في عام 1897، نشر الكاتب الأيرلندي، برام ستوكر، روايته «دراكولا»، والتي تتحدث عن مصاص دماء يستيقظ ليلًا ليبحث عن ضحايا جدد يفتك بهم بطريقة وحشية، وقد نالت شخصية دراكولا شهرة واسعة في أدب الرعب، وجرى تجسيدها في عدة أعمال فنية، وخلدت اسم كاتبها إلى اليوم. لم تكن شخصية دراكولا بنت خيال برام ستوكر تمامًا، فأصل الاسم يعود إلى أمير روماني عاش في القرن الخامس عشر الميلادي، وعرف عنه الفتك بضحاياه بأساليب وحشية.
أخوه تحول للإسلام.. بداية دراكولا من قصور العثمانيين
في أوائل القرن الخامس عشر الميلادي، أخذ ملك المجر سيجسموند فون لوكسمبورج على عاتقه تكثيف جهود الأمراء المسيحيين في أوروبا، وتوجيهها لما عدُّوه «الدفاع عن الصليب»، بمعنى الوقوف بوجه طموحات الإمبراطورية العثمانية، التي كان على رأسها في ذلك الوقت السلطان مراد الثاني، وقد أسس ملك المجر «منظمة التنين Order of Dragon»، التي ضمت كبار الأمراء والأرستقراطيين الأوروبيين، وكانت مهمتها مكافحة التغول العثماني في المناطق الأوروبية.
وكان الأمير فلاد الثاني، حاكم مقاطعة والاشيا على البحر الأسود، والتي تمثل أحد مناطق الجمهورية الرومانية الحالية- أحد أعضاء المنظمة التي تراجع نشاطها بعد وفاة سيجسموند عام 1437م، وسيشتهر فلاد الثاني في التاريخ باسم «فلاد التنين Vlad the Dragon» أو «فلاد دراكول Vlad Dracul»، لكن شهرته الأكبر ستأتي من كونه والد أحد أكثر الشخصيات دموية عبر التاريخ، وهو فلاد الثالث، الذي سيحمل اسم «فلاد دراكولا Vlad III Dracula»، أي «ابن التنين» أو ما سيُصطلح عليه في الرومانية الحديثة بـ«ابن الشيطان».
وقعت والاشيا في ذلك الوقت بين مطرقة العثمانيين وسندان المجر، وهو ما جعل فلاد الأب متقلبًا في تحالفاته في محاولة لحفظ ملكه، فيعادي الأوروبيين حينًا ليوالي العثمانيين، ثم لا يلبث أن ينقلب على العثمانيين ليمد يد العون لخصومهم، وهو ما جعله مصدرًا لشكوك السلطان العثماني مراد الثاني.
في عام 1442، دُعي فلاد الأب إلى اجتماع دبلوماسي مع السلطان مراد الثاني، وكان معه ابناه الصغيران فلاد الثالث ورادو، وكان ذلك مجرد فخ، حيث تم القبض على الثلاثة قبل أن يطلق سراح الأب بشرط أن يترك وراءه ابنيه رهائن، لضمان ولاء فلاد الأكبر في الحرب الدائرة بين العثمانيين والمجر.
برغم المعاملة الجيدة التي تلقاها فلاد الثالث وشقيقه في القصور العثمانية، حيث تلقيا دروسًا في الفلسفة والفنون والعلوم، فإن سنوات الاحتجاز لم تزد فلاد الثالث إلا حقدًا وغضبًا على العثمانيين، وعلى عكس شقيقه الذي ألِف الحياة العثمانية وتحول إلى الإسلام، نمت العداوة في نفس فلاد الابن، الذي صار بعد ذلك فارسًا ومحاربًا ماهرًا.
في عام 1448م، قُتل فلاد الثاني على يد مجموعة من الأمراء في والاشيا بدعم من القائد المجري يوحنا هونياد، وقتل ابنه البكر ميرسيا من بعده، وخاف العثمانيون من أن تقع والاشيا في أيدي المجريين، فأطلقوا سراح فلاد الثالث، وسيروا جيشًا وضعه على رأس الحكم في والاشيا، لكن مُلك الفتى الشاب لم يدُم طويلًا، حيث أطاحه المجريون بقيادة يوحنا هونياد.
«حتى تحترق النجوم».. دراكولا يتفنن في حرب العثمانيين
في السنوات اللاحقة سيغير فلاد بوصلته، حيث سيتخلى عن التحالف مع العثمانيين، وسيمد يديه إلى ملك المجر لاديسلاس الخامس، الذي سيعينه على خصومه، وسيساعده على استعادة عرش والاشيا، وعلى طريقة مذبحة القلعة التي نفذها محمد علي بعد ذلك بقرون بحق مماليك مصر، أقدم فلاد لتثبيت سلطته الجديدة، على دعوة أمراء والاشيا المتصارعين، والمزعجين إلى مأدبة، وقتلهم جميعًا، قبل أن يعلق أجسادهم على «خوازيق» حديدية ليكونوا عبرة لمن يريدهم أن يعتبروا.
كانت الإمبراطورية العثمانية في ذلك الوقت في أوج قوتها، حيث نجح السلطان العثماني محمد الثاني الشهير باسم «محمد الفاتح» في السيطرة على مدينة القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية عام 1953، وكانت الجيوش العثمانية المتحمسة مهيأة لاجتياح الممالك الأوروبية، لكن شجاعة فلاد الثالث في مواجهة العثمانيين – حيث كان أول قرار له وقف الجزية السنوية التي كانت والاشيا تدفعها سنويًّا للعثمانيين- قد أكسبته شعبية محلية واسعة ساعدته على اكتساب الثقة.
وضع فلاد الثالث نصب عينيه مواجهة العثمانيين، بكل ما أوتي من قوة، حتى إنه كان القائد الوحيد الذي لبى دعوة البابا بيوس الثاني لشن حملة صليبية جديدة على العثمانيين عام 1459م، وهو ما أكسبه حظوة كبيرة لدى الكنيسة، حتى إنه تحول إلى الكاثوليكية من أجل كسب ود الكنيسة وملك المجر ودفعهم إلى دعمه في حروبه، وكل ذلك ساهم في رسم صورة له لدى الكثيرين بوصفه مؤمنًا وشجاعًا، ودفع الكثيرين لاعتباره بطلًا قوميًّا، وحاكمًا عادلًا، وساقوا له المبررات لأعماله الوحشية بأنها كانت من ضرورات الحرب.
وقف دراكولا بحماسة منقطعة النظير في وجه الإمبراطورية العثمانية بقيادة محمد الفاتح – رغم أن الرجلين وللمفارقة كانا قد قضيا معًا سنوات الشباب الأولى حين كان فلاد محتجزًا في أدرنة- فرفض دفع الجزية للعثمانيين، وحين بعث السلطان بعض رسله إلى والاشيا قوبلوا بمعاملة مهينة من دراكولا حين رفضوا خلع عمائمهم، بوصفها من عاداتهم الدينية، يُحكى أن فلاد قد أشاد بسخرية بإخلاص الرسل لدينهم، قبل أن يأمر بقطع رؤوسهم وتثبيت العمائم على الجماجم في دلالة واضحة.
«احتراق نجم دراكولا»
إلى جانب لقب «دراكولا»، اشتهر فلاد الثالث في التاريخ باسم «فلاد المخوزِق»؛ بسبب اعتماده أسلوب «الخوزقة» ضد ضحاياه، الذين كان يعلق أجسادهم على أعمدة حديدية، ومن الحوادث الشهيرة أنه أرسل السلطان العثماني محمد الثاني قوة بقيادة حمزة باشا إلى والاشيا، فتصدى لهم دراكولا وقتلهم بوحشية، وأمر جنوده بتعليق أجساد الجنود العثمانيين على أسياخ حديدية منتشرة على طول الطريق المؤدي إلى والاشيا، في منظر مهيب مريع لكل من يقصد مدينته في سلم أو حرب.
أدت الأشياء التي ارتكبها دراكولا بحق العثمانيين إلى استثارة الدولة العثمانية؛ فحشد السلطان محمد الفاتح جيشًا كبيرًا وسار بنفسه إلى والاشيا، وفي الطريق إلى العاصمة ترجوفيشت، سيجد الفاتح في استقباله آلاف الجثث من المسلمين معلقة على أعمدة على طول الطريق، في مشهد أراد له دراكولا أن يثير الرعب في قلوب الجيش الغازي.
لكن دراكولا، ورغم جهوده الحثيثة، فشل في حشد الدعم اللازم لصد العثمانيين، فلجأ إلى تكتيكات حروب العصابات، وشن الغارات على القوات الغازية، وحاول في إحدى الغارات اغتيال السلطان محمد الفاتح عن طريق الإغارة على معسكر الجيش العثماني أثناء الليل، ولكنه فشل في ذلك؛ إذ تمكن الجيش العثماني من دخول المدينة، ونصَّب الفاتح رادو شقيق فلاد حاكمًا على والاشيا، ومده بالرجال والعتاد والدعم اللازم لمواصلة القتال ضد دراكولا وفلول جيشه.
تمكن رادو من هزيمة شقيقه فلاد، عبر التحالف مع طبقة الأمراء المحيطة بفلاد، بعد أن جردهم الأخير من امتيازاتهم وفتك بهم، هرب دراكولا إلى ملك المجر ماتياس كورفينوس طالبًا منه الدعم، فلم يلق لديه آذانًا صاغية، بل إن كورفينوس كان متوجسًا منه، فألقى القبض عليه بتهمة «الخيانة»، بعد أن زور خطابًا باسم فلاد إلى السلطان العثماني يدعوه فيه إلى السلام، ليقضي دراكولا في سجنه الجديد قرابة 10 سنوات.
ابتسم الحظ لفلاد مرة أخرى؛ إذ تحسنت علاقته مع ملك المجر، حتى تزوج إحدى أميرات العائلة المالكة، وتوفي شقيقه رادو فجأة، فكانت تلك فرصته للتقدم لاستعادة العرش بدعم مجري، لكن قبضته على السلطة هذه المرة كانت هشة، فبعد أسابيع قليلة تمكن الأتراك من قتل دراكولا، وقطعت رأسه وأرسلت إلى السلطان العثماني في إسطنبول.
رغم الوحشية التي اشتهر بها فلاد في التاريخ، إلى درجة استخدام اسمه أيقونة في قصص الرعب، فإنه لا يزال ينظر إليه في رومانيا بوصفه بطلًا قوميًّا ومناضلًا، حارب من أجل توحيد البلاد والذود عنها، كما يقع تمثال عرشه إلى جانب العديد من الشخصيات الرومانية الشهيرة بمقرِّ عمدة بوخارست، حيث يُعدُّ من الأبطال الكبار في البلاد.
ساسة بوست
اقرأ أيضا: قد لا تصدق كيف عاشت مليارديرة أميركية كانت الأشد بخلاً في العالم