بـ22 مليار دولار!
وثروته موزعة بين عدة قطاعات مالية، كقصر البحر الأسود ومزارع الكروم.
تيمشينكو التقى بوتين في أوائل التسعينيات في سان بطرسبورغ، وعمل بتجارة النفط وجنى أرباحاً هائلة.
وتيمشينكو هو الرجل الذي جلب شركة توتال الفرنسية إلى السوق الروسية، وهو عضو في المجلس الاقتصادي لغرفة التجارة والصناعة الفرنسية الروسية الذي أصبح من أكثر مجموعات الضغط نشاطاً لرفع العقوبات عن روسيا.
يحمل الجنسيتين الروسية والفنلندية، وفي عام 2014 احتل المركز الثالث في الحصول على مناقصات حكومية.
سيرغي تشيميزوف..رجل صناعة السلاح
تشيميزوف هو أحد أغنى الأشخاص في روسيا، بعد أن عيّنه بوتين عام 2007 رئيساً لشركة روستيخ العملاقة التي تشرف على أكثر من 700 شركة.
كان عميلاً للمخابرات السوفييتية KGB في ألمانيا الشرقية وزميلاً في المكتب لبوتين، حيث بدأت صداقة لا تنتهي. وانتقل بين عدد من المناصب العليا في الشركات التي تملكها الدولة الروسية.
تشيميزوف كان المفاوض الرئيسي لصفقة حاملات الطائرات “ميسترال” بين روسيا وفرنسا، لكنه يخضع الآن لعقوبات أمريكية وأوروبية.
نيكولاي شامالوف
طبيب أسنان ورجل أعمال روسي مولود في بيلاروسيا، وأصبح بين كبار الأثرياء بعد امتلاكه حصة في بنك روسيا.
من عام 1993 إلى عام 1995، عمل في لجنة العلاقات الخارجية في مكتب عمدة سانت بطرسبرغ.
وكان فلاديمير بوتين رئيسه في العمل.
ثم أصبح شامالوف مساهماً في شركة بتروميد التي أنشئت بدعم من لجنة العلاقات الخارجية التي ترأسها بوتين لاحقاً. وعلى مدى سنوات عديدة، تلقت بتروميد أموالاً من الدولة لشراء معدات طبية بطريقة يشوبها الكثير من المحاباة، كما طالب بوتين أيضاً أثرياء
الروس بتقديم مساهمات خيرية إلى بتروميد.
وهكذا أهدى بوتين لصديقه كل أسباب الثراء الفاحش دون جهد.
وأصبح ما يربط الاثنين أكثر من المصالح وتبادل المنفعة، بل نشأت بينهما صداقة عائلية، وهناك تقارير عن عطلات مشتركة للعائلتين في أوروبا.
ويخضع نيكولاي شامالوف للعقوبات الأوروبية منذ عام 2014، وذلك لأنه حسب تفسيرات ورقة العقوبات، “يستغل علاقاته مع صناع القرار الروس، وهو ثاني أكبر مساهم في بنك روسيا”، حسب ورقة العقوبات
ونشرت وزارة الخارجية البريطانية قائمة الشخصيات الروسية الذين شملتهم العقوبات الحكومية على خلفية الحرب في أوكرانيا، وبلغ عددهم 18 شخصاً، بينهم 7 من أغنى رجال الأعمال الروس الذين لديهم ممتلكات أو استثمارات مالية في بريطانيا أو لهم أصول مالية تمر عبر الحي المالي في لندن.
مجموع ما حُجز عليه من أموال رجال الأعمال الروس يتجاوز 19 مليار دولار، بين حسابات بنكية وعقارات واستثمارات.
شملت العقوبات أليشر أوسمانوف صاحب الثروة التي تفوق 17.6 مليار دولار، وتصفه بريطانيا بأنه الرجل الذي يساعد بوتين على حل كل مشاكله المالية في البلاد.
ورومان أبراموفيتش، مالك نادي “تشيلسي” اللندني، فهو المتضرر الأكبر من هذه العقوبات، بدءاً بالحجز على ناديه الذي تبلغ قيمته السوقية 4 مليارات دولار تقريباً، فضلاً عن قصر فخم في لندن تفوق قيمته 160 مليون دولار، وممتلكات أخرى.
والملياردير أوليغ ديريباسكا صاحب شركة روسية للطاقة وUC Rusal التي تعدّ من أكبر شركات العالم في إنتاج الألمنيوم، ويخضع لعقوبات أمريكية منذ سنة 2018. وتقول الحكومة البريطانية إن أوليغ من الذين يقدمون كثيراً من المساعدات للجيش الروسي، وحسب التقديرات الحكومية فإن الرجل يملك عقارات تقدر قيمتها بعشرات الملايين من الدولارات.
وديمتري ليبيديف رئيس بنك روسيا، الذي تصفه الخارجية البريطانية بأنه البنك الخاص بالكرملين، الذي يقوم عن طريقه بكل عملياته
المالية.
الثلاثة الكبار
الدفاع الذي صعد بعد عملية القرم في 2014.. والمفكر الذي ألهم بوتين “العقيدة الأوراسية”.. وكافشناك، الصديق الدائم والأقرب
شويغو..
وزير الدفاع الذي أعاد للجيش الروسي “هيبته”
يعتبرونه “ولي العهد” الدائم، وأحد القلائل في الدائرة الأولى للسلطة، الذين كان لهم نفوذ كبير تحت حكم بوريس يلتسين، في نهاية التسعينيات، وتحت حكم بوتين.
الفريق أول سيرجي شويغو هو وزير الدفاع منذ عام 2012، أحد نجوم الإعلام الرسمي الموجه من الدولة، إلى حد الاحتفال بعيد ميلاده، بوصفه الرجل الذي حقق مع الجيش الروسي “نقلة نوعية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى”، وذلك باعتراف العالم أجمع، لأنه عمل على تطوير وتحديث للجيش الروسي بأكمله، وزادت القوة العسكرية ثلاثة أضعاف.
هو الوزير السابق لشؤون حالات الطوارئ، ولعب دوراً مهماً في انتصار روسيا بالصراع المسلح في أوسيتيا الجنوبية خلال رئاسة ميدفيديف، وفي تعافيها من الأزمة الاقتصادية العالمية.
اكتسب شويغو شعبية قومية بعد بداية الألفية، أثناء إدارة وزارة حالات الطوارئ، ومنذ ذلك الحين ظهر بشكل بارز بوصفه منقذاً في زي عسكري، وبدا نشيطاً في مقدمة مسيرات النصر.
وتولى في عام 1994 وزارة أطلق عليها “وزارة الطوارئ والدفاع المدني وإزالة آثار الكوارث الطبيعية في روسيا الاتحادية”، وبعد ذلك ظهرت هيئات للطوارئ في أوروبا اقتدت بخبرات وزارة الطوارئ الروسية، حسب الإعلام الرسمي.
تولى إصلاحات مهمة في مجال تنفيذ القوانين، وأطلق حملة لمكافحة الفساد، وهو من أقوى الشخصيات في المشهدين العسكري والسياسي في روسيا، ويعد مرشحاً قوياً لخلافة بوتين، وهو أيضاً وزير الدفاع الذي جاء للمنصب دون خبرة عسكرية سابقة، كان عضواً في الحزب الشيوعي، بدأ مسيرته السياسية في نهاية الحقبة السوفييتية، لكنه الآن عضو المجلس الأعلى لحزب “روسيا الموحدة” الحاكم.
شويغو يفتقر أيضاً إلى خبرة الأجهزة الاستخباراتية، على عكس العديد من المقربين من بوتين.
وفي عهد شويغو حظي الجيش بهيبة هشة، وكان ضعيف الشأن، بعد إخفاقات أفغانستان وحربين فوضويتين دمويتين في الشيشان خاضهما الجيش بمعدات عسكرية عفا عليها الزمن تعود إلى الحقبة السوفييتية.
في الواقع، كان شويغو خريج هندسة، وهو لم يخدم قط في الجيش، ولم يتمتع بسُمعة طيبة بين القيادات العسكرية. كما أن أسلوبه الفظ والمباشر في القيادة لم يجعله محبوباً في أوساط الحرس القديم.
تبنّى شويغو ابتكارات ذات تقنية عالية، ودمج القوة الجوية والقوة الفضائية مع “القوات الجوية الفضائية الروسية” الجديدة، ورفع رواتب الضباط.
وجعل من المستحيل تقريباً على الشباب الروسي تجنب الخدمة العسكرية.
ثم نجح في الاختبار الميداني الأول عام 2014، عندما اندلعت ثورة “الميدان الأوروبي” في كييف، وفشل التدخل الروسي “الأمني”. وقتها لجأ بوتين إلى الجيش، وتحت قيادة شويغو، جرى ضم شبه جزيرة القرم بسرعة وكفاءة. وأظهر شويغو أن الجيش يمكن أن ينجح حيث فشل جهاز الأمن الفيدرالي.
وكان الاختبار الثاني على الأرض السورية، حين حضر الجيش الروسي لتنفيذ تدخل عسكري حاسم في خريف 2015. وبتكلفة منخفضة نسبياً للقوات الروسية نفسها، قلب الجيش بسرعة مسار الحرب.
كوفالتشوك..صديق العائلة والرجل الثاني في البلاد
من التفاصيل المثيرة للاهتمام عن حرب أوكرانيا، ما رواه صحفي روسي عن أن بوتين اتخذ قرار الغزو بعد عزل نفسه عن محيطه لشهور عديدة.
كان ذلك في ربيع وصيف عام 2020 في مقر إقامته في فالداي الروسية، في منتصف الطريق تقريباً بين موسكو وسانت بطرسبرغ.
كان يرافق الرئيس الروسي في هذه العزلة شخص واحد فقط: يوري كوفالتشوك.
وصفت وزارة الخزانة الأمريكية كوفالشوك Yury Kovalchuk بأنه “أمين صندوق بوتين”، وهو شخصية رئيسية، يمكن العثور عليه في كل منعطفات تمويل قصر البحر الأسود وفي النظام المالي بأكمله، وهو يرافق بوتين والمقربين منه.
حصل على درجة الدكتوراه في الفيزياء والتكنولوجيا، وكتب أكثر من مئة بحث علمي، وحائز جائزة الدولة لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية في العلوم والتكنولوجيا.
بداية من عام 1991، شهدت مسيرة الرجل تحولاً جذرياً.
وكان مفتاح التغيير الكبير تلك العلاقة الوثيقة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتي بدأت في مطلع ذلك العام.
لاحقاً، في العام نفسه، أصبح كوفالتشوك قريباً من بوتين رئيساً مستقبلياً لروسيا، فشارك في إعادة تأسيس بنك روسيا، وتنظيم العمل فيه خدمةً لأعضاء الحزب الشيوعي الحاكم و”كي جي بي”.
ازدهرت أعمال كوفالشوك بمجرد تنصيب بوتين في الكرملين، فاستحوذ بنك روسيا الذي يديره على بعض أصول شركة غازبروم 2004، وصفقات أخرى بسعر مقوم بأقل من القيمة الحقيقية.
وتبلغ ثروة كوفالشوك وفقاً لتقديرات صحفية 2.4 مليار دولار، وقد أدرج منذ عام 2014 في قائمة الأشخاص الخاضعين لعقوبات الاتحاد الأوروبي.
الصحفي الروسي المستقل ميخائيل زيغار Mikhail Zygar، مؤلف الكتاب المعروف “كل رجال الكرملين”، يعتبر أنه بحلول عام 2020، تمكن كوفالتشوك من إثبات نفسه باعتباره الرجل الثاني بحكم الأمر الواقع في روسيا، والأكثر نفوذاً بين جميع المقربين من الرئيس.
كوفالتشوك معروف بتأييده نظريات المؤامرة المعادية للولايات المتحدة. هي نظرية باتت موجودة لدى بوتين أيضاً على ما يبدو وفق مقال زيغار في New York Times.
منذ صيف عام 2020، أصبح بوتين وكوفالتشوك لا ينفصلان تقريباً.
يخطط الاثنان معاً لاستعادة عظمة روسيا.
بوتين وكوفالتشوك يعتقدان أن الغرب استغل ضعف روسيا في تلك الفترة لدفع حلف الناتو إلى أقرب مكان ممكن من حدود البلاد.
اليوم يعتقد بوتين، مثل ظله الأمين كوفالتشوك، أن روسيا في وضع تاريخي فريد يمكنها من خلاله أن تتعافى من سنوات الذل التي بدأت بسقوط الاتحاد السوفييتي.
دوغين..العقل المدبر والتوأم الفكري للرئيس
بنظارته الطبية ولحيته التي تجعله قريباً من رجالات الرهبنة الأرثوذكسية الروسية التقليدية، يطلّ ألكسندر دوغين على روسيا والعالم منذ نحو عقدين من الزمن بأفكاره التي تجعل منه شريكاً أيديولوجياً في حكم روسيا، ولو من وراء الستار.
مفكر سياسي، ومنظر استراتيجي، ومتصوف سلافي، من مواليد عام 1962. درس الفلسفة، وحصل فيها على درجة الدكتوراه، ثم على الدرجة نفسها في مجال العلوم السياسية.
تبدو جذور دوغين الروسية الأرثوذكسية واضحة للعيان، الأمر الذي لا يبذل مجهوداً كبيراً في مواراته أو مداراته، عبر كتبه وتحليلاته المعمقة، وحتى يكاد المتابع له أن يظن أنه من أنصار “مدينة الله”، في مواجهة “مدينة العالم”.
مع وصول بوتين إلى الحكم عام 2000، انتقل دوغين من صفوف المعارضة إلى معسكر المنافحين والمدافعين عن “روسيا الجديدة”، وكانت “العقيدة الأوراسية” هي كلمة السر.
طبقاً لهذه النظرية فإن أوراسيا كيان يمتد من أطراف المحيط الأطلسي غرباً، إلى جبال الأورال شرقاً في روسيا، وتشمل القارة الأوروبية والآسيوية بما فيها أجزاء من إفريقيا والشرق الأوسط.
وترى النظرية أن هذه البقعة الشاسعة هي مهد الثقافة والحضارة الإنسانية، كما تعتبر القِيم الغربية الليبرالية والاقتصاد المفتوح خطراً ينبغي مكافحته.
القيم الغربية مرفوضة لأنها ثمار حضارة مرفوضة.
الحضارة الغربية متعثرة ولا تمثل مشتركات بشرية حضارية، وكل محاولاتها للتحديث والنهضة تسير وفق مصالح غربية تقوّض إرادة الدول المتوسطة والصغيرة، وتستغل حاجاتها وتستنزف مواردها، كما يقول أنصار النظرية.
الرائد الأكبر للنظرية هو دوغين الذي أصبح صديق بوتين المقرب وأصدر عام 1998 مانيفيستو النظرية في كتاب بعنوان “مستقبل روسيا الجيوبولتيكي”.
وأصبحت النظرية خط الدفاع الأول الذي التزم به بوتين ضد أمركة العالم.
ضد التسليم بانهيار الإمبراطورية السوفييتية مجاناً، والتفوق الأمريكي وتصدر زعامة العالم الرأسمالي ووراثة مستعمرات الإمبراطوريات القديمة.
ضد الاجتياح العجيب للعالم بأسره من طرف القوى الصناعية الغربية بعد الانهيار السوفييتي.
بوتين بدأ في تطبيق العقيدة الأوراسية بغزو أوكرانيا
“العقيدة الأوراسية” التي طوّرها دوغين وبوتين ترتكز على قاعدتين أساسيتين:
الأولى: بناء الشراكات والتقارب مع قوى مناوئة أو متوجسة من النفوذ الأمريكي.
الثانية: توسيع أراضيها التي تشكل قوساً جغرافياً استراتيجياً، وتضم أراضي شاسعة فيها مخزون من أكبر مخازن الثروة الباطنية في العالم.
تفرغ دوغين في العقدين الأخيرين لشرح وإثبات النظرية، بينما بدأ بوتين في تطبيقها على الأرض.
اعتنق بوتين رؤية دوغين التي تقدّم نموذجاً جديداً خارجاً عن الشيوعية والليبرالية والفاشية.
نظرية تقول بحق الجميع في الحياة والشراكة، لفرد كان أو طبقة، لأي صاحب عرق أو دين.
نظرية تسعى إلى حماية الوجود من التصرفات المؤدلجة التي نعيشها في المجتمعات التي تشبه المسرحيات.
وعندما تحدث بوتين عام 2007 في مؤتمر ميونيخ، كان يترجم نظرية دوغين، حين طالب بعالم أكثر عدالة ومساواة.
عالم غني بفرص متكافئة لجميع البشر.
عالم لا يلوثه زيف “القطب الواحد المتشدق بالنظام العالمي الوهمي الجديد”.
ظهر أثر نظرية دوغين واضحاً في مطالبات بوتين بعالم متعدد الأقطاب، تتحاور فيه الحضارات وتتجاور، لا تتصارع.
كان لدوغين تأثير ما في بوتين لجهة التدخل وبقوة “اليد المميتة” في سوريا، كما يبدو جلياً في مقال له نشره باللغة الألمانية قبل بضعة أعوام.
هو يرى أن تنظيم داعش “منتج أمريكي” يمثل خطراً مباشراً على روسيا، قد يصل إلى حدودها ذات يوم.
ويرى أن انهيار سوريا، سيولّد انهيارات متتابعة، تفتح باب الفوضى غير الخلاقة، وتدفع مئات الآلاف وربما الملايين من اللاجئين صوب أوروبا، ما يبطل الطرح الأوراسي.
ما يخص الأزمة الأوكرانية، لا يوجد سوى حل واحد لهذا الوضع في رأي دوغين: تقسيم أوكرانيا إلى قسمين، الضفة اليمنى الغربية لأوكرانيا، ونوفوروسيا، مع وضع خاص لكييف.
وجمهورية نوفوروسيا أو روسيا الجديدة الاتحادية هي اتحاد كونفدرالي لمقاطعتين انفصاليتين من أوكرانيا أعلنتا الاستقلال، هما لوغانسك ودونيتسك، ولم يعترف بهما سوى موسكو.
من يعتقدون في قوة تأثير دوغين على عقل بوتين ينتظرون هذا الطرح رسمياً على لسان سيد الكرملين، بعد أن تصمت المدافع، بناء على “التماهي الفكري” بين الرجلين.
التوأم الفكري للرئيس قال مرة إن “العالم أقرب الآن إلى الحرب العالمية الثالثة من أي وقت مضى”.
فهل هي معلومة أخرى يتقاسمها مع بوتين، أم أن هناك خطوات يستعد لها بوتين في المستقبل القريب، لوضع “النظرية الأوراسية” موضع التنفيذ على الأرض، حتى لو كان ذلك بالقوة!
اقرأ ايضاً:حلف العقبة واحتواء سوريا.. هل ينجح؟