هل سألت نفسك ذات مرة لماذا لا يمل جمهور التلفزيون والسينما، والأدب بالطبع، متابعة حكايات السطو على البنوك والسرقات الدولية الكبيرة؟ هذا تساؤل أساسي حول نجاح تلك الأعمال، ربما لأنها لا تزال تشغل عقول الجمهور ذاته أكثر من الكتّاب في العمل الأسطوري سريع النجاح ومحقق الأحلام.
لكن ماذا لو كانت الحكاية هذه المرة من بين المرات التي تسرد الحقيقة دون خيال؟
من وقت لآخر يمكن أن نصطدم ببعض الأعمال الفنية سواء المكتوبة أو التلفزيونية والسينمائية التي تعيد إلى الجميع التساؤلات حول معنى النقد والكتابة المبنية على مشاهدة وقراءة هذه الأعمال، وربما من بين تلك الأعمال الملهمة يمكن الإشارة إلى وئاثقي “نتفليكس” (Netflix) الأخير “دي بي كوبر أين أنت؟” (D.B. Cooper: Where Are You).
السرديات العديدة التي تناولت القصة على مدى 50 عامًا لم تحظ بنتيجة ملموسة حول ماهية البطل الغامض، وربما يضعها ذلك أمام نقطة ضعف تجعلها تتجاوز النقد والكتابات التي تكتب عن القصة باعتبارها متكررة دون جديد، ونقطة قوة تقدمها كقصة لم تفقد بريقها بعد ولا يزال فيها ما يدعو للمقامرة والتأويل.
بدأت القصة خلال عشية عيد الشكر في عام 1971 حين دخل رجل وصفته السلطات بعد ذلك بأنه كان يرتدي بدلة أنيقة ونظارة شمسية سوداء تمامًا إلى المطار ليشتري تذكرة ذهاب فقط في رحلة إلى مدينة سياتل الأميركية تحت اسم دان كوبر.
بعد الصعود على متن الطائرة، وضع في يد مضيفة الطيران رسالة مكتوبا فيها أن بحوزته متفجرات في حقيبته، ليتمكن خلال ذلك من اختطاف الطائرة دون التسبب في إصابة أي راكب على متنها بعد أن طلب فدية قيمتها 200 ألف دولار، نزل الخاطف من الطائرة بالمظلة ومعه الأموال بعد أن استجابت السلطات الأميركية لطلبه، واختفى دون رجعة منذ ذلك الحين.
بعد 50 عاما أو يزيد لم يقترب مكتب التحقيقات الفدرالي “إف بي آي” (FBI) خطوة من أجل التعرف على الهوية الحقيقية لخاطف الطائرة أو مصيره، غير أن وثائقي نتفليكس “دي بي كوبر أين أنت؟” أخذ هذا الدور، إذ تعمّق أكثر في تفاصيل القضية التي لم يتم حلها بعد، ويكشف أبرز المشتبه فيهم والنظريات التي تم طرحها.
قصة مشوقة تمامًا لغالبية من يسمعها، وربما سيقرر السامع والقارئ فورًا أن يتتبع خطاها إلى آخر كلمة على ما يبدو، وربما للسبب ذاته استغلت الثقافة الأميركية هذا الحدث بما يليق بمجتمع استهلاكي، كتبت حوله كتابات عديدة أدبية وصحفية وكتب مصورة للأطفال وألعاب فيديو هو بطلها الأساسي في حدوتة تحاكي الحدث ذاته.
لماذا جذبت قصة كوبر الكثيرين؟
لماذا تطرح القصة تساؤلات الكتابة عنها؟ ببساطة لأنها قالت كل شيء، تجعل الكتابة عنها ربما شيئا شديد الصعوبة، فيما عدا شذرات رمزياتها التي تنسحب على المجتمع الأميركي كله.
وفي العديد من الاستفتاءات التي تمت، أظهرت غالبية المجتمع الأميركي إعجابًا شديدا بالرجل الذي هزم الشرطة وتحايل على المجتمع والقانون دون أن يلقى أي مصير، الغضب المكتوب الذي يعيشه عدد غير قليل من المجتمع الأميركي غير المعروض على الشاشات يفهم جيدا مدى شاعرية ما حدث، وربما يتمنى لو أمكنه صنعه في سياق مختلف للتحايل على القوانين التي يراها مجحفة بحقه عمومًا وأنها في صالح الأغنياء فقط.
تبدأ السلسلة التي تُعرض على مدى 4 حلقات متوسطة الطول، من رجل استثمر أمواله الشخصية من أجل التحقيق في هوية كوبر على مدى أكثر من 10 سنوات فقط لإيمانه بادعاء أحد أصدقائه أنه يعرف رجلا يزعم معرفته بالرجل الغامض (كوبر).
على مدار الحلقة الأولى نشاهد جيدًا تمهيدا دراميا وتسجيليا في آن واحد عن مدى غموض الرجل الذي انتشرت قصته في السبعينيات كأشهر رجل في أميركا، ثم تبدأ حركة الجميع في عرض مجهود سنوات البحث العشر على الشاشة منذ الحلقة الثانية.
قصة أسطورية
القصة كما تحمل تأويلا للمجتمع الأميركي وخيالاته المكبوتة، تحمل أيضا قضايا فرعية مهمة، دون أن تهتم كأغلب القصص الأسطورية التي تتفجر أهميتها في كل جانب من شدة صدقها؛ على سبيل المثال سنواجه ما كان يحدث من تحرشات للمضيفات في الطائرات بشكل واضح وعلني دون أن يلتزم أحد بمواجهته كما يجب آنذاك.
كذلك مدى أخلاقية التسجيل أو التشهير -كما يعتبره البعض- مع أصدقاء وأقارب المشتبه به في سياق حكاية تلفزيونية قد تضر بمساحات حركاتهم وعملهم في المجتمع، لذلك لجأت السلسلة أحيانا إلى حجب وتغطية صور بعض الأشخاص أحيانا للحفاظ على سلامتهم الأمنية، ولعدم إلحاق الضرر بهم.
تنقلت السلسلة تسجيليا في حياة الرجل منذ نشأته حتى لحظة اتهامه في 2021 مباشرة بشكل حدسي دون إثبات قانوني واضح، وربما شغلها ذلك عن صناعة معادل درامي يغلب عليه بعض الخيال قد يساعد في عرض القصة بشكل أكثر تشويقًا تلفزيونيا دون ملل معلوماتي يتسبب فيه العرض التقريري للأحداث.
كوبر رجل شغلت تجربته خيال الأطفال والكبار على مدى سنوات، حيث صنعت أدوات التسلية أمورا تزيد من تشويق القصة الأسطورية للرجل، في حين اختارت السلسلة الطريق الصعب في تتبع مسيرة أشخاص بأعينهم على اعتبارهم الأكثر شبها، وصولًا إلى رجل تنطبق عليه كافة المواصفات لصناعة عمل جيد عن رجل أسطوري.
المصدر : الجزيرة
اقرأ أيضا: من هو رجل الاعمال المتورط.. وما وراء إعفاء مدير ألبان دمشق..؟